ربما لن يولي الكثير من الناس لموضوع الحرشة كنوع من الغداء الغير معقد في التحضير اهتماما. ربما لن يكون باستطاعة الكثير من الناس فهم قضية الحرشة كأكلة شعبية جد منتشرة على صعيد المعمور من الناحية التراثية و الثقافية و بذلك السياسية والاقتصادية و الاجتماعية. ربما لن يخطر ببال احد أن لسبب انتشار الحرشة و الإقبال الكثيف عليها سر أبعد من الدوق. ربما سيكون من المعقول اقتراح تبديل القولة التاريخية "الخبز و اتاي" ب الحرشة واتاي" في هدا الزمان. و ربما سيكون من باب الخروج عن المألوف قراءة موضوع حول هيرمينوطيقا الحرشة و دلالاتها وأبعادها التراثية و الاقتصادية في هدا الوطن السعيد. "" فمن منا لم يتناول يوما، مثله مثل سائر مساكين هدا الوطن، مثلثا من الحرشة مع كأس أو براد شاي منعنع أو مشبشب (من الشيبة طبعا). من منا لم يقصد إحدى تلك الكراريس أو العلب الزجاجية حيث تباع "رونديلات" من الحرشة يفوق قطرها قطر عجلات الشاحنة و "أفرشة" من المسمن من قياس 1.م/1.م أو أكثر. من منا لم يشتهي يوما، في المغرب طبعا، أيام البرد القارس خصوصا، قطعة من الحرشة دافئة وكاس شاي "تابخ مزيان" ليجلس رفقتهما و يُكمًدَ عظامه. من منا لم يستفق يوما من النوم مشتهيا "شي حرشة سخونة بالزيت البلدية" و "كويس ديال القهوة أو اتاي" ليفطر بهما و ينطلق في الكون نشوانًا كما لو أنه أنجب مفكر وأسعد مخلوق و أفضل شخصية وجدت في الكون. للحرشة نكهة خاصة، ليس فقط كنوع من الفطائر المفضلة لدى العوام من الناس الدين غالبا ما تكون جيوبهم خالية من المال إلا من قليل من "الصرف" أو "الصريف" الذي يتقرقب مع كل خطوة، بل أيضا كنوع من الفطير المشبع الذي يتغلب على الجوع بقوة وقادر على أن يُبْقي من تناول أحد مثلثات الحرشة، خصوصا إذا كان محشوا بالعسل المصنوع من السكر أو الزيت البلدية، ناسيا الجوع لفترة طويلة جدا بإمكانها أن تمتد من الصباح حتى المساء. هدا هو السبب الوجيه الذي جعل من الحرشة النوع الجد مفضل من الفطائر لدى أغلبية الطبقة الكادحة من الناس، إن لم نقل النوع المفضل من الوجبات. فهم في الواقع لا يبحثون عن المتعة في الأكل بقدر ما يبحثون عن حشو الأمعاء بشيء رخيص و غير مكلف و في نفس الوقت قادر على أن يجعلهم ينسون المعدة لأكبر مدة ممكنة. من جهة أخرى، هدا ما أدى إلى انتشار مقاهي الحرشة، و كراجات الحرشة، و مالين الحرشة بشكل كثيف في الدروب و الأزقة و الشوارع التي يرتادها الفقراء و المساكين من الناس. إذا كان الأثرياء طبعا يقصدون الباتيسريات في الصباح الباكر و يشترون ما يحلو لهم من حلويات و فطائر و خبز من عند فتيات لطيفات و أنيقات و أصحاب مخابز يرتدون طابليات و قبعات و لحيتهم مُكرطة جيدا، فان إخوانهم من المزاليط يقصدون مقاهي مظلمة و كراجات عتمة يعمل بها رجال دووا لحى خشنة، و ميزانات وسخة، و أيادي سوداء، و أظافر غير مقصوصة، و أصابع خضراء، حيث تتكلف نساء شاطرات ياتين من البوادي بعملية خلط العجين و طهي الحرشة و المسمن وسط القادورات و في "بانيوات" من البلاستيك و هن مُزيتات من الوجه حتى القدمين، ومع دلك تخرج حرشة هدا المكان مُحمرة و مُجمرة و ألد بألف مرة من كل ما يمكن أن يتواجد بأي باتيسري في المدينة. الحرشة أكلة المزاليط، أما "الكرواسان" و غيره مما لا يشبع البطن و لا يقضي حاجة المساكين فهو طعام الميسورين. إذن فالحرشة ليست أكلة وفقط، إنها أكلة المساكين ليست المفضلة بل المفروضة عليهم كذلك. إنها تلك الفطيرة التي يتناول منها مساكين هده البلاد يوميا مثلثين أو أكثر. لقد صارت جزءا لا يتجزأ من فطور و "كوتي" الطبقة المسحوقة، و أكثر من دلك، لقد صارت عمود حياة الفقراء الغدائي، فماذا هم فاعلون إذا اختفت كراريس و كراجات الحرشة، هل سيعودون إلى السفنج ثانية؟ لا بالطبع لان الحرشة لا بديل لها، و لا غنى عنها، إنها اكتشاف، أو بالأحرى غداء فرضه الواقع البئيس و ارتبط به المساكين و الفقراء الدين هم الأغلبية من الشعب، فصار جزءا لا يتجزأ من الحياة نفسها. للحرشة دلالة طبقية تعني أنها أكلة المزلوط المفضلة، و لها دلالة اقتصادية هي أنها خير غداء لمن ليس بجيبه سوى درهمان أو ثلاثة، كما لها دلالة سياسية هي أنها تلك الأكلة التي تساعد بنسبة عالية على كبح فوران الرؤوس صاحبة البطون الجوعى عن طريق تسكين آلام الجوع لمدة طويلة وبدلك النقص من حدة الغضب و إثارة الفوضى. أما الدلالة الثقافية فهي أن شعبا معظمه يتناول الحرشة على مستوى يومي فهو شعب أحرش، أي أن لديه مناعة عالية ضد مقاومة الفقر و "عوايد الزمان" التي يعاني منها باستمرار، أليست المقولة الشائعة تقول: "الحاجة أم الإبداع"، فما بالكم بقوم أبدعوا أكلة إسمها "الحرشة" وواجهوا بها الزمان المغربي وتقلباته.