” رباط المتنبي ”، تحفة أدبية أُخرى نشرها حسن أوريد بُعيْد إفراجه عن ” رَواء مكة ”، ورغم أن هذا العمل يبدو أكثر ” رِوائية ” مِن سالفِه بَيد أنه لم يحظَ بنفس الحفاوة. أمّا مع” رواء مكة ” فلا جرم أن أستاذنا العزيز المقرئ أبو زيد لعب، من حيث لا يدري، دور الشاعر مسكين الدارمي – ربيعة بن عامر التميمي – فتهافت القراء على الرواية كما فعلتْ مليحات المدينة معَ الخُمر السود.. وأمّا ” الرباط ” فَخِمار بلون آخر أو قُلْ ألوان أخرى … قريض مُعتّق لذّة للشّاربين مِزاجه بعض اللغو والتأثيم، ثمَّ همزٌ ولمزٌ في العرب والعربية والحركات الإسلامية بل وفي الإسلام حتّى، تتخللها تعريضات بالوُشاة والموشى إليهم، وبهارات من التذكير بالمجازر الثقافية التي تعرض لها الأمازيغ، ثم غزل في الشيعة كان استهلاله قد تبدّى في ” الرَّواء ”. ولستُ أدري هل اعترى القراء ما اعتراني بخصوص ذاك التوقف الذي استهلك بضع صفحات للحديث عن ” الباه ”. كنّا قد مررنا على إيحاءات منه في ”سيرة حمار ”، وكنا نعتقد أن ” الحاج حسن ” تجاوز هذا الباب بعد أن ارتوى فما عاد مُقمَحا ولا مُكمحاً. حتماً لا أحد ينتظر من أوريد أن ” يُرسكل ” أعمال نجيب الكيلاني، لكن لا أحد يودّ التعاطي مع إبداعاته كما تعامل آباؤنا مع ” الخبز الحافي ”، تقرأ الرواية خلسة وتجتهد كي لا تقع بين أيادي ”قاصرة وغير مُحصّنة ”، حتّى إذا حصل خلل ما في جهاز الرقابة ورمقتَ ابنتك تتصفح الكتاب ”تقنفدت” خصلات شعرك… كم كنّا سنُطرب أكثر لو استبدل أوريد بطائفة من الهلوسات / البوح شذرات من أفكار ميشيل فوكو. ألم يبتلي أبطاله بالجنون؟ فلماذا لم يعرج على ” خطاب الجنون”؟ قد علِمنا أن أوريد قد ألّف رواية وليس بحثاً في الفلسفة، وعلمنا أنه لم يرُم إطراب أحد، وعلمنا أيضاً أنه كاتب وليس مقدم برنامج ما ” يطلبه المستمعون” … على أيٍّ ” كتابة بكتابة ” … ملاحظة أخرى تسْتسمحُني التمظهر بين هذه السطور، وتَهمّ المسحة المؤامراتية التي انصبغَت بها تشخيصات أوريد لأمس العرب القريب. فالنهضة العربية في رأيه شأن الفرنسي جومار، وأفكار محمد عبده مستقاة بعضها من الإنجليزي بلونت، وكتابات الكواكيبي استنساخ لآلفيري الإيطالي، وكتاب أم القرى نقل من كتاب مستقبل الإسلام لبولونت، وكتاب الأمة العربية صدى للمخابرات الفرنسية، والثورة العربية مؤامرة دبرها لورونس العرب. ما كان كل هذا ليُثيرنا لو أنه أفرغ كل ” قفة ” العرب وأرجعها إلينا قاعا صفصفا، لكنه بدل ذلك أصر أن يترك في أسفلها مَسْخًا قبيحٌ منظره ويجعل منه الوليد الطبيعي والوحيد للعرب: داعش. ومرة أخرى، كان بِوُدِّنا لو أنّ أوريد، أو بطل روايته، عند تطرقه لتلك البليّة تبنّى نفس المنطق وذكر أو لمّح إلى شيء إسمه ” عش الدبابير ”، وهو إسمٌ لبرنامج تَولتْ كِبره بريطانيا و يهدف إلى احتضان و تفريخ الحركات الجهادية، و يُقال أن إدوارد سنودن هو من سرَّب هذه المعلومة. في رواية ” السنجة ” قدم أحمد خالد توفيق شخصية ” عباس ” ثم وضع لِعربَدتهِ حدودا لا