لا شك أن "قسما مهما من التراث الفكري المغربي ذو هوية صوفية، وأن جله ما زال مخطوطا وغير محقق على الرغم من مكانته العلمية والفكرية وما أنجز وما ينجز حوله من أبحاث دراسة وتحقيقا"، بهذه الكلمات قدم الأستاذ الدكتور مولاي عبد الوهاب الفيلالي لهذا الإصدار الفكري القيم في باب خدمة التراث المغربي الأصيل، مؤكدا أن اختيار الأستاذ الدكتور مصطفى الحكيم لمخطوط: "عقد نفائس اللآل في تحريك الهمم العوال إلى السمو إلى مراتب الكمال" لصاحبه الطيب بن كيران موضوعا للدراسة والتحقيق هو "اختيار موفق" لعدة مبررات موضوعية تضمنها تقديم الأستاذ الدكتور مولاي عبد الوهاب الفيلالي لهذا الإصدار الفكري القيم. وهي شهادة في حق الكتاب وصاحبه صادرة من خبير في الدراسات الصوفية في المغرب وواحد من كبار الباحثين المغاربة المتخصصين في الإبداع الصوفي في الأدب المغربي. هكذا، يؤسس العمل الأكاديمي الذي قام به الأستاذ الدكتور مصطفى الحكيم مشروعيته العلمية ومكانته الفكرية من خلال العتبات الأولى للعمل، فمن خلال عنوان المؤَلف: " الرؤية الصوفية عند الشيخ الطيب بن كيران: معالم وحقائق. وتحقيق كتابه: عقد نفائس اللَّآل في تحريك الهمم العَوال إلى السُّمُو إلى مراتب الكمال"، يبدو جليا حجم الجهد الكبير الذي يحتاجه مثل هذا العمل الشاق، ومن الواضح كذلك أن همة الأستاذ المحقق الدكتور مصطفى الحكيم عالية في إخراج هذا المتن الصوفي المغمور من رفوف النسيان والإهمال إلى عوالم النور والضياء ليبرز للعيان ويكون متاحا بين أيدي الباحثين والدارسين، خاصة إذا استحضرنا صعوبة المتن الصوفي ووعورة مسالكه، أدركنا أن تحقيق مثل هذه النصوص الصوفية المغمورة مغامرة محفوفة بالمخاطر وكثيرة المزالق، وذلك ما يفسر ندرة الأعمال الأكاديمية التي تركب الصعب وتختار تحقيق متون صوفية موغلة في التعقيد والغرابة والغموض، فأن يتجاوز المحقق عناء التحقيق لينجز دراسة علمية موسعة ومتكاملة حول فكر صاحب المخطوط، فهنا نصبح أمام عمل أكاديمي متميز يكشف عن مؤهلات فكرية ومنهجية عند الباحث، ولا شك أن المغرب يزخر بباحثين شباب لهم همم عالية في البحث العلمي ووطنية صادقة لخدمة الفكر المغربي أمثال الباحث الدكتور مصطفى الحكيم، فمن خلال كتابه: "الرؤية الصوفية عند الشيخ الطيب بن كيران"، تتضح غيرته الوطنية على التراث المغربي وعزمه على إخراج كنوز هذا التراث إلى الوجود، فنجده يقول في مقدمة كتابه: "ونحن إذ نشحذ همة البحث وطاقة العقل في إخراج هذه التحفة الصوفية والشرعية "عقد نفائس اللآل في تحريك الهمم العوال إلى السمو إلى مراتب الكمال" لنؤكد على أهمية الاهتمام بآثار من سبقونا، والاعتناء بإخراجها ونشرها، لنطلع الأجيال المسلمة على الرصيد المعرفي والتربوي الضخم الذي أثله أئمتنا وعلماؤنا على طول مسيرتهم المباركة، وخاصة صوفية وعلماء المغرب الذين عانت مؤلفاتهم ولا تزال تعاني من التهميش والنسيان، وقد تركت تقاسي الأرضة على رفوف المكتبات الخاصة والعامة" (ص: 10 و11). ولا يخفى ما في هذا الكلام من حرقة يستشعرها الباحث أمام الإهمال الذي طال ذخائر التراث المغربي، وفي الآن نفسه يشمر عن ساعد الجد