أصبح من الشائع أن يطالع القارئ عند تصفحه لأي كتاب، خاصة إذا كان إصدارا أكاديميا أو علميا، عبارات التنويه والثناء التي يهديها صاحب الكتاب أو الإصدار إلى أحد أفراد عائلته من أصول أو فروع، فهذا يهدي مؤلفه إلى روح والديه، والآخر يهدي كتابه إلى أحد أبنائه أو بناته، وهناك من يدبج إهدائه إلى زوجته الغالية... ولعل هذه الظاهرة التي تناسلت بشكل كبير في قطاع النشر والتأليف تتناقض مع ما جرت به الأعراف الأكاديمية والفكرية التي درجت على تخصيص الإهداء لشخصيات أو أشخاص مرتبطين بالمجال الأكاديمي أو الفكري؛ إذ يقوم صاحب المؤلف، سواء كان أكاديميا أو كاتبا أو مؤلفا، بإهداء باكورة منتوجه الفكري لأستاذ أشرف على مواكبة هذا المنتوج أو قدم له معطيات ساعدته في بلورة هذا العمل. وبالتالي يكون الإهداء متساوقا مع المكانة العلمية أو الصفة الأكاديمية لهذه الشخصية، ومتناغما مع مضمون ومسار العمل المهدى. وفي هذا السياق، يأتي هذا الإهداء في إطار أكاديمي، فهو لا يقتصر فقط على نوع من الاعتراف بالجميل أو نوع من المجاملة الفكرية، بل إن هذا الإهداء يشكل إضافة إلى القارئ أو المقتني للكتاب أو الإصدار، حيث يتعرف من خلال هذا الإهداء على أسماء فكرية أو أكاديمية ساهمت من قريب أو بعيد في بلورة مثل هذه الأعمال. كما أن هذا النوع من الإهداء عادة ما يقوي الوشائج الفكرية والشخصية بين المؤلفين والكتاب، ويقوي أخلاقيات هذه المهنة الفكرية من خلال تداول هذا النوع من المجاملات الأكاديمية بين المؤلفين وتبادل هذه "الهدايا" الفكرية بينهم، مما يجعل هذا النوع من الإهداءات غير نشاز ضمن هذه البيئة الفكرية، كما لا يغبن أو يغمط حق المقتني في قراءة إهداءات شخصية لا تمت لمضمون الكتاب بصلة. ولعل هذا ما يتناقض مع ظاهرة الإهداءات الشخصية التي أصبحت تتصدر العديد من المؤلفات والكتب الصادرة عن بعض دور النشر بالمغرب. فعلى سبيل المثال، يتساءل المرء عن العلاقة المنطقية أو التنظيمية التي تربط بين عنوان ومضمون "ابن محلي الفقيه الثائر ورحلته الإصليت الخريت" وإهداء المؤلف "إلى روح والدتي"، أو بين عنوان "السياسة، السوق، الديمقراطية" وإهداء المؤلف "إلى أمي وزوجتي، وأبنائي نزار وإلياس ومنال، ورانيا مع كامل المحبة"؛ الشيء الذي حول الإصدار إلى دفتر للحالة المدنية بدل أن يكون منتوجا فكريا. وما الذي يقارب بين عنوان كتاب "الجيش المغربي وتطوره في القرن التاسع عشر" وإهداء "إلى زوجي، وبناتي وأخي وإلى ياسين وهشام"، محولا هذا العمل الأكاديمي إلى ألبوم عائلي بدون صور... ثم ما الذي يربط بين عنوان مؤلف "المخزن، والضريبة، والاستعمار ضريبة الترتيب 1880 -1915..." والإهداء المتصدر لهذا العمل الموجه من طرف الكاتب إلى "زهرة، طه، وندى". إن هذه الظاهرة الإهدائية التي انتقلت بطبيعتها من مجال الفكر والبحث والحفر الأكاديمي والفكري إلى المجال الأسري والعائلي، تعكس إلى حد كبير هذا القفز (غير الابستمولوجي) من مجال ذي طبيعة موضوعية وعمومية إلى مجال ذي طبيعة شخصية وخصوصية. وبالتالي، يطرح التساؤل عن السلطة التي خولت للمؤلف أن يفرض حياته الخاصة وعواطفه الشخصية على قارئ يقتني منتوجا يبحث فيه عن معطيات ومعلومات وتحاليل مؤلفه أو مؤلفته وليس عن أسماء أفراد عائلته أو عائلتها. ورب معترض قد يدفع بأن المؤلف أو هذه الكاتبة التي هي شخصية ذات طبيعة إنسانية وتدور في محيط عاطفي وأسري من حقها أن تعبر عن أحاسيسها لأفراد وأقرباء تكن لهم كل آيات المحبة والامتنان، لكن يرد على ذلك بأن هذا الحق مكفول لكن يمكن أن تتم صياغته بشكل شخصي، حيث يمكن أن يدبج المؤلف نسخا من منتوجه بخط يده لكل أصوله وفروعه وأحبائه...، وسيكون وقع ذلك من الناحية العاطفية أكثر تأثيرا وأكثر حميمية على أقربائه وأحبائه دون أن يحمل المقتني لكتابه شراء صفحة أو ورقة لا تمت بصلة لمضمون الكتاب ولا تفرض عليه التعرف بشكل قسري على مكونات أسرة هذا الكاتب أو أسماء أفراد عائلة هذه المؤلفة. ولعل هذا السلوك من طرف بعض مكونات الطبقة المتنورة في البلاد يعكس في العمق منظومة فكرية وثقافية متجذرة عادة ما تخلط بين الشخصي والعمومي في سلوكها السياسي أو الاقتصادي؛ إذ إن تاريخ المغرب السياسي عادة ما يحفل بسلاطين وملوك أطلقوا أسماء بعض أقاربهم وقريباتهم على منجزات عامة من شوارع ومساجد وغيرها، كما نجد السلوك نفسه في المجال الاقتصادي، ولا أدل على ذلك من إطلاق اسم أبناء وبنات بعض المنعشين العقاريين على إقامات سكنية، كإقامة سوسن أو إقامة نرجس أو زينب أو المهدي... دون أن تعترض أي سلطة على ذلك على غرار عدم اعتراض أي ناشر على تصدير كتاب بإهداء في اسم قريب أو قريبة هذا المؤلف أو ذاك.