(إلى حراس المعبد القديم من كل مذهب وتيار) أثارت التغطية - غير المهنية والمبتسرة - التي قامت بنشرها في صدر صفحتها الأولى جريدة "الإتحاد الإشتراكي" لمحاضرة لي ألقيتها في تظاهرة ثقافية نظمها طلبة كلية الآداب، أثارت الكثير من ردود الأفعال الإيجابية والسلبية، والتي كان أكثرها إسفافا ما كتبه مدير جريدة "الأسبوع" السيد مصطفى العلوي. كان موضوع محاضرتي هو الهوية في علاقتها بالتاريخ، باعتبارها ليست معطى بقدر ما هي صيرورة وبناء، وأوضحت للدلالة على ذلك كيفية تشكل الهويات الوطنية للدول الحديثة باعتبارها هويات مصطنعة، وطريقة بنائها على أساس انتقاء عناصر معينة وتعديل أخرى وتغييب العناصر التي لا تستجيب للحاجات السياسية للدولة في مرحلة تشكلها، ولمصالح الطبقة المهيمنة في تلك المرحلة. وأوردت في هذا الصدد موضوع الشرعية السياسية والأساطير المؤسسة وهوامش المركز التي تنبعث منها أصوات الإحتجاج إلخ.. وأعطيت من ذلك كله أمثلة كثيرة كان منها تغييب الأمازيغية من المؤسسات بعد الإستقلال وانتقاء عناصر"العروبة والإسلام" والبعد الأندلسي كهوية للدولة، والترويج لشعار"وحدة العرش والشعب"، وشعار امتداد تاريخ المغرب إلى 12 قرنا لا غير، ورمزية الأضرحة كمثل ضريح إدريس الأول والثاني وطريقة توظيفهما في الماضي والحاضر، وأسباب المكانة التي يحظى بها الطرب الأندلسي، وأصل الطربوش التركي الأحمر وكيفية تحوله بالتدريج إلى لباس "رسمي" بالمغرب بينما اختفى من تركيا وكلّ البلاد الشرقية التي حكمها العثمانيون. كان الهدف من ذلك كله أن يفهم الطلبة فكرة واحدة هي جوهر ما نرمي إليه من كل هذا النبش في التاريخ، وهي أنّ الشرعية السياسية لا تقوم على رواية معينة للتاريخ توضع تحت الحراسة والمراقبة، وتضع الخطوط الحمراء للقراءة والتأويل و التفسير، وإنما تقوم على تقوية أسس البناء الديمقراطي الذي يحررالسلطة من احتكار التاريخ وحراسته، ويجعل التاريخ مجالا للبحث الحرّ الذي يفلت قدر الإمكان من الذاتية ومن المآرب السياسية الظرفية، ويجعل السلطة في غنى عن صناعة الأصنام وتكريس الأساطير ورعاية التقاليد البالية، ويشحذ ملكة العقل النقدي ويحفز على المعرفة والإكتشاف، وهو ما يعطي على المستوى السياسي تفكيك طوق الإستبداد، وعلى المستوى الإجتماعي تحقيق المساواة وتكافؤ الفرص على قاعدة المواطنة دون تمييز بين "شريف" و"وضيع"، وعلى المستوى الثقافي تحقيق الإنسجام الوطني عبر الشعور بالإنتماء إلى الوطنية المغربية بكل مكوناتها التي تتساوى في قيمتها الإنسانية، وعلى المستوى الإقتصادي تحقيق التوزيع العادل للثروة وإنصاف الجهات المتضررة من سياسة التمركز المفرط. هكذا تنفتح إشكالية الهوية بأسئلتها على كل الأوجاع المغربية الراهنة، والتي لا يحب حراس المعبد القديم إثارتها حفاظا على مصالحهم، مادام الوضع على ما هو عليه ضامنا لهذه المصالح، وخاصة منهم الذين ما زالوا يعضون بالنواجد على شجرات أنسابهم العتيقة. ومن أجل توضيح المعطيات التي اشتغلنا عليها والتي ستنشر مدعومة بالنصوص والوثائق التاريخية، ولتجاوز لغط الغوغاء التي لا تتقن إلا فن التحريض والتهديد، نقدم فيما يلي بعض عناصر الموضوع مرفقا بالأسئلة الجوهرية التي سبق لمؤرخين قدامى وجدد أن طرحوها، والتي يقتضي السياق الراهن البتّ فيها بتأنّ وروية. 