يمكنه تجاوزها بحكم الأخوة التي تجمعه وسكان الحي… لكن عباس اقترف المحظور وكأنه يتحدى ” خالقه”. وفي وضع المستسلم اعتذر خالد توفيق بشكلٍ طريف جميل قائلاً:” كنت قد وعدتُ بأن شيئاً لن يحدث… لكني كنت واهما وساذجا… لأنني افترضت أن هناك قيماً يمكن أن تصمد … كنت أحمق'‘. على أن الكاتب العربي الأكثر ”دمقراطيه ” في رأيي يبقى هو الفلسطيني هشام نفاع الذي أذِن لِ ” روحانيات ‘‘، إحدى شخصيات روايته ” انهيارات رقيقة ‘‘، أن تجادله بِشكلٍ مباشرو تُحمِّله مسؤولية ما حدث. صحيح أنه لم يكن دمثاً معها، ولا غروْ في ذلك أوَليْس عربياًّ، وطَبْع العربي يغالب تطبُّعه. في المقابل نَجد جوستاين غاردر قد سلك تقريباً نفس المنحى مع بطله ألبرتو في رواية ” عالم صوفي ”. ورغم أن جوستاين غاردر يشارك هشام نفاع -وإلى حد ما حسن أوريد – الإهتمام بالفلسفة، إلا أنه نرويجي الأصل وبالتالي فتعامله مع أبطاله كان بالنرويجية. تُرى هلْ تبنّى حسن أوريد نفس المقاربة؟ هل انتفض ضده الأستاذ المسكون بروح المتنبي، أم أنه ببساطة لم يشأْ استعباد أبطاله وقد ولدتهم القريحة أحرارا، فقالوا ولم يؤاخذهم على ما قالوا. مغرور سأكون إن وصفت الحروف التي كتبتها بأنها ” نقد ” لرواية رباط المتنبي. فالنقد فنٌّ لا قِبل لي به، إنما هي خواطر انتابتني فصرَّفتُها هاهنا، معتقداً أن ذلك لن يخدش إعجابي بالتجربة الأوريدية. أثناء تقديم روايته ”الولي الطاهر يرفع يديه بالدعاء ”، كتب الطاهر وطار: ”قد أكون بصدد كتابة رواية واحدة كلما تعبتُ وضعت لها عنوانا جديداً ”. حالة تكاد تنطبق على حسن أوريد. لا نتكلم هنا عن أناقة الأسلوب ولا على موسوعية المدارك ولا حتى على الإستثمار الموفق للتاريخ وللجغرافية، لكن ا لمقصود هي تلك النظرة ” التجديدية ” للدين، هي فكرة الأندلس، هو ذلك الأمازيغي المتمكن من ناصية لغة الضاد، العاشق للمتنبي ولابن رشد وابن باجة، والذي لا يفتأ يتباكى ويشتكي من مؤامرات حيكت ضده فقط لأنه أمازيغي، وكأن الآخرين قد وُقِّروا ومن التحقير والتفقير وُفِّروا. وحين نكتب هذا فلَسْنا نحذر من ملل قد يتسلل إليك وأنت تنصت إلى بَوْح حاكم عربي لا يبدو يختلف كثيرا عن الآخرين (ربيع قرطبة) أو تؤدي مناسك الحج (رواء مكة) أو تتأمل سيرة (الموريسكي) أو حتى نزيل مستشفى للأمراض العقلية (رباط المتنبي)، فأوريد قادر أن يستفزك ويشد انتباهك وربما يصدمك بما قد يبدو وكأنه ” ردة ”. كل ما في الأمر أنك إن قرأت هذه الروايات دون الإنتباه إلى إسم كاتبها، فلن تحتاج إلى كثير من الكياسة كي تكتشف أن روحا واحدة تتلبس هذه النصوص، روحاً متوثبة، متوتّرة مستَنفَرة، فرَّت من قسْورة العبث والتحجُّر … فالْنُسمّها ” الرُّوح القلقة ” … في خمسينيات القرن الماضي كتب عبد الرحمان بدوي مؤلفاً (أو بالأحرى جمع عدة دراسات مترجمة) بعنوان ” شخصيات قلقلة في الإسلام ”، تطرق فيها إلى حياة كلٍ من سلمان الفارسي، الحسين بن منصور الحلاّج ثمَّ شهاب الدين السهروري، ولو أن الدكتور بدوي استنصَحني