في إحدى الزوايا السفلى لصفحة تائهة بدون هوية من كتاب "ابن أبي محلي الفقيه الثائر ورحلته الإصليت الخريت"، كتب الأستاذ الجليل عبد المجيد القدوري، إهداءه المفعم بالاعتراف بالجميل... بالمشاعر النبيلة...... بالعاطفة الجياشة اتجاه والديه.. بعمق حزنه الدفين... كتب ما يلي: "إلى روحي والديَّ"، وليس "إلى روح والدتي"، كما ورد في إحدى المقالات. أصل هذا الكتاب رسالة جامعية لنيل دبلوم الدراسات العليا في التاريخ الحديث، ناقشها عبد المجيد القدوري سنة 1984 برحاب كلية الآداب بالرباط، أشرف عليها الدكتور محمد حجي رحمه الله، وضمت لجنة المناقشة كل من الأستاذين العربي مزين وأحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الحالي، الذي كان وقتها أستاذا بالكلية نفسها. نال العمل ميزة مشرف جدا، مع التوصية بالطبع، وبعد حوالي سبع سنوات تم إصدار هذه الرسالة عن مطابع "منشورات عكاظ" بالرباط. العنوان الكامل لكتاب ابن أبي محلي هو "الإصليت الخريت بقطع بلعوم العفريت النفريت"، وقد حقق الأستاذ القدوري الجزء الخامس منه، والمتعلق برحلة ابن أبي محلي إلى مصر والحجاز. تناول فيه المؤلف مجموعة من القضايا التي شغلته وشغلت أهل عصره، فتحدث عن سجلماسة وما لحقها من دمار، وعن الفقهيات، وعن التصوف، والجهاد ضد "الطاغوت المسيحي"، وعن معركة وادي المخازن، وعن الجهاد البحري، وعن غير ما ذكر. وفي ما يتعلق بابن أبي محلي، فهو أحمد بن عبد الله بن محمد بن القاضي بن أبي محلي، ولد بسجلماسة سنة 1559م. انطلقت ثورته على الدولة السعدية زمن المولى زيدان بن أحمد المنصور الذهبي، حيث حقق عدة انتصارات على الجيش السعدي خلال زحفه على عاصمة الدولة، مدينة مراكش، وكانت نهايته على يد أبي زكرياء الحاحي بمنطقة جليز سنة 1613م. فيما يرجع إلى إهداء "الإصليت الخريت"، قد تم التساؤل عن "العلاقة المنطقية أو النظيمية التي تربط بين عنوان ومضمون" هذا العمل الأكاديمي و"إهداء المؤلف"؟ سؤال مشروع. قد يتفق الجميع، على عدم وجود "علاقة منطقية أو نظيمية"، بين العنوان والإهداء. وأنا هنا غير مستعد لأنتصب محاميا مدافعا عن أستاذي الجليل عبد المجيد القدوري، أو حتى عن المؤرخ الفاضل عبد الحق المريني، صاحب كتاب "الجيش المغربي وتطوره في القرن التاسع عشر" وإهدائه الذي قيل إنه حول "العمل الأكاديمي إلى ألبوم عائلي بدون صور...". إلا أن هذا الإهداء رجع بي إلى سنة 1997، عندما كان الأستاذ عبد المجيد القدوري، عضوا في لجنة مناقشة رسالة أعددتها تحت إشراف الأستاذ المرحوم عبد الرحمن الموذن، لنيل دبلوم الدراسات العليا في تاريخ المغرب الحديث، بكلية الآداب بالرباط، بعنوان "جيش العبيد والدولة المغربية منذ التأسيس إلى سنة 1757م". أثناء تقديمي لعرضي، ختمته بإشارة ذكرت فيها ما ورد في الأثر عن الرسول الأكرم (ص) حين قال، ما معناه، أنه شيبته سورة هود، وما شيبه فيها،"استقم كما أمرت"، وتابعت، أما أنا فقد شيبني هذا الموضوع بسبب قلة مادته التاريخية، وصعوبة، بل تعذر الإجابة على مجموعة من الإشكالات بشكل مقنع، بسبب ذلك، عندها قاطعني الأستاذ عبد المجيد القدوري قائلا: أنت الذي شيبت هذا... وأشار بأصبعه إلى والدي رحمه الله، الذي كان جالسا قبالته... فابتسم الحضور... كان أستاذي عبد المجيد صادقا في ما قال... لقد شيبت الوالد منذ التحاقي بالابتدائي، فالإعدادي والثانوي، والجامعي، وبعد حصولي على الإجازة أخبرته بأني أرغب في متابعة دراستي العليا بالرباط، فقال لي رحمه الله، سأكون لك عونا في ما أستطيع... حصلت سنة 1991 على شهادة استكمال الدروس، وسجلت رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا، استغرقت في إعدادها حوالي ست سنوات... تحمل الوالد تكاليف هذه المسيرة المكلفة، والرحلات المكوكية اليومية بين العاصمة الرباط وضاحية المحمدية، مما قل أو كثر مما رزقه الله، حيث كان مستخدما بسيطا في أحد المعامل بمدينة المحمدية، فكان رحمه الله حريصا على تلبية كل متطلباتي، شريطة أن أكمل دراستي... فكيف لا أهديه، ليس جملة تائهة على صفحة منسية من عمل أكاديمي... بل وسام الفدائي الذي قاتل من أجلي، وأنا الذي لا أملك وقتها قوت يومي... ومن أجل عمل أكاديمي، اعتز هو به قبلي... لن أعاتبك، أستاذي الجليل عبد المجيد القدوري، عن إهدائك لروحي والديك... ولكن أعاتبك لأنك لم تكتب العبارة بماء الذهب، وسط صفحة مرقمة... لأنك تملك سر معنى "وبالوالدين إحسانا...". أما المؤرخ الفاضل عبد الحق المريني، فإني أشهد أنه يقدر الباحثين والدارسين وأهل العلم، فقبل سنوات قليلة، تقدمت إلى مكتبه بطلب خطي، من أجل إبداء الرأي في بعض ما احتوى عليه مصنف أعددته، في أقل من ثلاث ساعات، اتصل بي هاتفيا، ودار بيننا حوار أعتز به. وفي السنة الماضية بعد طبع الكتاب بعثت له بنسخة منه، مرة أخرى وعلى عجل تواصل معي شاكرا ومهنئا... وأنا نكرة من أطراف المدينة... الرجل يعلم علم اليقين أن البحث العلمي يكون على حساب ما أعتبره شخصيا "هدر الزمن العائلي"... فالمحيط العائلي، أو ما سماه صاحب المقال ب"الألبوم العائلي"، يشمل أهل الفضل من المقربين... وعلى حساب حقوقهم تبنى المعرفة... فتحياتي الخالصة إلى فدائيي الظل... الوالدة والوالد وما ولدا... ولكل من تحمل وصبر لتستمر مسيرة العطاء المعرفي... وأما من لهم بصمة على الإنتاج والإبداع الأكاديمي فلهم صفحات الشكر والثناء...