تمهيد عندما نتحدث عن مناهج التدريس الحديثة، نجد أن هناك تطورات كبيرة قد حدثت في مجال التعليم على مر العقود الأخيرة. والأكيد أن النقلة التي بدأ يحققها التعليم في العالم، بولوجه عالم الرقمنة، جعلت هذه المناهج تسارع الزمن في استثمار وتوظيف الوسائط الإلكترونية، من خلال تعزيز تفاعل التلاميذ والطلاب معها. وهنا أتساءل عن مصير بعض المواد التي تعودنا على تدريسها بطرق تقليدية حتى أصبحت مملة بالنسبة للمتعلمين، كتدريس الشعر مثلًا. هل الشعر ما يزال ضروريًا في مناهجنا التربوية المغربية؟ وإذا كان الجواب بنعم، ما هي فوائد تدريسه؟ وما هي السبل التي بإمكانها أن تحيي الشعر مرة أخرى في زمن جف فيه الحس الإبداعي التخييلي؟ وما هو نوع الشعر الذي نحتاجه في عصرنا الحالي؟ وقبل هذا وذاك، ما معنى البيداغوجيا؟ وما علاقتها بالتربية؟ أولًا – في علاقة البيداغوجيا بالتربية وجب التذكير أولًا بأن مفهوم "بيداغوجيا" هو كلمة يونانية تتكون من مقطعين: الأول paidos ويعني الطفل الصغير، والثاني logia ويعني القيادة أو السياقة. وعلى هذا الأساس تعني هذه الكلمة، في المعجم الفرنسي لاروس، الشخص المكلف بمراقبة الأطفال، ومرافقتهم في خروجهم للتكوين أو النزهة (1). وتُعرف البيداغوجيا عند مجموعة من المهتمين والمنظرين المشتغلين في مجال التربية بأنها فن تدريس مادة ما، أو مجموعة من التقنيات والأساليب والخطوات الخاصة بتدريس وتعلم مادة معينة، كأن نقول مثلًا: بيداغوجيا الرياضيات، العلوم الطبيعية، اللغات، الشعر... إلخ. ما جعلنا أمام تنوع وتعدد هذه الطرق، بحسب اختلاف طبيعة المواد أولًا، واختلاف نظريات التعلم ثانيًا. وفي هذا المسعى، يحضر نشاط لا يفارق الأهداف البيداغوجية، لأن العلاقة بينهما هي علاقة الغاية بالوسيلة، ويتعلق الأمر بالتربية بوصفها فعلاً يمارسه المربي بالمُتربي. بمعنى آخر، إن البيداغوجيا هي وسيلة آمنة، إلى حد ما، أو طريق سالك نحو التربية في شموليتها. والتربية بالنسبة لدوركايم هي "نشاط اجتماعي بارز L'éducation est chose éminemment sociale" (2). لذلك، فإننا، حسب دوركايم دائمًا، لا نستطيع ترك الطفل أن يعيش دون أن نوجه سلوكه وفق احتياجات المجتمع (3). والمدرسة واحدة من أهم المؤسسات الاجتماعية التي تمارس فعل التربية بشكل موجه ومقصود وعلمي، لأنها تستحضر في عملها، بوعي، الشرط البيداغوجي. ثانيًا – الشعر والتربية ليس من شك في أن الشعر كان وما يزال سبيل التربية الحقة منذ الأزل، أي منذ أن عبّر الإنسان عن كينونته الأنطولوجية بالشعر أول مرة. الشيء الذي يجعل جل المنشغلين بالشعر وعلوم التربية يُقرون دونما تردد بأن الشعر والتربية صنوان لا يفترقان (4). أحدهما يلج في الآخر مثلما يلج الليل في النهار والنهار في الليل، تواصلًا وتفاصلًا. تواصلًا بالتأثير إيجابًا على النشء، وتفاصلًا بالزج به في أتون القبح والعنف بشتى مظاهرهما. إن الشعر إبداع. والإبداع هو السبيل الأوحد إلى تنشئة سوية قادرة على الخلق والابتكار والاختراع. بل إن الشعر هو سمو بالنفس وتهذيب للذوق، وتخليق للعقل المبدع، ودعوة للتسامح والاعتراف بالآخر في غيريته، بعيدًا عن الأحقاد عدوة الفكر والإبداع والتحرر. حاجتنا اليوم إلى الشعر حاجة ماسة، أكثر من أي وقت آخر، كحاجتنا إلى الخبز، كما قال المناضل الشيوعي "تروتسكي" في إحدى المناسبات. والشعر الذي أقصده هو الشعر الذي يخترق المعايير باعتبارها الحارس الوفي للتقليد، نقيض الإبداع. إذ لا أتصور شعرًا يربي على الإبداع والابتداع وهو يتحصن بقلاع المعايير التقليدية الرافضة لكل اختلاف أو مغايرة، والداعية للتكرار والاتباع وجواراتهما. معايير تجعل الزمن يتوقف في ماضٍ مضى. هناك أدلة عديدة يمكن الاعتماد عليها للتدليل على مدى أهمية الشعر في مجال التربية وصناعة المستقبل. يكفي أن أشير إلى بعض منها: الإبداعية، والتخييل، والجمال، والاختلاف، والتسامح، والمحبة... إلخ. ثالثًا – الشعر: تربية على الإبداع أتصور أن الشعر يمنح المتعلمين قدرة كبيرة على استيعاب طاقة الخيال وحيويته. فالشعر خيال. والخيال