تقديم شخصية المولى إدريس ملف كبير للبحث و ساحة واسعة للنقاش ،استأثرت باهتمام الكثير من الباحثين ،وحظيت بدراسات ومحاضرات وبحوث في المغرب و المشرق.ومع ذلك تبقى هذه الشخصية منفتحة على اجتهادات الباحثين ،وقابلة لمقاربات كثيرة تستهدف مختلف الجوانب في هذه الشخصية التي ملأت الدنيا و شغلت العالم الإسلامي قديما و حديثا،حتى أضحى الحديث عنها حديثا لا ينتهي،شأن كل رجالات التاريخ العظام، الذين غيروا مسار الأحداث و وشموا أسماءهم في سجل البطولات والأمجاد الإنسانية. شخصية المولى إدريس نص عميق منفتح على قراءات متعددة ومتضاربة أحيانا تحكمت فيها منطلقات أيديولوجية و سياسية و مذهبية.ولذلك لا أريد مقاربة هذه الشخصية التاريخية بالخضوع لأي من هذه المنطلقات و الخلفيات الموجهة للقراءة و البحث ،وسأكتفي ببحث أركيولوجي في طبقات و أغوار هذه الشخصية الفذة التي تجاوزت المسافات، واستطاعت فرض وجودها السياسي و إثبات ذاتها القيادية بعيدا عن موطنها الأصلي، و في بيئة تختلف جغرافيا و اجتماعيا و ثقافيا ولغويا.وساهمت في ميلاد تاريخ جديد للمغرب؛ المنطقة التي تعد أنتروبولوجيا من أكثر المناطق رفضا للخضوع و الاستسلام والانصياع. ليس من السهل أن تنقاد الأمور لوافد طارئ في منطقة عصية متعصبة لجذورها وثقافتها لو لم تمتلك هذه الشخصية مفاتيح القيادة وآليات التأثير و الاستقطاب و ثقافة التعايش و الاندماج.ولعل هذه العناصر جديرة بالبحث و التقصي بعيدا عن الظلال الطائفية و التأويلات المذهبية التي كثيرا ما تسلب الشخصية التاريخية مؤهلاتها الذاتية و تحجب كفاءاتها وتغض الطرف عن الكثير من صفاتها وخصائصها المميزة لها،وتتعامل معها كآلية جاهزة لتنفيذ خطط مسطرة ولتسويق مشروع معد سلفا. لم يكن المولى إدريس بهذا الحجم البسيط الذي ترسمه بعض القراءات الأيديولوجية وتكرسه بعض الدراسات الطائفية،ولم يكن أداة تنفيذ لمشاريع جاهزة كما تدعي بعض الكتابات التاريخية.لأن الاقتناع بمثل هذه الأقوال يسلب من هذه الشخصية ما لها من عبقرية فذة، و يغض الطرف عما تمتعت به من دهاء و حكمة ،ويقزم قامتها، ويحذفها من لائحة عظماء التاريخ .ولذلك أرى أن الغوص في تاريخ هذا القائد و التسلل إلى طبقات و مستويات شخصيته القيادية يكشف النقاب عن أحد كبار مهندسي الحياة السياسية في أعقد الفترات من تاريخ البلاد الإسلامية. وهذا ما جعل أحد الباحثين يقول في حقه:" أقام دولة عُرفت باسمه "دولة الأدارسة" بعيدًا عن وطنه بين قبائل متطاحنة تعتز بعنصريتها، وتتخذ من قوتها وسيلة لفرض سيطرتها على من حولها، وهذه تُحسَب له، وتجعله واحدًا من كبار رجال التاريخ. ويضاف إليه أن المغرب مدين له بنشر الإسلام في أماكن لم يكن قد وصل إليها من قبل" 1- صورة المولى إدريس عند المغاربة لن أستدرج في هذه الورقات إلى الخوض في طبيعة الخلفية الفكرية و المذهبية للدولة الإدريسية،لأن هذا الملف مستهلك بحثا ونقاشا ،وقد كان محور سجال طويل وعقيم، كانت له آثار سلبية كثيرة ألقت بضبابها الكثيف على هذه الشخصية وعلى إنجازاتها التاريخية، ومزقت العديد من الصفحات المشرقة من تاريخ المغرب و رجاله الكبار.حتى إن المغاربة اليوم لا يعرفون عن المولى إدريس سوى أنه مؤسس لأول دولة مغربية ولا يملكون في مخيالهم أية صورة لهذا القائد البطل الذي دانت له القبائل المغربية طواعية وبايعته على الحكم والتفت من حوله في زمن قياسي. والصورة النمطية عند المغاربة لشخصية المولى إدريس تختزله في رجل من آل البيت تعرض للبطش و الملاحقة من طرف العباسيين ونجا من معركة "فخ" فاضطر إلى الفرار و البحث عن ملجإ ،حتى وصلت به رحلة الهروب إلى المغرب.