أكد الدكتور محمد أجواو، أستاذ في جامعة أمستردام الحرة، ورئيس هيئة العناية الروحية الإسلامية في وزارة العدل الهولندية، أن العلمانية بالمغرب تقع بين منزلتي التهويل والتهوين، تهويل مناوئيها وتهوين أنصارها، مبرزا أن "العلمانيين والإسلاميين لا يستشعرون وزنهم في المجتمع، ما دام كل واحد يرى أن الآخر هو المهيمن". وأفاد أجواو، في مقال خص به هسبريس، أن العلمانيين ينطلقون من فرضية أن العلمانية أجدر بتحقيق رفاهية الفرد وتقدم المجتمع، ولذا وجب تطبيقها في الواقع، فيما الإسلاميون يدقون ناقوس الخطر، باعتبار أن الإسلام في تراجع رهيب، والعلمانية قد طغت مما يوجب معه الاستنفار لوقف هذا الخطر". وفيما يلي نص مقال الدكتور محمد أجواو كما توصلت به هسبريس: اشتد النقاش على صفحات جريدة هسبريس الإلكترونية في الآونة الأخيرة حول مدى تمكن كل من الدين من جهة والعلمانية من جهة أخرى من الفرد والمجتمع في المغرب، فطبقا للمقالات المنشورة وآراء القراء يبدو أن مؤيدي العلمانية مصرون على أن مجال العلمانية ضيق للغاية، وأن الدين هو المسيطر. العلمانيون ينطلقون طبعا من فرضية أن العلمانية أجدر وأولى لتحقيق رفاهية الفرد وتقدم المجتمع، ولذا وجب إنزالها إلى الواقع إما بالحوار والإقناع، وإما عن طريق القانون والتشريع. أما معارضو العلمانية، لنقل الإسلاميون كما يوصفون بكل أطيافهم من رجال الدين وممثُلي المؤسسة الدينية عامة، فهم يدقون ناقوس الخطر باعتبار ، كون الدين أي الإسلام في تراجع رهيب، وأن العلمانية قد طغت مما يوجب معه الاستنفار لوقف هذا الخطر. إن من حسنات هذا النقاش هو مساهمة كلا الجانبين مشكورين في إثراء تعريف مفهوم العلمانية أو على الأقل كشف التصورات الشائعة حول هذا المفهوم في المحيط الإسلامي. فمن المعلوم أن مفهوم العلمانية نشأ في التربة الغربية وترعرع في المحيط الغربي ثم حاول سوسيولوجيو الأديان وغيرهم من المفكرين تصديره إلى الأديان والمجتمعات الأخرى ومن بينها الإسلام. لكن هذا التعميم غالبا ما تنتج عنه أخطاء منهجية ومحصلات متضاربة. هكذا استخلص المكتب المركزي الهولندي للإحصاء في السنة الماضية أن عدد رواد المساجد في هولندا في تناقص مستمر وهذا مؤشر مهم على إستفحال العلمانية أو العلمنة. بينما مكتب التخطيط الإجتماعي والثقافي كان قد أقر سنة 2012 في دراسة معمقة حول التدين عند المسلمين على أن عدد المصلين من المغاربة والأتراك في تزايد منقطع النظير وأن الأمل في علمنة المسلمين قد تبخر عكس ما توقعه نفس المكتب سنة 2004 حين اقتنع آنذاك بأنه لا مفر للإسلام والمسلمين من العلمنة. أما مركز برلين للعلوم الإجتماعية فقد أثار بدوره الإنتباه بعدما نشر أواخر السنة الماضية بحثا حول التدين عند المسلمين في الغرب حيث إستخلص أن المسلمين ليسوا فقط بعيدين عن العلمانية بل في غالبيتهم متطرفون وذالك إعتمادا على المؤشرات الآتية: كراهية الغير،التفسير الحرفي للقرآن ومباركة أحكام الشريعة. إن ما يفسر هذا التناقض هو عدم الاتفاق على المعايير التي يكيل بها كل طرف لتقرير مساحة العلمنة والدين. سأحاول في هذا المقال استخلاص بعض المؤشرات التي تدل على العلمانية في تصور كل من معارضي ومؤيدي هذه الظاهرة من خلال دراسة تحليلية للجدل الدائر حول هذا الموضوع على صفحات هسبريس. سأبدأ بآراء المعارضين وهم يُصنفون كما أشرت سابقا في زمرة الإسلاميين سواء السلفيين منهم أم المعتدلين، ثم أعرج على أنصار العلمانية من كتاب و ثقفين وسياسيين. يرى الإسلاميون أن خطر العلمانية حادق وظاهر للعيان وذلك في المجالات التالية: المنظومة السياسية، الثقافة والمجتمع ثم ركائز العقيدة. فيما يخص المنظومة السياسية يرى هؤلاء أن العلمانية تعرض مفاتنها من خلال الفصل الواضح للدين عن الدولة، الهجوم على آخر معاقل الشريعة كتعدد الزوجات وأحكام الإرث، عدم تطبيق شرع الله، عدم قيام الدولة ومؤسساتها بواجب الدعوة، تركيز الدولة على مفهوم المواطن بدل مفهومي المسلم والمؤمن في التعامل مع المغاربة، أضف إلى كل هذا إقصاء الإسلاميين (الحقيقيين) من العملية السياسية الديموقراطية وتدجين باقي من ينتسب إلى الإسلاميين إن هم دخلوا في اللعبة السياسية. أما فيما يخص الثقافة والمجتمع فيرى الإسلاميون أن من علامات العلمانية تفشي النزعة المادية، إنكار شمولية الإسلام كمنهج للحياة، عدم الإعتراف بالإسلام كمصدر أوحد للأمن الروحي (ظاهرة اليوغا في المدن الكبرى مثلا) وللمعاملات العامة والأخلاق، التخلي عن الدور التقليدي التراتبي بين الرجل والمرأة،عدم تسيير المؤسسات العمومية كالأبناك والمدارس والإدارات والمصحات حسب قواعد الشريعة و ضوابطها (التعامل الربوي، الاختلاط إلخ.)