1) فبالنسبة للتأريخ ل 12 قرنا من تاريخ الدولة المغربية، وهو تاريخ يبدأ من مجيء إدريس بن عبد الله، لا تسعفنا المصادر التاريخية والتي منها البكري في المسالك والممالك وابن عذاري في البيان؛ وابن أبي زرع في القرطاس، وابن الخطيب في أعمال الأعلام ؛ وابن خلدون في العبر، بما يفيد أن الأدارسة "أول من أسس الدولة المغربية"، بل تؤكد على عكس ذلك من خلال المعطيات التي أوردتها حول الأماكن التي بلغتها جيوش الأدارسة وامتد إليها نفوذهم، أنهم لم يؤسسوا أكثر من "إمارة" ضمن الإمارات المتواجدة آنذاك من حولهم، فقد حلّ إدريس بن عبد الله بالمغرب هاربا من مذابح العباسيين بالمشرق وبويع بوليلي سنة 789م، وهو تاريخ متأخر بالنسبة لتاريخ تأسيس أول إمارة مغربية مستقلة عن الخلافة بالمشرق وهي إمارة بني مدرار الخارجية الصفرية بعاصمتها الشهيرة سجلماسة التي بنيت حسب أغلبية المصادر سنة 757م، كما عرف المغرب الأوسط مبايعة عبد الرحمان بن رستم مؤسس إمارة "الرستميين" بتيهرت، بويع إماما سنة 776 عشر سنوات قبل مجيئ إدريس، وأعلن بدوره استقلاله عن الخلافة العباسية، وسيستمر حكم هذه الإمارة 130 سنة، وتأسست مع ظهور الأدارسة على مسرح الأحداث الإمارة "الصالحية" بشمال المغرب، وظلت جنبا إلى جنب مع إمارة الأدارسة واستمرت إلى القرن الحادي عشر، أما في سهول تامسنا على المحيط الأطلسي فقد امتدت إمارة "برغواطة" منذ سنة 744م إلى 1058م. ولم يستطع الأدارسة قط تجاوز حدود سلا في اتجاه تامسنا حيث لم يستطيعوا الإنتصار على برغواطة. والحقيقة التاريخية الدامغة هي أنّ أول دولة مغربية بالمعنى الحقيقي في المرحلة الإسلامية، والتي اكتسحت هذه الإمارات وحلت محلها جميعها هي دولة المرابطين الأمازيغية الكبرى. يجعلنا هذا نطرح السؤال لماذا إذن يعتبر التاريخ الرسمي أن دولة الادارسة هي بداية الدولة المغربية، ولماذا لا يقال ذلك عن المرابطين؟ الجواب: لأن إدريس علوي عربي قرشي، ورمزيته السياسية بالنسبة للدولة المغربية القائمة حاليا (العلويون) هي رمزية قوية، لأنها تشير إلى العمق التاريخي لتواجد العنصر العربي القرشي على أرض المغرب، فالأمر يتعلق بالشرعية التاريخية للسلطة القائمة والتي تُبنى على رموز يتمّ اصطناعها وتعديلها حسب الحاجة. لكنها لا تمثل الحقيقة التاريخية للدولة المغربية التي يتمّ عكس ذلك إخفاؤها، حيث يتمّ تغييب تاريخ المغرب الماقبل إسلامي، كما يتمّ التقليص من دور العنصر الأمازيغي في المرحلة الإسلامية لحساب العنصر العربي. 