حينها لأشرت عليه أن يستهلَّ برجلٍ إسمه جندب ابن جنادة المكنَّى بأبي ذر الغفاري… في مقدمة البحث أشاد بدوي ب” أولئك الذين أشاعوا سوْرة التوتر الحي مُعرضين عن الظاهر الساذج المستقيم إلى الباطن الشائك الزاخر بالمتناقضات…” شخصيات، على نذرتها، تتواجد في كل زمان ومكان … والأصل أن القلق ليس وسماً و لا وصماً، لكنه ببساطة وصف. بَيد أنه في مثل هذه الكتابات غالبا ما تُحيل الكلمة إلى همٌّ وهِمّة وسموق هامة. ورغم أن المغرب لا يخلو من استثناءات وعجائب ونوادر، فإنه في هذه النقطة لم يكن بدعة، فكان فيه القلقون. طبعاً لن نؤرخ ل ” القلق المغربي ” و سنكتفي بالمغرب المعاصر حيث المهدي بن بركة، و المهدي المنجرة، عبد السلام ياسين، الأمير مولاي هشام، القايد يونس فنيش و المهندس بن صديق، فاطمة المرنيسي. و … ولست أخالني أُقحم حسن أوريد في هذه اللائحة إقحاما، بل لعلني فقط أقرأ إسمه المرقون هناك دون فضل من أحد ولا منّة. كما أني أُبَرئ الصدفة من اختيار أوريد إسم ”هشام” ولقب ”فنيش ” لِاثنين من أبطاله الفارين من ” الرباط ”. في حين أظن أن اختياره لمستشفى الأمراض العقلية ”كمنصة ” لروايته لا ترمز بأي طريقة الى حالة الشيخ عبد السلام ياسين (أمازيغي أيضاً) الذي أُدخل هو الآخر إلى مستشفى المجانين، قبل أن تُفرض عليه الإقامة الجبرية. ”عجبت لمن لا يجد قوت يومه كيف لا يخرِج على الناسِ شاهِراً سيفه ”،هكذا كان الدكتور بدوي سيقدم شخصيته الأولى لو أنه عمل بنصيحتي التي لم أُسْدها له، وهكذا تكلم قلق أبي ذر الذي انتهى به المطاف في منفى اختياري (أو اضطراري حسب الروايات) ب ” الربذة ” قرب المدينة. و بدَل ذلك فضَّل بدوي قوْلة فارسية تنسب لروزبه بن يوذخشان (الإسم الأصلي لسلمان الفارسي حسب ابن عساكر)، عبارة جرْسُها ربما أقل حدة، لكنها أكثر عمقا : ”كرديد ونكرديد… ” أي فعلتم ولم تفعلوا ، وأزعم أنها تعني أيضاً ” فعلتم و بئس ما فعلتم”، على أن هناك رواية أُخرى تضيف : ” وندانيد كه چه كرديد وما علمتم ما فعلتم “. وهذا بالضبط جوهر ما قاله عبد الرحمان بوعبيد، وما قاله أبراهام السرفاتي وما قالته طائفة من القلقين الآخرين. ” فعلتم ولم تفعلوا ‘' هكذا يخاطب أوريد من حمل الإسلام إلى المغرب وأراد أن يُتاب في الدنيا فهجَّر الأمازيغ واستولى على أرضهم، بل وسجن طارق ابن زياد. هكذا قال لمن تطاحن على الملك في الأندلس وتغافل عن الخطر المحدق به، وهكذا قال لمن جاء بعدهم من الإسبان الذين أعماهم التعصب وأقاموا محاكم التفتيش، وهكذا قال لكل من مارس العبث وعبث في الممارسة. نربأ بأنفسنا الخوض في ” أسباب النزول ” فذاك يمٌّ ماخِرُه ليس يأمن العنت، غير أنّا لن نلجم فضولنا ، فالْنكمل الحديث ننشد فيه وعبْرهُ ضالة المؤمن. ”كرديد ونكرديد أما والله لقد فعلتم فعلة أطمعتم فيها الطلقاء…. “، قال ابن عمر: فلما سمعت سلمان يقول ذلك أبغضته …ثم قال: فأبقاني الله حتى رأيت مروان بن الحكم يخطب على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله فقلت: رحم الله أبا عبد الله لقد قال ما قال بِعلم كان عنده. تلكم حال القلقين، لانمطيّة نظْرتهم للأشياء تتعبنا، فننشد الراحة في نبذهم ونَفْيهم، حتى إذا انصرمت الأيام والسنين تنبَّهنا إلى وجاهة منطق أحدهم وأقررنا أنه إنما ” قال ما قال بعلم كان عنده ”… وحينما سئمنا من التعقيدات التي رافقت التحضير للإستفتاء على مغربية الصحراء تذكَّرنا رجلاً عارض الفكرة من أصلها وكان جزاؤه السجن. و حينما تمللت بعض الشعوب العربية ، هرع بعضنا يتفقد كتاب ” انتفاضات في زمن الذلقراطية ” و ترحمنا على ” السي المهدي ”. وإذا كان ديوجين، أحد أئمّة القلقين اليونانيين، قد طلب من الإسكندر أن يتنحىّ جانباً حتّى لا يمنع عنه أشعة الشمس واستجاب له هذا الأخير دون مشاكل، فإن جل القلقين الآخرين إما يحجبهم الإسكندر عن الشمس بصفة نهائية، أو يبادروا هم للتملّص من ظل الإسكندر. وهكذا فعل أوريد وأبطاله حيث فضّلوا أن يَتنحّوا عن ظل ” الرباط ” كي يتلقوا الدفء والنور مباشرة من مشكاة الحرية ومن دون أقنعة. وإن كناَّ لا نملك إلا أن نحترم اختيارات الآخرين، إلّا أنّا لا نحرم أنفسنا من التساؤل بِقلق، تُرى لو هاجر ” الرباط ” كل القلقون، أفلسنا نتركه نهباً ل ” الماجور” … سؤال آخر حزّ في نفسه أن يظل حبيس نفسي: بعد كل هذا، أيُّ عرّاب سيتجرأ ويُبادر لإشهار” رباط المتنبي ”، ويَعد القارئ بالتغيير عند الإنتهاء من الكتاب؟ … داعية إسلامي؟ طبعاً لا، كيف والمتنبي يتأفف من دين يفرض عليك أذكار الصباح والمساء والأكل والاضطجاع والمضاجعة. … عروبي؟ لا أظن، أوَلمْ يهزأ بطل أوريد بالعربية وبلفيفيْها المقرون والمفروق، ألم يجعلها عجوزاً شمطاء، أو لمْ يقلْ في العرب ما لم يقله عبد الحميد شباط في عبد الإله بن كيران… أمازيغي؟ ربما، ولكن ليس قبل أن تُغفر جفوة ” الرّواء ” وليس الصبح دائماً بقريب… ولكن من قال أن حسن أوريد يحتاج إلى عرّاب؟ ماذا لو قلبنا السؤال: لماذا ” أشهر ” المقرئ أبو زيد كتاباً لأوريد وليس للدكتور أحمد الريوسوني وهو من هو؟ طبعاً لن ندخل في متاهة من ” أشهرَ ” من؟ ومن أشهرُ مِمّن؟ سنكتفي بالقول أن العراب الحقيقي لأوريد كان و لا يزال هو حسن أوريد. قد يتفاوت حجم الإقبال من مؤلف لآخر لاعتبارات عدة، لكن الأكيد أن ” رباط المتنبي ” لم ولن يعدم قرّاءً عاشقين للجمال مترفعين عن ” الدمغة ” الإديولوجية، يجتهدون في قراة الكلمات و ما تحتها و ما وراءها، يستمعون إلى أوريد القابع في ركن ما داخل الرواية، أو ربما تحت كل سطر منها، و قد رسم على محياه نصف ابتسامة، تذكرك بِعَلي عِزّت بيغوفيتش أو بعبد الرحمان اليوسفي، يردد بمكر: علي نظم القوافي من معادنها… و ليس علي إن لم تفهم … لا جرم أن رسيسا من الحياء قد منعه وصفنا بالبقر… نهمس في أذن أستاذنا حسن أوريد ونقول له أيها الأمازيغي العنيد، سنستقصي أخبارك ونتقفَّى آثارك، ننتقدك حيناً، ونصفق لك أحياناً، ونحترمك في كل حين…. ننتظر جديدك… جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة