ما الذي يعنيه ظهور المتنبي بيننا، فجأة؟ أزعم أن هذا هو الرهان المركزي الذي تؤسس عليه هذه الرواية (1) بوحها، الذي يطلب الفهم والتفسير، في زمن يرابط على عتبات الجنون. يحل المتنبي بلكنته العراقية، ضيفًا على زمن الراوي، بعدما تم التخلي عن رسالته، كما زعم: (لا أحد حمل رسالتي في زمنك هذا) (ص 13)، ويطلب تقبله لبعض الوقت: (علينا أن نعيش سوية لبعض الوقت) (ص14). وإن كان للراوي رأي آخر، مفاده أن سبب حضور هذا المتنبي في زمنه، روائيًا على الأقل، هو ما مُني به هو نفسه من خيبات وانكسارات، ضمنها قصيدته (شعب بوان) (ص41،42). فظهور المتنبي عند الراوي مرتبط رأسًا بانتهاء العرب، يقول: (أتى في زمن انتهى فيه شأن العرب) (ص98). وفي حواره مع قرينته (بشرى) يقرر أن المتنبي بيننا ليعيننا على إيجاد حل بنيوي لمصابنا، يقول: (العارض أن حل المتنبي بعصرنا كي يعيننا على فهم البنيوي من قضايانا) (ص123)، رغم كل ما يحمله هو نفسه من تشظيات، لأنه لا شيء تغير منذ غيابه. هكذا يقول الراوي مخاطبًا المتنبي: (لا شيء، وقعت أحداث جسام دون أن يتغير شيء. لم تتغير البنية الذهنية التي كانت سارية منذ عهدك... العرب كما تركتهم، قبائل تتناحر...) (ص23)، والسبب يضيف الراوي: (هناك اختلال في سلم القيم، وانعدام وحدة قياس... نحن بلا عقد اجتماعي نلتقي حوله) (ص24). ثم يضيف في نفس السياق: (لا، لم يتغير شيء... القرامطة غيروا اسمهم، وأصبحوا دواعش... لا تغرنك المظاهر يا أبا الطيب...) (ص25). ولتفسير ما يعنيه بالبنية الذهنية، يقول الراوي: (لم نتخل عن بنيتنا العميقة، أو هي لم تتخل عنا... فذهنيتنا أمازيغية، ولو أن لساننا، أو لسان بعضنا عربي... لقد نجحنا في شيء سابقًا، أريد أن نعيده لاحقًا... أن نجمع بين اللسان العربي، والذهنية الغربية، كما كانت الأندلس سابقًا...) (ص39). ويشير الراوي أن ظهور المتنبي، أو هذا المتنبي في بيته، صادف انشغاله ب(سبينوزا)، (كنت أشتغل حينها حول سبينوزا...) (ص45)، بما يمثله من حلقة أساسية ممهدة لفكر الأنوار، (هو الرابط ما بين عقلانية ديكارت وفلسفة الأنوار...) (ص46). كما صادف ظهور المتنبي أيضًا انشغال الراوي بالتراث الأندلسي، وأسئلة العلاقة بين (الشرق والغرب، والعقل والروح، والجلال والجمال، والبهجة والفعالية...) كما يقول (ص50). إنها إشكالات عالم اليوم، التي لا يمكن للمتنبي أن يفهمها، ما لم يؤمن بالعقل، ويتخلى عن قيم البداوة (ص49)، كالإشادة بالقتل في بعض شعره مثلًا، مما لا يمكن تقبله (ص50). يحكي الراوي أن علاقته بالمتنبي تحولت إلى ارتباط نفسي جواني، وأن هذه العلاقة تولدت لديه إثر قصة حب انتعشت في واشنطن، (رفقة فتاة مغربية، كنت مقترنًا بها، كان موثقنا الحب... وأدخلت المغرب لأني كنت متهمًا بالتآمر ضد الدولة... كان ذلك كله أضغاث أوهام، ولكنه أجهز على مساري، ولم يعد الحب...) (ص51)، حيث كان يبحث عن ملاذ مما يشكو منه، يقول: (كنت أتعافى، كنت أشكو انهيارًا عصبيًا جراء ما رمتني به الدولة من تآمر على أمنها، وتواطؤ مع أعدائها...) (ص52). وأعرب عن تأثره بمن غدروا به، يقول: (قصة طويلة لا يهم أن نقف عندها، وإن كان ينبغي أن نقف عند فحواها، وهي أننا لم نبرأ من منظومة عتيقة...) (ص296). وبدا الراوي أنه لم يجد من حل عدا الارتباط بالمتنبي الشاعر، ارتباطًا بدا اضطراريًا، حد التماهي، أو حد الجنون كما يقول: (كيف ينسل ما وقع للمتنبي إليَّ حلمًا؟ هل نحن روح حلت بجسدين، أم جسدًا حلت به روحان؟ خلتني أصبت بجنون) (ص84). وكان يبدي استغرابه من هذا التجانس الطارئ والقصري بينه وبين المتنبي، يقول: (غريب أن يفكر فيما أفكر فيه، ويشاطرني أحكامي، والأسوأ حالي، ويعبر عن ذلك بلساني...) (ص159)، وكيف أنهما معًا وجدا ضالتهما في الجنون، بلغة الرواية. فالمتنبي كما الراوي، هما معًا، في رأي نفسيهما عاقلان بامتياز، ولكنهما في رأي المجتمع الذي يتواجدان فيه مجرد مجنونين، يحتاجان إلى العلاج، في حالة المتنبي، وإلى الصد والإبعاد في حالة الراوي. تبدو الرواية مشغولة بالتوقف عند هذا التعارض والتداخل بين تيمتي العقل والجنون، وما الذي تعنيانه (ص87)، بالنسبة إلى الراوي والمتنبي معًا. ولفك هذا التعارض الشقي والملتبس، يحكي الراوي أنه في لحظة ما، التجأ إلى التصوف، بما هو هامش حيوي، طلبًا للخلاص من لعنة المتنبي، أو لعنة الأذى الذي لحقه، يقول: (... كنت قد تعرضت للأذى لا لأني كنت ناشطًا أمازيغيًا، بل لأني كنت أحمل بالقوة مكونات ذلك الوعي... ولم يعد واردًا أن أواري ما أحمله في وجداني. كيف أداهن بعد اليوم منظومة لم تقبل بي وفتنتني؟ حرمتني الرزق وحرمتني الأمل، وفصلتني عما يصوغ الحياة...) (ص59). تأسيسًا على ما تقدم، كان الراوي يشعر أنه الأجدر بفهم المتنبي، وبالحديث معه وعنه، لأنه يمتلك: (مفتاح اللغة، وعروة التاريخ، وهو ما لا يستطيعه شخص مثل (ريجيس بلاشير). يمكن أن أقرأ شعر المتنبي، ووضع المتنبي، وحال قوم المتنبي قراءة موضوعية...) (ص138)، مؤكدًا أن غايته واحدة هي (الفهم) (ص139). مع التقدم في قراءة هذا النص الروائي، نستطيع أن نسجل أن الراوي منشغل بتضمينه الكثير من آرائه وتقديراته، وكذا الكثير من انتكاساته وإحباطاته، عبر الحكي عن المتنبي، من خلال سارده أحيانًا، أو من خلال تدخله السافر أحيانًا أخرى. في حواره مع الطبيبة المكلفة بعلاج المتنبي الزائر، يقول: (الأمل يصاغ، الأمل ليس قدرًا... من الضروري أن تضطلع الصفوة من أصحاب الفكر برسالة تربوية... يمكن أن تكتفوا بالمسكنات، وهي التي تعطى وتلقن إلى الآن، بأشكال مختلفة... كلها مسكنات لا تعالج المريض...) (ص108 و109). وفي مناقشته للطبيبة حول إشكالات اللغة العربية، يقول: (تبدو لي اللغة العربية كامرأة مسنة، أثقلها الشحم والخمول... ومن الطبيعي أن ينفر منها من يريد أن يرتبط بالحياة، ليس للغة العربية أن تظل تحفة لأنها إذاك ستصير عبئًا... لابد أن تفقد اللغة العربية الكثير من زوائدها...) (ص111). وفي موضع آخر، وفي موضوع اللغة دائمًا، يقول: (ليس المهم أن تبقى... ينبغي أن تطفح بالحياة...) (ص185). ويعيب على العرب عدم اهتمامهم بلغتهم، (كما لو أن لغتهم يمكن أن تنهض لوحدها بقدرة قادر) (ص225). كلا، لا بد من بذل الجهد المطلوب، يقول للطبيبة: (لابد من الغور في بحر اللغة، واستجلاء الدر الكامن فيها، ثم تعهده وصقله... أما مجامع اللغة، سيدتي، فتصلح لكل شيء سوى خدمة اللغة العربية...) (ص226). وفي علاقته بالأندلس، يذكر أنه كان يمجها، لارتباطها بما حدث له حين واجه في: (مسرى حياته موقفًا شرسًا من أولئك الذين يصدرون من ارتباطات أسرية من الأندلس، هزئ مني، ولم يوقر لا أصولي الصحراوية، ولا لساني الأمازيغي...) (ص112). لكنه ما لبث أن اكتشفها من جديد، حين قرأ المتنبي، وزار قصر الحمراء، يقول مخاطبًا طبيبة المتنبي: (يمكن أن