قد لا نفقه كثيرا في أمور الدين ،لكن عبث الفتاوى في حضرة السلطان/الحاكم تستفز منطق التفكير العقلي حيث يصاب المرء العاقل بنوع من "التسمر الاندهاشي الموضعي" ،وذلك تحت سباب ما تثويه من هرطقات وترهات اجتهادية غاية في العته ،حيث تتم عملية اللهث وراء السلطان/الحاكم وتمجيده وما يستتبع ذلك من نفاق وزيف مكشوف ،وما يستلزم من تسخير أعمى لأصول الدين في مدح السلطان/الحاكم، واصطفائه من دون الناس والعامة، وإصباغه بمكارم الأخلاق وكامل الأوصاف، وفي ترسيخ تميمة "أن الخير لا يأتي إلا على يديه"،مع ما يطبع سلوكه من نقاء وصفاء ،فهو ظل الله في الأرض من خلال استدراج مسلكيات ومضامين نظرية التفويض الإلهي واستعارة موبقات الحكم الثيوقراطي أيضا ،وامتلاك الحاكم السلطة على الشمس والقمر والأرض والبحر وسوق، سيل من الأساطير،وتنزيهه عن الأخطاء والزلات،وتمكينه من قوة خارقة وقاهرة لا تقاوم،وكل خير يأتي فهو من فضله وكل شر يحل بالدولة والرعية فهو بمقياس التآمر عليه فقط أو مجرد ابتلاء زائل لا محالة. وبحسب تحليل الجابري فإن العقل السياسي العربي كان دائما مسكون ببنية المماثلة بين الإله والحاكم، ف"الملوك والسلاطين يعتبرون مرفوعين عن صف البشر وهم غير بعيدين عن العزة والعناية الإلهية"،وأيضا يورد ابن الأزرق أن" الحاكم السياسي هو ذلك الإنسان الذي اصطفاه الله من بين العباد وزوده باستعدادات كافية من اجل حكم الجماعة التي تتمركز حول شخصه" بصفته "الملك الظل الإلهي الذي يستمد سلطانه من الله". (ابن الأزرق ،بدائع السلك في طبائع الملك)،وبالتالي يتم تسخير الفقهاء والعلماء أيضا في خدمة هذه"الايديولوجيا السلطانية" القائمة على الغلبة والسمو والرفعة والقوة والجبروت والتسلط والاستبداد أيضا،فالسلطان /الحاكم إنسان استثنائي وغير عادي ويملك قدرات لا نظير لها يستمد أصولها من الله مباشرة .فهذا التزلف والتملق يعتبران بمثابة جرم مشهود في حق الدين والرعية على حد سواء وهو يقع نظير نيل المكافآت والحظوة والجاه والمال،والتقرب من الحاكم لقاء منافع ذاتية ضيقة. هذه الفئة الضالة "المتفيقهة"philodoxes -كما يسميها خليل احمد خليل في كتابه "سوسيولوجيا الجمهور السياسي الديني في الشرق الأوسط المعاصر"-،التي تسخر الدين في خدمة مآربها الشخصية،وفي تجلي ممارسة التحوير والتضليل للآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة،خاصة أن تعاليم الدين الإسلامي الحقة ترفض بشكل قطعي "تأليه الحاكم" وممارسة الاستبداد والتسلط، أي حكم الجبابرة والمتسلطين. ففقهاء السلطان يوظفون آلياتهم الاجتهادية الباطلة في "شرعنة الاستبداد والتسلط"،واستلاب وتخدير عقول الجمهور والإيقاع بها في دائرة الاستتباع وتجريدها من إرادتها وحريتها، وإنتاج الجهالة واستغلالها في تقبل فتوى تعظيم السلطان/الحاكم ،بشكل تسطيحي وتبسيطي دون النبش فيها أو محاولة مراجعتها أو نقدها،أي خلق الجمهور العبودي/المستعبد والمستلب. خصوصا وأن رجل الدين يستمد قدسيته من زيه ولباسه(العمة واللحية) ،ومع الجهل الذي يستحكم الكثير من الناس تلقى الفتاوى القبول مادامت تلبس لبوسا دينيا،وفتواهم في حضرة السلطان مخدومة بشكل محبك ممزوجة بأدلة تستمد أصولها من آيات قرآنية مجتزأة وأحاديث مبتسرة وفق إسقاطات وتماثليات غرائبية لا تنسجم مع وقع حقائق الأمور . فهي عبارة عن ملفوظات حائزة لمتن معتل وضعيفة الحجة والبرهان ،وتتنافى مع المنطق العقلي والعلمي /الموضوعي. وما يزيد من عبثية المشهد أن تجد لها