للقيام بالواجب تجاه هذا التراث. وواضح كذلك من خلال عتبة غلاف الكتاب العناية الكبيرة التي خصته بها دار النشر، فالكتاب من منشورات دار الكتب العلمية ببيروت/لبنان، بغلاف أنيق ملون ومزخرف وورق مقوى فاخر، نُحت عليه العنوان بشكل بارز وبخط عربي جميل ملون وواضح، يثير انتباه القارئ بتعدد ألوانه التي تتناوب بين الأزرق والأصفر والأحمر والبرتقالي، إلى جانب صورة لإحدى قباب مسجد ومناراته وزخارفه، حيث لا يمكن للقارئ العادي فضلا عن المتخصص أن يمر على الغلاف دون أن يثير انتباهه هذا التنسيق البديع والتشويق البليغ لموضوعه ومحتواه، ويأتي "الإهداء" عتبة أخيرة بعد العنوان والغلاف؛ ليعزز معاني جديدة ترتبط بصاحب العمل، حيث أهدى الكتاب للوالدين ولكل من أشرف على تكوينه العلمي من أساتذة ومرشدين وإلى كل باحث في المجال، ثم ختم الإهداء بالصلاة على خير الورى محمد صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت كلمات الإهداء في قالب شعري بديع مكون من تسعة أبيات غاية في الجمال والروعة، حيث نجح الإهداء في تهييئ القارئ نفسيا لولوج عالم الكتاب بخصوصيات التصوف حيث قيم الوفاء والاعتراف والتواضع والشكر، وغيرها من قيم المحبة التي كشفت عنها كلمات الإهداء الذي استهل به المؤلف الأستاذ الدكتور مصطفى الحكيم كتابه القيم. وهكذا، نخلص إلى أن الانطباع الأولي لعتبات هذا الإصدار الفكري القيم هو انطباع إيجابي، تتضافر فيه جهود المؤلف مع الاهتمام الكبير الذي أولته دار الكتب العلمية لهذا الإصدار المتميز. بعد تأمل عتبات كتاب: "الرؤية الصوفية عند الشيخ الطيب بن كيران: معالم وحقائق. وتحقيق كتابه: عقد نفائس اللَّآل في تحريك الهمم العَوال إلى السُّمُو إلى مراتب الكمال"، لمؤلفه الأستاذ الدكتور مصطفى الحكيم، ننتقل لفحص محتواه وبيان موضوعه: جاء الكتاب في قسمين وثلاثة فصول وخاتمة، وذلك بعد تقديم الأستاذ الدكتور مولاي عبد الوهاب الفيلالي، ومقدمة للمؤلف، وخُتم الكتاب بفهارس عامة تيسر الاستفادة من محتواه، ويظهر حجم الجهد الكبير الذي بذله المؤلف في إعداد هذه الفهارس خدمة للمتن الصوفي المحقق، ويتعلق الأمر بفهارس: أوائل الآيات القرآنية، وأوائل الأحاديث القدسية، وأوائل الأحاديث النبوية، وأوائل الموقوفات والمأثورات، والشواهد الشعرية، والأعلام، والكتب، والمصطلحات، ثم قائمة المصادر والمراجع. خصص المؤلف الأستاذ الدكتور مصطفى الحكيم القسم الأول من إصداره: "الرؤية الصوفية عند الشيخ الطيب بن كيران: معالم وحقائق، وتحقيق كتابه: عقد نفائس اللآل في تحريك الهمم العوال إلى السمو إلى مراتب الكمال"، للدراسة، وجعل القسم الثاني للتحقيق. تناول القسم الأول الحديث عن خصائص العصر الذي عاش فيه الشيخ الطيب بن كيران وذلك من الناحية السياسية والاجتماعية وتفصيل القول في الحياة الصوفية والعلمية والفكرية، ثم تعرض المؤلف لحياة هذا الشيخ فأبرز سيرته العلمية ورؤيته الصوفية، مختتما هذا القسم بالتعريف بكتاب "عقد نفائس اللآل في تحريك الهمم العوال إلى السمو إلى مراتب الكمال"، ووصف النسخ المعتمدة في التحقيق ومنهجية خدمة متن هذا الكتاب وإخراجه للوجود بالصورة