وهناك احتضنه المغاربة وتعاطفوا معه و نصبوه ملكا عليهم فكانت نشأة الدولة الإدريسية. لقد كرست العديد من كتب التاريخ هذه الصورة النمطية–طبعا مع ذكر التفاصيل الأخرى و حيثيات الفرار وظروف الاستقرار- وساهمت في تبسيط وتسطيح الحديث عن هذه الشخصية. و إذا عدنا إلى استقراء التاريخ و استنطاق صفحاته الصامتة نجد أن الصورة التي حملها الإنسان المغربي في تلك الفترة للمولى إدريس كانت أشد نضجا وأكبر عمقا ،وكانت السر الحقيقي وراء التفاف القبائل حول هذا القائد. فقد كانت صورة المولى إدريس عند المغربي الأمازيغي هي صورة النموذج الذي يحمل الموروث النبوي ويمثل الخطاب الديني و يتمثل القيم الإسلامية و ينهل من المنابع الصافية للعقيدة .كانت صورته عند المغاربة صورة البطل المنبعث من الرماد القادم من وراء الجبال لربط الفضاء المغربي بمصادر الدين و برموزه وإعادة الاعتبار لمنطقة استراتيجية طالما تعامل معها الحكام و الولاة كمنطقة عبور أو استراحة، ولم يساهموا قط في تطويرها عمرانيا و ثقافيا و اقتصاديا،وهي المنطقة الجغرافية و البشرية التي احتضنت الدعوة و الدعاة، وانطلقت منها كتائب الفاتحين نحو الضفة الأخرى. فقد كان المغاربة- وهم بعيدون جغرافيا عن مراكز الدولة الإسلامية في الشرق و الأندلس– يحسون بالإقصاء والاستياء، ويعيشون حالة انتظار قاسية يترقبون تغيير موقعهم التاريخي و الحضاري، ويتطلعون إلى الخلاص الذي ينقذ البلاد من التهميش الممنهج ومن الفرقة و التشرذم و الوثنية الخادمة لمصالح الحكام والمكرسة لظلم الولاة. وقد وجدوا في المولى إدريس الشخصية المحايدة ذات المشروعية الدينية و المصداقية القيادية القادرة على توحيد الكلمة و رص الصفوف وبناء الكيان الحضاري للبلاد المغربية لتتحول من الهامش ولتصبح مركزا إسلاميا جديدا لا يقل شأنه عن دولة العباسيين في المشرق و دولة الأمويين في الأندلس . لقد كانت العقلية المشرقية تنظر إلى المغرب كهامش تابع ليس إلا.وتنظر إلى المغاربة كأناس قاصرين لا رأي لهم ولا قدرة لهم على الإبداع و التميز. بل يحكى أن هارون الرشيد في حواره مع أحد المغاربة وصف الإمبراطورية العباسية بطائر ضخم ذيله المغرب.لكن المغربي الذي أحس بنوع من الاحتقار أجاب الخليفة قائلا:نعم يا مولاي لكن هذا الطائر طاووس و أجمل ما في الطاووس ذيله.لا أريد الخوض في مسألة التمركز المشرقي ولا في التجاذب السياسي و الصراع الثقافي بين أطراف البلاد الإسلامية.لأن النصوص و الوثائق كثيرة تؤكد هذه النظرة الاستعلائية التي نظر بها المشرق إلى البلاد المغربية.ولكن السياق يفرض الإشارة إلى هذا الجانب الذي تغفله الكثير من الدراسات المذهبية. من هنا نفهم السر الكامن في الحماس الذي أبداه المغاربة في احتضانهم للمولى إدريس،ذلك لأنهم رأوا فيه مناضلا يعاني ما كان يعانيه المغاربة من التهميش و الإقصاء من طرف خلفاء غير راشدين انحرفوا عن حقيقة الخلافة وروحها،وانزاحوا عن تعاليم الدين وأباحوا سفك دماء المسلمين وتصفية المعارضين لأسباب سياسية رغبة في احتكار كرسي الحكم والانفراد بالسلطة.