دعوة صريحة للإبداع إذا ما تحرر من قيود العقل وصرامته. إن من الخيال ما هو اختراعي، وما هو استرجاعي / اتباعي. والشعر الذي يروم الابتداع ويراهن على الخيال كطاقة خلاقة هو وحده القادر على تنشئة جيل قادر على العطاء والابتكار والإضافة. إن الخيال الشعري، يقول أدونيس، هو "نشاط خلاق لا يستهدف أن يكون ما يشكله من صور نسخًا أو نقلًا لعالم الواقع ومعطياته، أو انعكاسًا حرفيًا لأشكال متعارف عليها، أو نوعًا من أنواع الانفعالات، بقدر ما يستهدف أن يدفع القارئ أو السامع إلى إعادة التأمل في واقعه، من خلال رؤية شعرية، لا تستمد قيمتها من مجرد الجدة والطرافة، وإنما من قدرتها على إثراء الحساسية وتعميق الوعي" (5). كلام أدونيس هذا، يشجعني على القول إن المراهنة على الشعر (الخيال) في تربية النشء، سيساهم، لا محالة، في تنمية قدرات وكفايات المتعلمين على إنضاج الوعي بالموضوع لديهم وتعميقه بما يجعلهم قادرين على حل الوضعيات / المشكلات بسهولة وإيجابية. والوضع هذا من شأنه أن يخلق لدى الأجيال الصاعدة قدرة على المشاركة في الحداثة ومستلزماتها، فعلاً ووعيًا بها. رابعًا – الشعر: تربية على الاختلاف والحداثة غير خافٍ أن الشعر يحتل مكانة متميزة في حياة الإنسان، على عكس ما يروج له البعض في وقتنا الراهن. فعن طريقه يتم نشر ثقافة الانتماء الكوني، وبواسطته يتلقى النشء قيم الجمال الإنسانية. ولما كان الشعر، بالنظر إليه كقيمة جمالية، يتميز بكونه خبرة جمالية بحسب تعبير "جون ديوي"، وأنه خبرة تامة أو كاملة من ضمن الخبرات الأخرى، لأنها تتحرر من "كل المعوقات التي تعرقل تطورها" (6)، فإنه لا يمكننا أن نتصور شعرًا راكدًا ومسيّجًا بسياج معايير التنميط التي هي من وضع الإنسان ذاته، والتي لا تُفضي إلا إلى التحنيط، يُبرمج ضمن مقررات مادة اللغة العربية في جميع الأسلاك والمستويات، وننتظر أو نتوقع تفاعلًا إيجابيًا معه من طرف التلاميذ. لأن وضعًا (شعرًا) كهذا، يربي في النشء وعيًا ارتكاسيًا، وميولًا نكوصية، بما يحفز على الانكماش والتحصن بالماضي، مثلما القطيع الذي يخاف من أي طارئ أو جديد، وينشط ذاكرة العنف وثقافة الإقصاء والرفض. أقصد ثقافة التطرف. خاتمة ومقترحات أما بعد، وبعد أن تأكدت أهمية الشعر في مجال التربية والتكوين، أجدني في خاتمة هذه المقالة مضطرًا لاقتراح بعض المقترحات على من يهمهم الأمر، التي من شأنها أن ترتقي بمستوى تدريس الشعر وتلقيه في مؤسساتنا التعليمية إلى مستويات رفيعة بتمكنها من جعل الشعر يحظى بأدوار طلائعية في التربية والتعليم: * ضرورة الإيمان بأهمية الشعر في مجال التربية من طرف المسؤولين وكل المتدخلين في العملية التعليمية. * برمجة الشعر في جميع المقررات والبرامج والكتب المدرسية منذ المستويات الأساسية / الابتدائية. * برمجة الشعر كمادة مستقلة، مع الرفع من معاملها، مما قد يزيد من درجة الاهتمام بها. * اعتماد وسائل جديدة في تدريسها كالوسائل السمعية والبصرية، مما قد يخلق متعة لدى التلميذ والأستاذ معًا. * التركيز على الشعر الحداثي الحامل لقيم الحداثة ورهاناتها. * تدريس الشعر عبر استخدام التكنولوجيا في الفصول الدراسية، لتعزيز التفاعل، وتقديم هذا المحتوى التعليمي بشكل أكثر جاذبية. * استضافة شعراء، وتنظيم أمسيات شعرية وندوات في الشعر، ومسابقات شعرية من طرف التلاميذ داخل مؤسساتهم التعليمية بشكل منتظم، مع تحفيزهم بمختلف الوسائل من أجل خلق جو مناسب للتنافس. بيان الإحالات 1 – المعجم الفرنسي Larousse: نظرية التربية أو تربية الأطفال 2 – Emile Durkheim. Education et sociologie. Puf. Le sociologue. 3ème édition. 1977. P40 et 12. 3 – نفس المرجع. 4 – لقد ظهرت مؤخرًا مجموعة من الدراسات والبحوث التي تهتم بنظرية "التعلم بالإبداع"، والشعر فرع من فروع الإبداع. 5 – أدونيس: عن "الصورة الفنية عند النابغة الذبياني"، مكتبة لبنان، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، ص 98. 6 – جما مقابلة: "اللحظة الجمالية / محاولة فهم نقدية"، عالم الفكر، المجلد 35، يوليو – شتنبر 2006.