2) زد على ما سبق أنّ إمارة الأدارسة لم يكن لها نفوذ فعلي على المناطق التي شغلتها إلا 31 سنة، هي فترة حكم إدريس الأول (5 سنوات) وإدريس الثاني (26 سنة)، لأن التاريخ لم يخبرنا بأن أبناء هذين الأميرين قد قاموا بشيء يذكر بعدهما، سوى تمزيق رقعة الإمارة والتناحر والإقتتال واستمالة القبائل بعضها ضد بعض، بل إن الدولة المزعومة قد انكمشت طوال قرن كامل في فاس وما جاورها، وحلت بالأدارسة محن ونكبات كثيرة اضطرتهم في كثير من الأحيان إلى التحصّن في فاس تحت حصار القبائل الأمازيغية، إلى أن انتهت إمارتهم وتفرقوا في مختلف مناطق المغرب وشمال إفريقيا بظهور المرابطين. 3) في موضوع بيعة إدريس تروى حكاية تبسيطية أشبه بحكايات الأطفال، فقد جاء إدريس من الشرق هاربا وتلقاه البربر بالأحضان وبايعوه ملكا عليهم، هكذا تجعل الحكاية من إدريس بطلا أسطوريا ومن الأمازيغ أناسا أغبياء يعيشون فراغا سياسيا وينتظرون منقذا من السماء، والحقيقة أن المصادر التاريخية تتحدث عن وجود مقدمات تمهيدية لاتصال العلويين بالأمازيغ للتنسيق ضدّ الحكم العباسي، حيث لم يتجه إدريس إلى المغرب إلا لوجود معطيات وفرها أخوه محمد من قبل لعلمه بأن الأّمازيغ معارضون لحكم الخلافة بالمشرق كعادتهم، كما يدلّ على ذلك الدور التنسيقي الذي سيلعبه راشد الأمازيغي من أوربة الشديد الولاء لآل البيت، ومن جهة أخرى فقد تبين بعد موت إدريس الأول بأن التعاقد الموجود بينه وبين أمازيغ أوربة كان تعاقدا سياسيا يستعمل فيه نسب إدريس مع القوة العسكرية لأوربة للسيطرة على القبائل الأخرى والتوسع في اتجاهات مختلفة، وهو تبادل للخدمات سرعان ما أخلّ به إدريس الثاني بعد تقريبه للعنصر العربي على حساب النخبة القيادية لأوربة أي نخبة والده، مما أدّى إلى مقتل زعيم أوربة إسحاق بن عبد الحميد الذي مال إلى التنسيق مع الأغالبة ضد إدريس الثاني، وهو ما يبين أن أوربة لم تتلق إدريس بالأحضان إلا لأنها كان لها مخططها السياسي الذي يحقق لإدريس حلم استعادة الحكم الذي فقده بالشرق، ويحقق لأوربة هيمنتها وسيادتها وسط الأمازيغ، وقد أصبحت معظم قبائل الأمازيغ ضد إمارة الأدارسة بعد إدخال العنصر العربي من الأندلس واستيلائه على مناصب الترؤس والحكم، وكان ذلك من أسباب ضعف الأدارسة السريع بعد موت إدريس الثاني ثمّ انهيارهم تحت ضربات موسى بن أبي العافية. 4) أما أضرحة الأدارسة فمعلوم عند المؤرخين أن قبر إدريس الأول لم "يكتشف" إلا سنة 1318 (توفي سنة 793، أي بعد وفاته ب525 سنة)، كما أنّ ضريح إدريس الثاني لم "يكتشف" بدوره إلا سنة 1437، وهو المتوفى سنة 828، مما يعني أن مدفنه ظلّ مجهولا حوالي 609 من السنين، وقد تمّ ذلك في مرحلة بدا فيها واضحا تجدد الحاجة السياسية إلى رمزية "الشرفاء" ضدّ النزعة المهدوية التي كان يشجعها الحفصيون في شرق المغارب وفي مواجهة عصبية القبائل الأمازيغية وتقاليدها المحلية ولردّ تهديدات الزوايا الزاحفة، والتي أصبحت تحاصر الحكم المركزي من كل جهة. وإذا