كان احتضان المغربة للمولى إدريس يعني ردا سياسيا على حكام المشرق و الأندلس بأن المغرب يرفض و يعارض المنزلقات الخطيرة التي سقطت فيها التجارب السياسية المنزاحة عن نظام الخلافة . وفي ذلك إشارة قوية من أجل تصحيح مسارات نظم الحكم التي تحولت إلى عصبيات قبلية جديدة تلبس لباس الدين و تسفك دماء المسلمين. إنني أرى أن المولى إدريس - ذاك المعارض الشرس للظلم و المناضل الشهم في الصفوف الأمامية من أجل تدعيم أسس الخلافة الإسلامية- لم تكن تحركه نزوة طائفية أو رغبة ذاتية في تعويض الإخفاقات السياسية أو تأسيس كيان انتقامي انقلابي متمرد على الحكم العباسي بقدر ما كان رجلا قياديا مؤهلا سياسيا وخلقيا للقيام بدور طلائعي في زمن اليقظة المغربية، اختاره المغاربة طواعية ليجعل من البلاد المغربية منطقة مستقلة حضاريا و سياسيا وبؤرة إشعاع ثقافي و اقتصادي تقدم النموذج الحقيقي للخلافة الإسلامية في نسختها المغربية. لم يتم اختيار المولى إدريس جريا على العرف الأمازيغي القبلي القائم على العصبية و النفوذ و الانتماء ،وإنما نسخت بيعة المولى إدريس الأعراف المغربية السائدة آنذاك في مسالة الزعامة أو الحكم.وكانت الآلية الجديدة ضربا من الانقلاب في الثقافية السياسية في المغرب وانفتاحا على تجربة فريدة حظيت برضا أغلب القبائل المغربية باستثناء أصحاب العقائد الوثنية و النصرانية و اليهودية الذين رأوا في هذا الوافد الجديد تهديدا لمصالحهم و بؤرة استقطاب قوية تفقدهم السيطرة على أتباعهم. 2- الشخصية الكاريزمية للمولى إدريس تتمثل الشخصية القيادية للمولى إدريس في امتلاكه لكاريزما القائد المصلح و الداعية و رجل السياسة و صاحب الحكمة في تدبير الأمور و اللحظات الصعبة وقراءة الواقع وفقه استقطاب القلوب و النفوس. اجتمعت في شخصية المولى إدريس خصال خلقية وعقلية و دينية وتواصلية إلى جانب النسب للبيت النبوي الشريف .كل ذلك جعله مثلا للمسلم المؤهل لخلافة النبي(ص) في بلاد المغرب. ولذلك خلع زعيم الأمازيغ إسحاق بن عبد الحميد الأوربي عنه بيعته للعباسيين وبايع المولى إدريس، بعد أن رأى فيه كل الشروط التي يجب أن يتصف بها الخليفة المسلم ،كما جاءت عند أصحاب النظم و الأحكام السلطانية والتي يمكن إجمالها في الواجبات التالية: 1- صون العقيدة و الشريعة 2- إقامة القضاء 3- تحقيق الأمن 4- تنفيذ الأحكام 5- إعداد وسائل الدفاع 6- جهاد الأعداء 7- جباية الأموال 8- توزيع الحقوق و الرواتب 9- اختيار الولاة الأمناء 10- القيام بشؤون الحكم وسياسة الأمة وتؤكد المصادر التاريخية أن المولى إدريس كان استثناء في تلك الفترة التاريخية ،قدم الصورة النموذجية للخليفة صاحب الشرعية الدينية و المصداقية السياسية في إدارة شؤون الأمة.ولعل ارتباط الأمازيغ به يؤكد مدى نجاحه في القضاء على العنصرية العرقية و اللغوية وتجاوز التصنيف الاجتماعي و الطائفي وإعادته الحياة الإسلامية إلى صورتها الحقيقية الصافية حيث لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى. ففي الوقت الذي كانت الفتن الطائفية تقسم المسلمين إلى قبائل و عشائر و مذاهب جاء المولى إدريس برؤية إسلامية أصيلة كانت أساس حكمه و ركيزة دولته.ومن هنا ندرك حكمته وبعد نظره وسلامة قصده.ولهذا نحتاج إلى التعرف أكثر وبعمق على هذه الشخصية العظيمة التي لم تنصفها كتب التاريخ القديمة و الحديثة، واستغلتها الأهواء السياسية و المذاهب الأيديولوجية بشكل أفقدها شموخها ،حتى أحاط بها الكثير من الأوهام و الشكوك و الأباطيل. إن مصطلح الكاريزما يحمل في طياته معاني الموهبة القيادية الخارقة و الشخصية القادرة على إثبات الذات و فرض الوجود.إنها نوع من السلطة الاجتماعية التي يتميز بها الشخص في مجتمع ما،فتجعل له أتباعا مخلصين مطيعين أوفياء،يرون فيه نموذجا للاقتداء و الاحتذاء، وأهلا للقيادة ، وصاحب تفويض عام لسياستهم و تمثيلهم و النيابة عنهم. وبالعودة إلى قراءة خريطة العلاقة التي جمعت المولى إدريس بالمغاربة آنذاك نلمس ملامح الكاريزما القيادية في أجلى صورها.فقد استطاع المولى إدريس تكسير كل الحواجز النفسية و الموانع الاجتماعية و اللغوية التي تحد من الاندماج الاجتماعي في تلك البيئة المعقدة بشريا و ثقافيا .