آذانا صاغية وتلقى القبول والترحاب والتهليل لدى جموع الناس خصوصا الموالين والأتباع منهم،وتكتسب معقوليتها ومصداقيتها وتنال نصيبها الأوفر في التداول،وهي في وظيفتها تهدف إلى صرف الناس عن مشاكلهم، كما إن ربط الخلاص والانفكاك منها بيد الحاكم وحده،والعمل أيضا على تثبيت أسس ثقافة الحشود والجموع بدل الرأي العام الواعي بحقوقه وواجباته ،وتثبيت منطق الرعية بدل مفهوم المواطن والمواطنة. إن هذه المهنة تضرب بعروقها وجذورها في التاريخ واستمرت بفعل التواتر والممارسة ،وقد حضيت بالتوظيف الجيد من لدن العديد من الأنظمة الاستبدادية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا،من اجل شرعنة الاستبداد والتسلط وضمان استمرارية ودوام الحاكم بغض النظر عن درجة جبروته وقهره للشعب. والملاحظ حتى في عز ربيع الشعوب وزخم الثورات والاحتجاجات كانت تسخر آلية الفتاوى لتحريمها ،حيث كانت تعتبر بحسب الاجتهادات الواهية خروج عن طاعة ولي الأمر وبالتالي هي خروج عن طاعة الله،ولأنها كانت مصدر لإشاعة الفتنة والكراهية بين الناس . ولعل ما يقع في مصر يشكل نموذج حديث وساطع يدل على التوظيف السياسوي للدين ،ففي عهد حكم مرسي تم ترويج مجموعة من الفتاوى والأقاويل التي تستند إلى أساس ديني في سياق مسعى تكريس فكرة "الرئيس المبروك"،و أن "مرسي اختيار الله"، و "من أهل الحق والبرادعى وحمدين من أهل الباطل"، و"أن مهاجمة مرسى معصية ومعارضته محرمة"، و"ربط زيادة محصول القمح ستة أضعاف بوجه مرسى المبروك". وفي سياق التهييء لتولي وزير الدفاع "عبد الفتاح السيسي"لمنصب الرئاسة كثر اللغط /الغلط حول تمجيد ومبايعة ومباركة السيسي من مشايخه، حيث هناك من شبهه بالقائد الإسلامي طارق بن زياد الذي أنقذ الإسلام وشمال أفريقيا ،وكذلك السيسي أنقذ مصر من حكم الإخوان " وبقوله أن السيسي هو قدرنا ونحن قدره " ،واعتبر أن من يرفض النزول للاستفتاء على الدستور فهو آثم لأنها شهادة ومن يكتمها ارتكب معصية". وفي نفس السياق يقول العالم الأزهري الهلالي إن مصر شهدت سرقة للدين مرتين الأولى في عهد فرعون موسى، والثانية في عهد الرئيس المعزول. وأضاف الهلالي، في كلمة باحتفالات الشرطة لتكريم "شهدائها" في الأحداث الأخيرة، اليوم الخميس: "الله أرسل رسولين من عنده إلى مصر لإنقاذها، وهما المشير عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع، واللواء محمد إبراهيم وزير الداخلية". ورأى أن الله حمى مصر والدين الإسلامي بالوزيرين المحاربين للإرهاب والعاملين على توفير الأمن للمصريين. وهي فتاوى تصب في اتجاه خلق القائد الملهم والمنقذ ولكونه جاء ليهدي الناس إلى الصراط المستقيم وينتشلهم من الظلمات إلى النور ،وطاعته واجبة وهي من طاعة الله ،والخروج عنه يقع في دائرة المحظور والمحرم والمدنس . إن الممارسة الديمقراطية الحقيقية تستوجب القطع مع هذه الممارسات وتوجيه الدين في خدمة المواطن والسعي وراء تحقيق العدالة ،والابتعاد عن منطق شخصنة السلطة والمضي في بناء دولة المؤسسات والمساواة ورعاية حقوق المواطنين، والتداول على السلطة يجب أن يخضع لناموس الإرادة الشعبية وعبر صناديق الاقتراع ،والبقاء للأصلح من الناس بحكم أدائه في الممارسة الديمقراطية وليس لشخصه ولذاته ،فالديمقراطية يجب أن تقترن بالمؤسسات وليس بالأشخاص،والاجتهاد الفقهي يجب أن يصب في صالح الأمة وليس في صالح الحاكم الظالم،والعمل في اتجاه تقديس مبدأ رعاية مصالح الناس وليس تقديس مصالح الحاكم المستبد.