تحددي ميلادي في حدثين، حرب الخليج أو عاصفة الصحراء... ثم اكتشاف الأندلس... كانت الأندلس هي البلسم... ليست الأندلس شعراء المجون، ولا الليالي الغر... الأندلس هي الارتباط بالحياة... الأندلس ليست لأبناء يوظفون ميراثًا، بل نتاج لأرض... أنا امتداد للأندلس...) (ص113). ثم يضيف: (كانت جوهرة روما، وفردوس المسلمين، وبها بدأت نهضة الأوربيين...) (ص114). وحول علاقته بالسلطة، وردًّا على سؤال الطبيبة عن حياته المهنية، يجيب: (وثقت بأمل، ثم غرني السراب، ولست بأول من غره السراب... السياسة في عصرنا صراع وتنافس، ليس في الدهاليز والكواليس، بل في ساحة مكشوفة... لكن السياسة عندنا لم تبرح مجال الحاشيات والتزلف والكذب والاختلاق... العرب لم يبرحوا العصر الذي توقفوا فيه، والذي صادف زمن المتنبي) (ص114 و115). ثم يضيف: (كنت مستعدًا أن أقبل كل شيء، سوى نهايتي أو مهانتي، لأن المهانة نهاية...) (ص116). وحول المسألة اللغوية، وفي علاقة ببعدها الأمازيغي أو البربري، كما يكتب، وما يطرحه هذا البعد من أسئلة، يقول: (هل آن أوان البربر، أو الأمازيغ؟ هل سينبعث منا ابن تاشفين من جديد؟...) (ص186). ويتحدث عن علاقة البربر بالأندلس، في صورة محبوبته (بشرى) التي تتحول عنده، في غيابها، إلى فكرة، يقول: (أرادت أن تتحول إلى أريج، إلى فكرة، وعلي أن أصوغ الفكرة) (ص146). وفي موضع آخر يقول: (بشرى عربية تتكلم الفرنسية، وأنا الأمازيغي أضطرب في رحم الثقافة العربية، اللغات استعارة، والثقافات استئجار، والمهم ما نحمله من وعي، كنت مرآتها وكانت مرآتي، هل كان لزامًا بعدها أن نفترق...) (ص147). نفس الأمر يصدق على (ليلى)، الوجه الآخر ل(بشرى): (الأميرة الأندلسية... توجد كفكرة... الفكرة مادة الصمود أمام عوامل تعرية الزمن...) (ص329). يبدو الراوي منشغلاً بكتابة ما شهدته ثقافة المجتمع من تمزق، جراء هذه الأشكال من التراشق والتضارب، بين بعديها الأمازيغي والعربي، يقول: (... كان كل منا يقبع في مربعه الخاص به، لا يود أن يزعج الآخر فيما قد يؤذيه... رفضت بشرى أن نذهب سويًا إلى الأندلس، وذهبت لوحدي إلى قرطبة...) (ص148). ويحكي الراوي هذا التمزق الثلاثي الذي يعانيه، وكيف أنه يبحث عن الانسجام بين تراث الأندلس في شخص (بشرى)، والثقافة العربية في شخص (المتنبي)، وبين الحلم في شخص الطبيبة (خولة)، يقول: (يحسن أن أتصالح مع بشرى، أليست بشرى هي من يقودني إلى المتنبي...) (ص180). وفي موضع آخر، وهو يخاطب الطبيبة، يقول: (هل تفهمين يا دكتورة لم أصبحت بربريًا؟ أو لم استرددت بربريتي؟ والصواب أمازيغيتي، لأن المتنبي سلبني أعز ما لدي... زهرة الأندلس ونفحها الطيب... ولأن العرب عمومًا لا يعترفون بي...) (ص269). ويقول: (وأنا، أنا البربري، أريد لي أن أكون عربيًا من الدرجة الثانية... وهل يستكثر علي العربي كريم المحتد، تاريخي وأيادي البيض عليه وعلى لسانه ورسالته؟...) (ص300). ويتساءل عمن يعيبون عليه عروبيته من الأمازيغ، في مقابل من يعيبون عليه أمازيغيته من العروبيين (ص301). ويجيب مخاطبًا طبيبته: (والأوائل مصيبون سيدتي، والأواخر مصيبون كذلك. فأنا أحمل العروبة لسانًا وثقافة وقضايا، وأنا أحمل الأمازيغية لسانًا وثقافة وقضايا) (ص302). في الفصل الثاني من الرواية تتأكد أكثر رغبة الراوي في البوح، بأقصى درجات التعبير والإفضاء الممكنة روائيًا، مستثمرًا تواجده بجناح المجانين بالمستشفى (ص261)، مسنودًا بتشجيع الطبيبة له على المزيد من البوح، والبحث عن التعافي عن طريق السرد، يخاطبها: (لم تضيعي الجهد في سماع حكي مجنون؟ لا يضيرني الأمر، إن كان لا يزعجك أن ألفظ ما بنفسي) (ص211)، ما يعني أن الراوي يطلب الحكي للتعافي مما لحقه من أضرار، يبدو أن معظمها مرتبط رأسًا بالاستبداد وبمظاهره التي اصطلى ببعض نيرانها (ص227 و237)، ومرتبط بالتردي الفكري والسياسي الذي أصاب مجتمعه، يقول مخاطبًا الطبيبة حول إخفاق الربيع العربي كما يرى: (آسف، لك ولغيرك، لن يثمر ربيع العرب... لأن أرضهم قاحلة لم تنبت مونتسكيو ولا فولتير ولا هولباخ... سينتقلون من نظام قديم إلى نظام أقدم منه، ومن قرون وسطى إلى أخرى...) (ص236). فالعرب في رأيه لا زالوا يزعمون الجمع بين الديمقراطية والحكم المطلق، ويرفضون تقويم الفكر (ص256)، والذي يعني تدشين إصلاح ديني (ص257)، وما يقتضيه ذلك من دحض الدعاوى العنيفة للخطاب الديني (ص258)، وكذا تفكيك العقل السياسي عند العرب، يقول: (ولا معنى أن أقرأ رسالة فارسية لمونتسكيو إن لم أفكك بنية الفعل السياسي عند بني يعرب) (ص259). وفي مجال الإبداع الأدبي، يسجل افتقار العرب إلى الخيال في التعاطي مع التراث، وإعادة بنائه، يتساءل: (ولكن أين هو الخيال الذي يستعيد التراث ويعيد بناءه) (ص223). ولأن الطبيبة تنصت إليه، دون أن تبدي رغبة في تصديقه أو تكذيبه، يخبرها أنه لا يهتم، ما دام هنا في حكم المجانين، يقول: (لن تصدقيني، لأني في عرفكم مجنون... لأني لا أساير ما دأبتم عليه؟ لأني أسكن التاريخ، ولأن التاريخ يسكنني. لأنني أكلم الموتى... وهب أني مجنون، ألن تكسبوا أن ينبري واحد منكم يكلم الموتى...) (ص261). ويضيف: (لا تريدون صلة وصل مع ذاكرتكم... ومن يقوى على هذا الدور سوى المجانين) (ص262). نستطيع أن نفهم، في نهاية قراءة هذا النص، أن غاية الراوي من اقتحام هذا الرباط، رباط المتنبي، هي إعادة قراءة هذا الشاعر، في سياقاته المتعددة، التي تتساوق كما تتنافر، في علاقة مع سياقات الراوي، وسياقات مجتمعه الذي يحكي فيه وعنه، كل ذلك بغاية التصالح مع العمق التاريخي، للذات والجماعة معًا. تصالح بدا صعبًا، يقول محتجًا: (ولكنكم لا تتركونني أتصالح معه، ولا أن أتعهد (فابيوس) أو سامي، ولا أن أحزن على رفيقتي في الحياة... أعلنتموني مجنونًا، وأحكمتم قبضتكم عليَّ وسجنتموني في هذا الرباط... كان لا بد أن أعيد تمثيل الجريمة، أعدت قراءة شعر المتنبي...) (ص321)، ويفصح الراوي بالنهاية، أنه إنما يريد الانعتاق من هذا الرباط الذي اقتحمه، أو أقحم فيه، بعد ذلك، وبنفس تهمة المتنبي الزائر، المتنبي المتخيل، تهمة الجنون (ص196 و197)، حيث سيحمل هو الآخر اسم المتنبي، في مستشفى (بوسيجور)، أو في رباطه على الأرجح (ص203)، يقول: (أروم الانعتاق. أسعى أن أنفلت من هذا الرباط، كي أميز ما بين الدال والمدلول، الواقع والصورة... ألا يجوز أن أحن لشيء مضى... وهل نستطيع أن نعيش من دون رموز...) في إشارة إلى المتنبي (ص330)، وطالب الطبيبة بإخراجه من الرباط: (فمتى تخرجونني من هذا الرباط الذي أوثقتموني فيه، من خلال تصور جاهز وحكم مسبق؟...) (ص331). فمتى يغادر المتنبي رباطه، هذا هو سؤال الرواية ورهانها، الذي لا زال يتطلب جوابًا. — (1) رواية **"رباط المتنبي"** حسن أوريد – الطبعة الثالثة، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، المغرب.