فصار إنسانا محبوبا و صاحب شعبية عالية وذا جاذبية خارقة سحرت ألباب الناس ودفعتهم إلى الإقبال عليه وجعله مركزا يحيطون به من كل جانب و يمنحونه ثقتهم وينقادون له طواعية. لقد كان المولى إدريس أحد الرواد الذين ساهموا في بناء الدولة المغربية و قيادة الأمة في زمن استثنائي كثرت فيه الصراعات و العصبيات و أسباب الحروب.فكان من صناع التاريخ –كما يصفهم الدكتور عبد الكريم بكار"مهمتهم شق الطرق في الأماكن الوعرة حتى يمضي خلفهم الكبار و الصغار.وبالإخلاص والصدق و العزم و المثابرة يمكن للمرء أن يجد نفسه بينهم" لقد اجتمعت في المولى إدريس كل عناصر الشخصية الكاريزماتية،والتي تتجلى في امتلاكه لمفاتيح القلوب وفي القدرة الفائقة على التأثير و الإقناع واحتلال موقع الزعامة.فقد ارتبط بالمغاربة جسديا وعاطفيا وثقافيا الشيء الذي منحه سلطة فوق العادة،ومنحه شخصية تثير الولاء و الحماس و الانقياد.ولعل في بيعة الزعيم الأمازيغي إسحاق بن عبد الحميد الأوربي له أكبر دليل على ذلك. تأسست العلاقة بين المولى إدريس والمغاربة على أساس ديني وليس على أساس سياسي برغماتي،فقد كان النسب لآل البيت النبوي أهم عنصر مؤثر في هذه العلاقة،إلى جانب ما تميز به من ملكات شخصية وقيم محافظة وصفات مميزة.ولعل من بين أبرز الخصائص في شخصية المولى إدريس هو حس المغامرة و تحمل مسؤولية تغيير الواقع السياسي و الاجتماعي وبناء مشروع حضاري جديد وتحقيق أهداف استراتيجية غيرت الخريطة السياسية في المنطقة بشكل تام. وقد استطاع أن يدفع الجميع إلى تبني هذا المشروع والاقتناع به والدفاع عنه.وهذه من أهم سمات القائد العظيم، صاحب الأهداف العظيمة و الطموحات الكبيرة. ويمكن القول إن المولى إدريس قد أدرك حاجة المغاربة إلى بناء كيان مستقل، وأحس برغبتهم في تكوين دولة قوية منظمة وذات سيادة.كما لاحظ القابلية و الاستعداد المطلق لدى المغاربة لجعله قائدا لهم لاعتبارات كثيرة. خصوصا و أن المغرب في تلك الفترة كان منطقة عبور وفتن و طوائف و أديان وعصبية.وكأن المغاربة رأوا فيه الرجل المثالي لإخراج البلاد من تلك الأزمات الحادة ،وتخليصها من موقع الهامش ووضعية التبعية.ومعلوم أن الشخصية الكاريزمية تبرز في الظروف الصعبة وفي المجتمعات المأزومة التي يتطلع فيها الناس إلى المخلص المنقذ أو الربان الذي يقود البلاد إلى مراسي الأمن وشواطئ الاستقرار. فقد وجد المولى إدريس النفوس مهيأة و الطريق معبدة والأجواء مشجعة على تسلم زمام القيادة.ويمكن أن نضيف إلى أن المغاربة أقبلوا على هذا القائد العظيم لما وجدوا فيه من تميز على مستوى التدين و العلم و المعرفة الدينية ،خصوصا و أنهم كانوا يعانون فقرا كبيرا و خصاصا مهولا من هذه الناحية. فرأوا فيه الوسيط الذي يربطهم بالأصل و القناة التي تصلهم بالمصدر . ومن الخصائص القيادية التي تميزت بها شخصية المولى إدريس البساطة والتودد إلى الناس و التواصل معهم وتربيتهم كقادة لا كجنود. كانت له جاذبية مغناطيسية قوية خلقت الألفة و المودة الفورية بين المغاربة. كان رجلا اجتماعيا مثقفا محبوبا ،كما كان قائدا يعشق التحدي،ويسعى إلى التغيير.كان شابا طموحا حازما ذا ذكاء خارق وثقة قوية بالنفس واستقلالية في التفكير واعتماد على الذات.وهذه من أهم سمات القائد الكريزماتي المبدع الهوامش: 1- الماوردي علي بن محمد :الأحكام السلطانية و الولايات الدينية ص :6 طبعة دار الفكر القاهرة1983 2- د. حسين مؤنس: معالم تاريخ المغرب والأندلس، ص125 – 127. 3- عبد الكريم بكار .بصيرة الشخصية ص:256