المثلى التي تليق بقيمته العلمية والفكرية. أما القسم الثاني فخصصه الأستاذ الدكتور مصطفى الحكيم لتقديم المتن المحقق من كتاب: "عقد نفائس اللآل في تحريك الهمم العوال إلى السمو إلى مراتب الكمال" لصاحبه الشيخ الطيب بن كيران (ت1227ه). ليوفر بذلك للباحثين متنا صوفيا من ذخائر التراث الصوفي المغربي، يمكن اعتماده في دراسة مقومات الفكر المغربي في أعمال أكاديمية مقبلة. وبعد هذين القسمين، أورد الأستاذ الدكتور مصطفى الحكيم خاتمة ركز فيها على أهم النتائج والخلاصات التي أسفر عنها تحقيق المخطوط والغوص في أعماق الرؤية الصوفية للشيخ الطيب بن كيران، وكشف معالمها وحقائقها، حيث دعا في هذه الخاتمة إلى القول بنظرية وحدة العلوم الإسلامية تأسيسا على منهج الجمع، مدعما هذه النظرية بأصلين؛ هما: وحدة الغاية والمقصد، ووحدة المشرب والمورد، الأولى يراد بها ارتباط فهم الخطاب الشرعي بقصد العمل لا الجدل، والثانية استمداد الفهم من مصدر واحد هو القرآن والسنة. ليترتب عن هذه النتيجة ضرورة تمحيص التراث العلمي الإسلامي لتمييز صالحه من فاسده، وفق منهج نقدي رصين ومتكامل، حيث مثَّل الشيخ الطيب بن كيران نموذجا حيا للعلماء الذين رفعوا لواء هذا المنهج وانتصروا لروح التجديد والإحياء ودافعوا عن هوية الدين الجامعة ورسالته الخالدة حافظا قائما ومجاهدا. ومما يعزز من قيمة كتاب " الرؤية الصوفية عند الشيخ الطيب بن كيران: معالم وحقائق. وتحقيق كتابه: عقد نفائس اللَّآل في تحريك الهمم العَوال إلى السُّمُو إلى مراتب الكمال"، كون مؤلفه الأستاذ الدكتور المصطفى الحكيم باحث أكاديمي متخصص في الدراسات الصوفية وعضو مركز ابن غازي بمدينة مكناس، وعضو المركز الأكاديمي الدولي للدراسات الصوفية والجمالية بمدينة فاس، وقد أنجز مجموعة من الأعمال الأكاديمية التي تخدم التراث المغربي والفكر الإسلامي عموما. أخيرا، إن كتاب: " الرؤية الصوفية عند الشيخ الطيب بن كيران: معالم وحقائق. وتحقيق كتابه: عقد نفائس اللَّآل في تحريك الهمم العَوال إلى السُّمُو إلى مراتب الكمال" أصبح متاحا لكل الباحثين، ويسيرا لكل قارئ عربي، غير أنه لم يخرج من رفوف الخزانة، إلى أيدي القراء، ليعود مرة ثانية، أسيرا في مكتبة المنزل، أو حتى داخل محفظة طلاب الجامعة، بل خرج لتعميق النقاش في الدرس العلمي والصوفي بالمغرب.. فالذي يعاب على الباحثين هو تقصيرهم في تقديم دراسات لهذه الكتب المحققة، حيث إن الباحث المغربي عادة ما يتعامل مع الكتاب بشكل براغماتي وفكر ضيق الأفق، حيث لا يلتفت إلا لما يخدم بحثه أو دراسته، أما إضاءة عتمات في الفكر الإسلامي المغربي، أو الإسهام في الحركة العلمية بالمغرب، فلا تهمه في الوقت الراهن، بحجة ضيق الوقت، وأولويات البحث، وإكراهات الزمن الصعب، على أن متعة الحياة تكمن في اقتناص لحظات من هذا الزمن، يقضيها المرء في قراءة كتاب" الرؤية الصوفية عند الشيخ الطيب بن كيران: معالم وحقائق. وتحقيق كتابه: عقد نفائس اللَّآل في تحريك الهمم العَوال إلى السُّمُو إلى مراتب الكمال"، فهو كتاب جدير بالقراءة والتأمل، وتحفة لا يستغني عنها كل باحث في التصوف والفكر الإسلامي المغربي.