أهداني ذ. أحمد متفكر نسخةً من تحقيقه لكتاب العلامة المراكشي عباس بن إبراهيم السملالي التعارجي حيث قام بتحقيقه وإخراجه في أحسن حلّة مُوثّقاً مدعماًَ بفهارس عديدة وهوامش توضيحية وإحالات مفيدة، وقد صدر في جزئين عن المطبعة والوراقة الوطنية بمركش بعنوان «إظهار الكمال في تتميم مناقب سبعة رجال» وما كادت هذه النسخة الغالية تصلني حتى استغرقتُ في قراءتها، فلمؤلفها الشكر الجزيل، على ما أتاحه لي من متعة وفائدة، كعادتِه وهو يتابع ما بدأه من مسار البحث والتحقيق والكتابة والتأليف حول تراث مدينة مراكش العلمي والحضاري والصّوفي عبر حقب تاريخها الحافل. يندرج هذا الكتاب في إطار تاريخ التصّوف في المغرب، وهو تاريخ حظي بالبحث والتنقيب، والتّصنيف والتحقيق، سواء في مجال الكتابات الحرّة والمبادرات العلمية لثلة من الباحثين والدارسين، أو في ميدان الدراسات الأكاديمية بجامعاتنا المغربية أو في الجامعات الغربية. ولما كان التاريخ والتّصّوف حقليْن كثيراً ما يتداخلان ويتكاملان، لاسيما إذا أضفنا إليهما تاريخ الأدب بصفة خاصّة، فقد اهتمّ بهذا الموضوع مؤرّخون ونقاد أدبيون ودارسون للتصوّف. ولعلّ مجال التحقيق العلمي للتراث الصّوفي المغربي من أبرز مجالات مقاربته العلمية، وقد حقّقت حتى الآن أمّهات المؤلفات الصّوفية المغربية، ولاتزال أمّهات أخرى في حاجة إلى التحقيق. ويكفي أن نشير هنا إلى «النّفائس الكتانية» التي أنافت على خمسين مؤلّفاً صوفياً نفيساً، وما قام بتحقيقه، كذلك، الأساتذة أحمد التّوفيق وأحمد الكنسوسي ومحمد حجي وسعيد الفاضلي وحسن جلاب وعبد الله الكامل الكتاني وحمزة بن محمد الكتاني ومحمد الشريف حمزة بن علي الكتاني وعبد المجيد خيالي وإدريس عزوزي وغيرهم. وإذا كان التحقيق العلمي مصحوباً في الغالب بدراسات وافية فإنّ كتابة تاريخ التصوّف في المغرب تبقى في حاجة إلى عمل جماعي يستثمر كل ما كُتب في الماضي وما حقّق من مؤلفات وكل ما تميّز بالمصداقية العلمية من الدراسات الحديثة والمعاصرة من أجل صناعة موسوعة صوفية مغربية تضمّ التّاريخ والنّصوص المرجعية والتحليل العلمي في آن واحد. فإنّ غنى وسعة ودلالات التصوّف الإسلامي في المغرب جدير بذلك ولاشك. ولعلّ كتاب ذ. علال الفاسي رحمه الله عن «التّصوف الإسلامي في المغرب» من بواكير البحث العلمي في هذا التّاريخ، وهو يستحق بالفعل دراسة متأنّية. لكن الكتاب الجديد بتحقيقه ينتمي إلى تراثِ خاصّ ضمن هذا التراث الصّوفي المغربي النّفيس، فهو حديث علمي موثّق عن سبعة رجال مراكش الذين كتب عنهم الكثير، ومن الكتب التي ترجمت لهم: « درر الحجال في مناقب سبعة رجال» لمحمد الصغير الإفراني المراكشي، تحقيق د. حسن جلاب، و«بادرة الاستعجال في مناقب السبعة رجال» لمحمد الغالي بن المكي الأندلسي وهو لايزال مخطوطاً و«رسالة في التعريف بسبعة رجال» لعبد الواحد بن محمد بن المواز (ت 1318ه / 1900م) ولايزال مخطوطا كذلك و«سبعة رجال» للدكتور حسن جلاب.. ومن أهمّ الكتب التي خصّت هؤلاء الصّلحاء السبعة بالترجمة الكتاب الذي بين أيدينا وهو للعلامة المؤرخ القاضي عباس بن إبراهيم التعارجي المراكشي رحمه الله تعالى، شرح به قصيدته الرّائية من بحر البسيط، وقد نظمها في مناقب سبعة رجال مراكش، فتوسع في التعريف بكل واحد منهم كما قال ذ. أحمد متفكر وبعد انتهائه من ترجمة الرجال السبعة التي هي جوهر الكتاب، انتقل للكلام عن إجازات شيوخه له، وما قاله فيهم من شعر، ثم تكلم عن تاريخ مدينة مراكش وبعض معالمها التاريخية، وختم بتقاريظ بعض العلماء لكتا به، والمحقق لم يثبت هذا الفصل في المتن المحقق