في محاضرة بمركز مؤمنون بلا حدود بالرباط بحر هذا الأسبوع، ألقى الباحث الأنتروبولوجي محمد الصغير جنجار محاضرة حول الدين والحداثة قراءة في باراديغم العلمنة، تحدث فيها عن انحسار الدين وتراجعه عن دوره التأطيري الذي كان إبان القرن السابع عشر يوم كان العلماء يهتمون بكل المجالات المتعلقة بهموم المواطن كالفلاحة والسياسة والقانون. حيث أصبح الدين الآن يقول جنجار معلمنا ويبرز ذلك في استقلال الفرد واستقلالية مجالات عديدة منها منظومة الأسرة والاقتصاد عن المؤسسة الدينية. وبتعبير آخر يرى جنجار أن دور المؤسسة الدينية أصبح يتقلص أكثر فأكثر. وأشار في هذا الإطار إلى أجوبةٍ لمتدّينين وردت في دراسة سابقة أعدّها باحثون مغاربة، منهم من يقول جوابا عن سؤال: لماذا تصلي في مسجد معيّن وليس في مسجد آخر؟ لأنّ صوتَ الإمام جيد، أو لأنّ المسجد نظيف، موضحا أنّ هذا يعني أنّ الفردَ يبني تديّنه على تصورات خاصّة، وأنّ هناك اختيارات فرديّة، وهناك مسارُ فردانية حتى داخل هذه العودة إلى الدين. فهل حقا تقلص دور المؤسسات الدينية فأصبح يتقوقع على ذاته في إطار من العلمنة والحداثة، وهل انسلخت المؤسسات الدينية عن الواقع وما عاد لها دخل في السياسة والاقتصاد والأسرة؟ وهل صلاة الفرد المسلم في مسجد دون آخر اعتمادا على معيار صوت الإمام، أو اعتبارا لنظافة المسجد يعتبر فعلا شخصيا وذوقا خاصا؟ أم أنه مرتبط بما يخدم قوة الدين ويحقق مقاصد مطلوبة شرعا؟ رغم أن السيد جنجار تحدث بصيغة التعميم أي تحدث عن المسلمين في الدول العربية، فإن المغرب بما أنه بلد السيد جنجار فمن المؤكد أنه حضي بحصة الأسد فيما ذهب إليه. والسؤال الذي يطرح في هذه السياقات هو متى غاب الدين عن المجتمع؟ ومتى غاب عن الأسرة؟ وهل الأسرة المغربية تعتمد على اختيارات شخصية في عقود الزواج والطلاق والعقيقة والتسمية والختان وحتى في إجراءات موت أحد أبنائها؟ وهل انقطعت السبل بين العلماء والمؤسسات الدينية القائمة عن القضايا الاقتصادية والسياسية في البلاد؟ وهل رأس الهرم في الحكم المغربي الذي هو أمير المومنين يقوم على أساس بيعة علمانية أم إسلامية شرعية؟ وما هو دور وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية والمجلس العلمي الأعلى إذا كان الناس والمجالات الحيوية في البلاد تسير وفق منهج علماني لا يأخذ في الاعتبار رأي الدين في القضايا والأطروحات؟ لنبدأ إذن بالأسرة التي كثيرا ما يحوم حولها العلمانيون والحداثيون لكونها الصخرة العاتية التي انكسرت عليها جميع أطروحاتهم، فهل فعلا تسير أسرنا على مزاجها وتقوم بتسيير شؤونها خارج نطاق الدين؟ فنحن كلنا لنا أسر ومن حولنا أسر ونتواصل يوميا مع العديد من الأسر سواء كانوا جيرانا أم أقارب أم أصدقاء، وبالتالي لست أدري من أين ولا كيف استقى السيد جنجار هذه الأحكام الغريبة، وكأني به يحاول عنوة لي عنق العلمانية ليجعلها داخلة في نسق الحياة لشعب مسلم لم يعمل على تغييب الإسلام منذ خمسة عشرة قرنا. فقبل أن يولد الفرد المواطن يحتاج والداه إلى عقد قران بشروط وهذه الشروط لازال المشرع المغربي والمغاربة يقدسونها ولا يرضوا لأنفسهم أن يؤسسوا أسرة خارج نطاق الشرع إلا ما شذ عن ذلك شذوذا يعزز القاعدة، فلازال حضور الولي ضروريا ويعد أحد أهم الأركان، كما لازال العقد الشرعي ثابتا لم يتغير، لأن في إلغائه تبعات خطيرة تعود بالضرر على المرأة والأسرة على السواء، كما لازال المهر حاضرا بقوة في كل الزيجات، فضلا عن إجبارية حضور عدلين الذي لا مناص منه، فأين هو المروق عن الدين أو علمنة الأسرة في هذا؟ وعندما يولد المولود يعق له وفقا لما قال به المشرع، كما أن جميع الشعائر الدينية لازالت حاضرة بقوة بل تزداد سنة بعد سنة، وقد لاحظنا كي أن الناس يقبلون على صيام عاشوراء والفاتح من محرم وأيام التشريق وكأننا في رمضان، ولا زالت مقل الحجاج الذين لم تسعفهم القرعة تفيض من الدمع شوقا لبيع الله، وفي كل سنة تجرى القرعة للملايين من الناس، ولازالت العلاقات الأسرية يتحكم فيها مبدأ صلة الرحم رغم وجود خصومات في بعض الأحيان والتي يتم تجاوزها انطلاقا من الوازع الديني الذي يأمر بصلة من قطع وإعطاء من منع والعفو عمن ظلم. وكيف نفسر وجود شباب يافع مجاز عاطل ولكن رغم ذلك تحضنهم أسرهم وتنفق عليهم وتعمل على مواساتهم وتصبيرهم فقط حتى لا يضيع أبناؤها، فما الدافع لهذا غير وجود دافع داخلي محض ديني وهو الخوف على الأبناء من الضياع والضياع الذي يخافه المغاربة على أبنائهم هو الانحراف الذي هو طريق من شأنه أن يجعل المرء يخسر الدنيا والآخرة. وبما أننا نتحدث عن الأسرة، فلماذا يقصي السيد جنجار المؤسسات الدينية وهو يعلم أن علماء المغرب في اللجنة الملكية لتعديل مدونة الأحوال الشخصية قد قدموا عملا جبارا وفق الشريعة الإسلامية، فانتهى بهم المطاف إلى وضع 400 مادة علمية دينية سلامة للأسرة وحتى يبقى الدين حاضرا بقوة في كل مناحي الحياة الأسرية؟ أعرف أحد هؤلاء العلماء العظام وقد قدم نحو ثلاثين بحثا علميا دينيا كمعالجة رصينة لقضايا الأسرة وفق رؤية معاصرة متفاعلة مع الواقع ومنسجمة مع روح الشريعة. كما علم جميع المغارب بأن هؤلاء العلماء لم يغب منهم ولو واحد عن تلك اللقاءات والاجتماعات المرطونية حرصا منهم على أن يكون الدين حاضرا بقوة في معالجة إحدى مشاكل الوطن التي كادت تعصف بالوحدة الداخلية الوطنية. فكان للدين كلمته فعمل على جمع شمل البلاد في توافق قل نضيره ووفق مذهب واحد وعقيدة واحدة أجمع عليها المغاربة قرونا عديدة. فهل بعد هذا يمكن القول بأن القوانين المتبعة في تنظيم الأسرة المغربية علمانية ولا علاقة للمؤسسة الدينية؟ كم كنت أتمنى لو أن السيد جنجار اتصل بأحد المجالس العلمية وسأل عن عدد الأسئلة والقضايا التي يسأل عنها المواطنون راغبين في معرفة موقف الشرع منها، وحينها سيكون على يقين أن الدين لازال حاضرا بكل قوة في حس وضمير كل مغربي، فجل المغاربة لايقبلون على شيء حتى يعلموا حكم الله فيه، وغالبا ما يغيب عن الناس حكم الله بحكم أنهم ليسوا من أهل العلم فيسألون كي تطمئن قلوبهم وتسدد اختياراتهم سواء فيما له علاقة بالأسرة والعلاقات الزوجية أو بالتجارة والبيوع وغيرها من المجالات الحيوية التي تشكل أهم ما في حياة الإنسان المغربي المسلم. ثم إن أزيد من 50 ألف خطبة جمعة تلقى أسبوعيا في مساجد المغرب وهي عملية تأطيرية دينية هامة تنشر رأي الدين وتؤطر المواطنين وبفعلها هذا فهي تؤطر السياسي والاقتصادي ورجل التعليم والتاجر والحرفي ورجل الأمن، بمعنى أن المؤسسات في آخر المطاف ما هي إلا الطاقات البشرية التي تقوم بتسييرها وليست هي الجدران والأبواب والنوافذ، فجميع الفعاليات حاضرة بقوة في موائد العلم الديني، والمؤسسات الدينية الوصية منحت سلطة كبيرة للخطيب والموجه والمرشد كي يعلم الناس أمور دينهم وما رأينا خطيبا يحصر خطبته في دم الحيض والنفاس ومبطلات الوضوء، كما يحلو للبعض أن يتهكم، بل الخطب تعرف تنوعا كبيرا يجمع بين جميع ما يعيشه المغاربة من أمن وعلاقات وأخلاق وحث على الإبداع والاتقان في العمل والتحذير من الانحرافات الخطيرة والتطرف والغلو، وفي نفس الوقت لا شيء يمنع أن يتحدث الخطيب عن نظريات في الاقتصاد والتجارة والعالمية والهندسة والطب، وقد حضرت خطبا عملت على توعية الناخبين قبل انتخابات الثامن أكتوبر على أن يكونوا مسؤولين في اختياراتهم وأن يراعوا الأمانة في الصوت وأن يختاروا بكل حرية ما يصلح للوطن من أقوياء وأمناء، كما حضرت خطبا حولت من نظرية علمية موعظة تقشعر منها جلود المؤمنين وهي نظرية تكون الجنين من منظور طبي وعلمي غاية في الدقة والإعجاز، وخطبة أخرى تحدثت من فوق المنبر عن سبينوزا وول ديورنت ولالاند وماكس فويبر وإميل دوركايم... إذن كيف يمكن الحكم على الدين والمؤسسات الدينية بأنها غائبة، ألم يكن العلماء حاضرين بكل قوة يوم تم الحديث عن الإجهاض؟ أليست أصواتهم تدوي فوق ربوع المملكة كلما تمت المطالبة بالمناصفة في الإرث؟ أو إلغاء تعدد الزوجات؟ أو...أو...أو...ألم يكونوا حاضرين في قلب السياسة وهم ينظمون ندوات حول كيفية مواجهة الإرهاب؟ ألم يسهموا بإبداعات معتبرة من خلال وضع مقاربات أمنية تتأسس على الفقه والعقيدة والمعرفة الشرعية؟ ألم يعقدوا ملتقيات دولية تحدثوا فيها عن الدبلوماسية الدينية ودورها في توفير الأمن والاستقرار، ألم يساهموا في التغلغل المغربي في إفريقيا من خلال تأطير أئمة وفقهاء أفارقة نشرا لعقيدة المغاربة عقيدة الوسطية والاعتدال، ألا يساهمون في تأطير أئمة أوربا حتى ينتشر فكر التسامح والأمن وينتشر العمل بالحوار مع أبناء الحضارات الأخرى؟ فعندما يقوم عالم كبير مثل العلامة مصطفى بن حمزة وينبش في تاريخ إفريقيا الديني والعلمي ويستخرج درر ونفائس تدل على العمق التاريخي الذي كان يربط حكام المغرب وعلمائه بعلماء إفريقيا، كعلاقة العلامة أحمد باب التامبوكتي بأحد ملوك المغرب وهو محمد الوطاسي الملقب بالبرتغالي، وعندما يتحدث عن محمد بن الحسن الوزان الفاسي الذي جاب إفريقيا وكتب كتابه "وصف إفريقيا" الذي يعد وثيقة تاريخية تؤصل لعلاقة المغرب المتجذرة بإفريقيا، ألا يعد هذا عملا عظيما يضع في ذهن العالم كله والأفارقة تحديدا أن علاقة المغرب بإفريقيا ليست وليدة اللحظة، وإنما ما يقوم به المغرب في إفريقيا هو فقط إحياء لتاريخ عريق مليء بالتقارب والتنسيق والتعاون، ألا يعطي هذا البعد التاريخي مصداقية أكبر لما يفعله أمير المؤمنين في إفريقيا؟ ألا يعد هذا دورا هاما ونادرا، لم يقم به لا الساسة ولا الانتروبولوجيون من أمثال السيد جنجار، إنه دور يدل على أن العديد من الناس لم يكن يتوقع أن العلماء يمكن أن يذهبوا إلى ما هو أبعد من الفتوى والتوجيه الديني، فدور العلماء أكبر من أن يختزل في الفتوى وإن كان للفتوى خطورتها ودورها الهام في الأمن والاستقرار وحماية الوطن من الطيش والتهور والمغامرات غير المحسوبة. ثم ألا يعتبر تأصيل البيعة الشرعية لملوك المغرب وسرد أقوال الفقهاء فيها جزء من أقوال الدين في السياسة؟ ألم يتحدث علماء المغرب عن أصول اختيار المغاربة لإمارة المومنين؟ ألم يتحدثوا عن آثار الإمام مالك في بناء الدولة المغربية وكذا في الحضارة والفنون والعمران وجميع النظم الاجتماعية؟ ألم يستعمل علماء المغرب قواعد وأسس حماية البلاد من التطرف والإرهاب؟ وهل يعلم هؤلاء الانتروبولوجيون من أمثال السيد جنجار أن المغرب قد عاش احترابا طائفيا خطيرا دام لثلاثة قرون؟ ولولا عقيدة المغاربة وهي العقيدة الأشعرية لما خرج منها سالما معافى؟ وهذا الدور لازال قائما لحد الآن، وإلغاؤه هو مقامرة ترهن الوطن والمواطنون للمجهول. ثم إن اعتبار اختيار المسجد على أساس حسن صوت الإمام أو نظافة المسجد دليلا على الاختيارات الخاصة هو مغالطة كبيرة وخطيرة تنم عن شح في المعرفة الدينية. حيث إن اختيار الإنسان أن يصلي وراء إمام حسن الصوت لا علاقة له بالاختيارات الشخصية وكأننا في مهرجان غنائي متنوع، بل إن الأمر يفعله الإنسان وفق الإرادة الشرعية، أي أن الله تعالى أمر قارئ القرآن بقوله ( ورتل القرآن ترتيلا) أي أن قراءة القرآن تتم بصفة معينة وكيفية ثابتة، أي تتم بترقيق المرقق، وتفخيم المفخم، وقصر المقصور، ومد الممدود، وإظهار المظهر، وإدغام المدغم، وإخفاء المخفي، وغن الحرف الذي به غنة، تعظيما لشأن القرآن واهتماما به وتمييزا لقراءته عن غيره. والأحاديث في هذا كثيرة لا تحصى وفرة، مما يدل على أن ارتياح الإنسان لقراءة معينة لا تتم وفق نزعة شخصية وذوق خاص بقدر ما هي منبعثة من الشرع الحنيف الذي حدد طبيعة القراءة وطريقتها. وقد خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة أتقنوا القراءة فكان يتعاهدهم بالاستماع لهم أحيانا كما فعل مع عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهما. أما عن اختيار الصلاة في مسجد أنظف، فبداية لا يمكن للمساجد كلها إلا أن تكون أنظف بقع الأرض، وإلا فالخلل في القائمين عليها وساكنتها المجاورة لها، وهذا الرجل الذي تحدث عنه جنجار نقول له عوض أن تفر للصلاة في مسجد أنظف قم أنت بدورك في تطهير بيت الله خصوصا إذا كان هذا المسجد في حيك فأنت تتحمل جزءا من مسؤولية ذلك، وإذا كان كل الناس يفرون من مساجد أحيائهم فقط لأن المساجد الأخرى أنظف فهذا يطعن في العديد من المبادئ التي يتأسس عليها الدين أولها قيامه على النظافة والتي منها نظافة المكان، وإذا كان في كل مسجد تعمل المؤسسات الوصية والجمعيات المعنية واللجان العاملة بالمساجد على أن تخصص لهذه المهمة من يقوم بها، فهذا سيجعل حديث السيد جنجار في خبر الكذب على مساجد البلاد، وإذا كانت تمة حالات شاذة فلا يقاس عليها والشاذ يزكي القاعدة. وحتى إذا سلمنا جدلا أن تحول الفرد من مسجد لآخر حسب معيار النظافة فأعتقد أن هذا لا يدل على اختيار شخصي بقدر ما أن الدين يحث الناس على النظافة ويعتبرها من الإيمان وأن الوسخ من الشيطان، والإسلام هو الذي علم الناس كيف يتطهروا لأنه دين طهارة وغسل ووضوء، فيكون اختيار الإنسان المسلم للنظافة نابعا من كونه موجها من طرف دين وشريعة لها في النظافة أقوال كتب عنها الفقهاء ما لم يكتبوا في غيرها من الأمور. ولا دخل لذلك لنزوات شخصية أو اختيارات خاصة. بل الإنسان المسلم يتنفس بالدين ويأكل بالدين ويشرب بالدين ويسافر بالدين ويتعاقد في بيعه وشرائه بالدين ويتزوج بالدين ويبايع أميره بالدين، ويحارب بالدين ويسالم بالدين...إن الإنسان المسلم لا شيء بدون هذا الدين.