، مباركة ومعانقة وانتشار ظواهر اجتماعية "غربية" كالموسيقى و الرقص والأفلام والمسرح، إهمال التقويم الهجري، الاحتفالات بالأعياد الغربية و أخيرا الاقتصار في تطبيق الإسلام على "القشور" من طقوس دينية وعبادات فردية وزيارة الأضرحة والمساجد. أما فيما يتعلق بأصول العقيدة فيرى هؤلاء أن معنى الإيمان عند العموم قد تقلص أو إندثرفلم تعد أركان السنة النبوية هي المنطلق وعاد العقل ينافس النقل من جديد وأصبح هو المفصل في فهم القرآن والسنة، كما أن القرآن لم يعد مصدر التشريع وهذا ضرب من التخلي عن ركن "الإيمان بكتبه"، كما أن ركن الإيمان بالقدر قد نخرته نزعات إنكار العلية الإلهية وقدرته على تسيير الطبيعة والبهيمة والعباد. في حين أن ركن الإيمان برسله قد تزعزع بكثرة الهجوم على الأنبياء ونعتهم بنعوت سيئة، وكذلك الشك في موروث نبي الإسلام الديني وتعريض أصحابه و"ورثته" من الأئمة والعلماء للنقد اللاذع. كل هذا يدل على الانتشار الرهيب للعلمانية حسب الإسلاميين. أما خصومهم العلمانيون فلا يرون إلا غيوم الدين السوداء، وهي تلقي بظلالها على البلاد، أما العلمانية المسكينة فما هي إلا حلم ومشروع ينتظر التحقيق وهاكم أماراتها. يمكن توزيع هذه الإمارات حسب أنصار العلمانية على الميادين التالية: أولا تجديد الدين والانفتاح الثقافي ولن يتحقق ذلك إلا بالترحيب والمباركة عن اقتناع بكل أشكال الحداثة والتنوير، تجنب فهم النصوص الدينية (القرآن و السنة) بالشكل الذي يعرقل موجة العالمية النمو الاقتصادي وكونية التفكير، توسيع رقعة الأنسنة (humanism) في فهم النصوص الدينية على ضوء كرامة الانسان وحريته واستقلاليته الكاملة وحقوقه العالمية، مراجعة نقدية لتصور الذات عند المسلم وانعتاقه من النظرة المتعالية عن نفسه والدونية عن غيره، إعادة الاعتبار لرموز التفكير التنويري في الإسلام كالمعتزلة والفلاسفة وأخيرا التخلص النهائي من الفكر الشمولي الإقصائي، وكذا الفصل الحقيقي بين الدين والدولة. ثانيا تقليص نفوذ رجال الدين من أئمة وخطباء المساجد وشيوخ الأنترنت والتلفاز. المطلوب هو تحرير المجتمع من أفكار السلفية الوهابية المعلنة أو المدسوسة في معظم الخطابات الدينية لهؤلاء، تقنين استغلال المساجد منعا لإساءة استعمالها مثل مناصرة ودعم فرقة بعينها والقيام بالدعاية السياسية، مساءلة كل رجل دين وسوست له نفسه القيام بالتحريض على الكراهية و العنف وترهيب الأشخاص و تهديدهم في أرواحهم وسلامتهم بالتكفير واللعن، انتزاع احتكار الخطاب الديني من رجال الدين عن طريق إرغامهم على النقاش خارج المسجد أو فتح المجال لغيرهم على منابر المساجد، وضع الفكر الشمولي لرجال الدين تحت مجهر النقد، تدخل الدولة بشكل أنجع لمحاربة الفوضى العارمة في المساجد والحقل الديني على مستوى الأفكار، تشجيع، وإن اقتضى الأمر إرغام الأئمة على التفتح وتوسيع معارفهم حول الثقافات الاخرى واحتواء مضامينها وأخيرا إنزال وتنفيذ المبادئ التوجيهية المحررة في دليل الخطيب و الإمام كجزء من فصل الصلاحيات.. أما المجال الثالث فيتعلق بحرية التدين واستقلالية الفرد في مجتمع مكبل بالعقل الجمعي والطابوهات. مؤشرات العلمانية تكمن في التخلي عن كل تفسير للنصوص الدينية التي تقف حجر عثرة أمام حرية التدين، ضمان الحريات الفردية كحرية اختيار شريك الحياة وحرية الحب وحرية الاستمتاع بكل أنواع الفنون وعموما احترام استقلالية الفرد، رجلا كان أو امرأة، في اتخاذ كافة القرارات. يدخل في هذا المجال أيضا ضمان الحريات على أساس المواطنة بدل الانتماء الديني، ثم حماية الأفراد من هول التكفير مُعرقلُ التفكير العقلاني المطلوب لتحقيق التقدم والازدهار. الحاصل يمكن القول أن كلا من العلمانيين والإسلاميين لا يستشعرون وزنهم في المجتمع ما دام كل واحد يرى أن الآخر هو المهيمن والمسيطر.