علمنا أن الطريقة التي "اكتشف" بها قبر إدريس الثاني في العهد المريني كانت عبر "حلم" رآه أحدهم، وإذا علمنا أن أحد حفدة إدريس قد استغلّ مزاره المذكور بعد اكتشافه ليعلن نفسه ملكا على فاس، وإذا علمنا أن المرينيين لم يكونوا يتوفرون على شيء من تقنيات علم الأركيولوجيا ولا معدات تحليل الADN تبين مقدار الحاجة السياسية إلى مزارات وأضرحة الأدارسة، وهو ما يفسر تكريم الشرفاء في هذه المرحلة و تمييزهم إيجابيا عن بقية الخلق ماديا ومعنويا. فالغرض من ذكر هذه الأخبار - التي لم نصطنع منها شيئا، بل هي في بطون الكتب لمن أراد التوسع فيها ليس التشكيك في أنساب الناس أو أجدادهم، ولا دفعهم إلى الفتنة والتباغض، بل فهم التاريخ بمنطق التاريخ لا بالخرافات والأساطير، لأنه لا يمكن المضي نحو المستقبل بإرث ثقيل يستعمل من أجل إعادة المجتمع إلى الوراء. وقد كانت لأضرحة الأدارسة وظائف مكثفة في عهد الدولة العلوية، حيث اعتبرت زيارة السلطان لضريح المولى إدريس بعد بيعته لحظة ذات رمزية قوية، إذ هي بمثابة وصل الحاضر بالماضي. وحتى عندما كان حاكم المغرب في فترة الحماية هو المقيم العام الماريشال ليوطي، فقد جاءه بعض أعيان وعلماء فاس بشموع من ضريح مولاي ادريس لكي يشفى من مرضه وقرؤوا "اللطيف" عند رأسه ودعوا له بالشفاء، وهكذا شملت بركة الإمام إدريس النصارى أيضا، أنظر بهذا الصدد (Didier Madras, Dans l?ombre du Maréchal Lyautey, 1953, page 81) 5) أما عن الطربوش التركي الذي صار وطنيا ورسميا بالمغرب، وكذا الطرب الأندلسي، فالأمر يتعلق بعملية انتقاء قامت بها السلطة لبعض عناصر التراث وبعض المظاهر في اللباس، وسعت إلى ترسيخها في الأوساط الرسمية وداخل المؤسسات على أنها رموز الدولة المركزية الجامعة والموحِّدة، والمشكل هنا هو أن أحد هذه الرموز أجنبي عن المغرب كليا، وهو الطربوش التركي الذي لا علاقة له بثقافة المغاربة عبر القرون، والذين لهم العديد من الألبسة المميزة عن المشرق وعن الغرب الأوروبي، والثاني خاص بالعائلات الأندلسية والموريسكية التي لجأت بعد سقوط الأندلس إلى الضفة الجنوبية التي كانت تدعى "بلاد البربر"، وهو الطرب الأندلسي الذي ظلت السلطة تفرضه على مسامع المغاربة طوال عقود من الزمن يوميا في وسائل الإعلام العمومية وفي رمضان وصباح يوم العيد، على حساب فنون الشعب المغربي الأكثر قربا إلى وجدان الجماهير، وهو ما يعدّ عنفا رمزيا لا غبار عليه، لكنه يجد تفسيره في أنّ رموز الدولة المركزية تتبع لاختيارات السلطة التي يمليها حلفاؤها في فترة معينة. الخلاصة بالمختصر المفيد، أن المغرب يغلي بنقاش عمومي يتناول كل القضايا، وعلى قواه الحية أن تتحلى بالشجاعة المطلوبة لكي تشيع في المجتمع قيم الفكر الديمقراطي العصري الذي عماده المساواة والحرية والعقلانية، ولكي يتمّ ذلك لا بدّ من فهم الماضي فهما يجعلنا نتخذ مسافة منه، لكي لا يتحول بكل مساوئه من جديد إلى مستقبل.