حفاظا على سياقه الذي من أجله ألف الكتاب وهو تراجم سبعة رجال مراكش الذين هم على التوالي وحسب ترتيب زيارتهم: يوسف بن علي (المبتلى) الصنهاجي، والقاضي عياض بن موسى اليحصبي السبتي، وأبو العباس السبتي، ومحمد بن سليمان الجزولي، وعبدالعزيز التباع الحرار، وعبدالله الغزواني، وعبدالرحمان بن عبدالله السهيلي. وقد اعتمد ذ. أحمد متفكر في تحقيق هذا الكتاب على نسختين: النسخة المخطوطة بالخزانة الحسنية بالرباط والنسخة الحجرية مع استئناسه بكتاب «الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام» لنفس المؤلف، وقد رجع المحقق إلى الكتب التي أمكنه الوقوف عليها، كما خرج الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية الشريفة، ووثق النصوص، ونسب الأشعار إلى أصحابها، وعرف بالأعلام البشرية جهد المستطاع، مذيلا الكتاب بفهارس للآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والأعلام والكتب والأماكن. وضمن تقديم هذا التحقيق ترجمة للمؤلف مع ذكر مؤلفاته المطبوع منها والمخطوط. وقد أجاد وأفاد، وأمتع وأقنع، فله جزيل الشكر ووافر التقدير. ومجمل القول إن كتاب «إظهار الكمال بتتميم مناقب سبعة رجال» كتاب طريف ممتع، ومن وجوه طرافته وإمتاعه أن مؤلفه يشرح قصيدته الرائية في مدح سبعة رجال مراكش رضي الله عنهم وذكر مناقبهم وفضائلهم ومقاماتهم، مازجا ذلك الشرح بالتحليل البلاغي النقدي لأبيات هذه القصيدة، فيشعر القارئ بمتعة كبيرة وهو يتنقل بين نوعين من المقامات: مقامات هؤلاء الرجال الصوفية والعلمية، من جهة، ومقامات علوم العروض والنحو والبلاغة واللغة والتصوف من جهة وأخرى، على نحو يجمع جمعا جميلا لطيفا بين الحديث عن العرفان والمناقب والمجاهدات والشعر وجمال الكلمات والصورة الفنية وبيان اللغة. وقد كان المؤلف بارعا في استخلاص درر التصوف والشعر معا، حيث اهتم اهتمام الناقد الخبير بالجانب الجمالي للقصيدة مبرزا سموها البلاغي، وبراعتها الفنية من خلال التحليل اللغوي والبلاغي والعروضي لأبياتها. وكلما ذكر مسألة نحوية أو بلاغية أو عروضية استعرض أقوال كبار العلماء فيها، سواء من المغرب أو المشرق، واقتبس من مولفاتهم ما يوضح وجه الصواب فيها، مدليا برأيه، ومرجحا ما يتطلب الترجيح في نظره. وقد شرح مقامات صوفية عديدة، مستدلا بنصوص القرآن الكريم والسنة الطاهرة، كمقام الشكر، ومقام الصبر، ومقام الرضا، مستمدا المادة العلمية لشروحه من كتب مرجعية في علم السلوك كما فعل بالنسبة للجانب الجمالي الشعري للقصيدة مثل «إحياء علوم الدين» لأبي حامد الغزالي، و «النصيحة الكافية» و «قواعد التصوف» و «عدة المريد» للشيخ أحمد زروق، و «الحكم العطائية» لابن عطاء الله السكندري. وتبرز قدرات المؤلف النقدية والبلاغية والعروضية، وهو يحلل قصيدته تحليلا أدبيا استثمر فيه علوم البيان والبديع والمعاني، ووظف فيه الإعراب والنحو ومعاجم اللغة والآيات القرآنية والأحاديث النبوية والشواهد الشعرية، وكل ذلك من أجل التوضيح والتمثيل، والتقرير والتحرير، متوقفا عند كثير من المصطلحات والمفاهيم العروضية والبلاغية في أثناء شرحه، كاشفا عما تضمنته من وجوه الجمال الشعري، فضلا عن جمال المقامات الصوفية الذي مهد له بحديث مستفيض مؤسس على قواعد علمية عن الولاية والكرامة والتوسل وزيارة الصالحين، وقبل ذلك عن سبب تسمية سبعة رجال بهذا الاسم ولمحة تاريخية عن زيارتهم وترتيبها وآدابها وما يتعلق بذلك من أصول وإحالات مرجعية مهمة. بهذا تنضاف إلى المكتبة الصوفية المغربية درة أخرى محققة مجلوة متلألئة، يعتز بها العالم والصوفي والمثقف بصف عامة.