بداية وجب التأكيد أن مشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 بتحديد شروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب له ارتباط وثيق بحق من حقوق الإنسان التي تحميها الشِّرعَة الدولية لحقوق الإنسان. ومن جهة أخرى؛ وجبت الإشارة إلى أن هذا الحق تَضَمَّنته جميع الدساتير التي عرفها المغرب بدءا من الدستور المُؤَسِّس الصادر عام 1962 وصولا لدستور 2011 الذي أكد في فصله 29 على أن حق الإضراب مضمون. لكن ربط كيفيات وشروط ممارسته بصدور قانون تنظيمي؛ وتفعيلا لذلك قامت السلطة الحكومية المكلفة بالتشغيل والشؤون الاجتماعية بإعداد أرضية هذا المشروع، الذي كان يفترض من الناحية الدستورية أن يُعرَض على المصادقة البرلمانية في الولاية التشريعية الأولى التي تلت صدور الأمر بتنفيذ دستور 2011، طبقا لمقتضيات الفصل 86 الذي أكد على أنه تُعرض القوانين التنظيمية المنصوص عليها في الدستور وجوبا قصد المصادقة عليها من قبل البرلمان، في أجل لا يتعدى مدة الولاية التشريعية الأولى التي تلي صدور الأمر بتنفيذ دستور 2011؛ غير أن هذا الأمر لم يتم لحد الآن لعدة اعتبارات قانونية؛ اقتصادية؛ حقوقية وسياسية... أولا: البداية الفعلية للمسار التشريعي للمشروع انطلقت البداية الفعلية للمشروع بعدما تمت المصادقة عليه في المجلس الوزاري المنعقد بتاريخ 26 شتنبر 2016، وبعد ذلك أحالته الحكومة على مكتب مجلس النواب بتاريخ 6 أكتوبر 2016، الذي أحاله بدوره على لجنة القطاعات الاجتماعية بتاريخ 3 فبراير 2017، ولكن مازال مشروع هذا القانون السالف ذكره يصنف في مقدمة الملفات العالقة التي لم يتم التوافق بشأنها بين الحكومة ممثلة في السلطة الحكومية المكلفة بالتشغيل والاتحاد العام لمقاولات المغرب من جهة، والمركزيات النقابية الأكثر تمثيلا من جهة أخرى، ونخص بالذكر أساسا الكونفدرالية الديمقراطية للشغل؛ الاتحاد المغربي للشغل ثم الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، حيث تتمسك هذه الأخيرة بموقفها الرافض لمشروع هذا القانون وتعتبره تكبيلا أو هجوما على حق تضمنه الشِّرعَة الدولية لحقوق الإنسان والوثائق المرجعية لمنظمة العمل الدولية، باعتباره الوسيلة القانونية التي بيد الأجراء والموظفين للدفاع عن حقوقهم، وتطالب بضرورة اشراكها في إعداد هذا المشروع عن طريق آلية الحوار الاجتماعي ثلاثي الأطراف وفق منهجية تشاركية؛ لأنها ترى فيه حقا يجب تنظيمه بدل تقييده وتطالب الحكومة بضمان انسجام مقتضيات مشروع القانون التنظيمي للإضراب المودع حاليا بمجلس النواب مع دستور 2011، ومع التشريعات الدولية المتعلقة بالإضراب. ومن جانبها؛ تحرص الحكومة والاتحاد العام لمقاولات المغرب على أن تكون ممارسة هذا الحق بطريقة توازي بين ممارسته وضمان حرية العمل وتأمين حد أدنى من الخدمة في المرافق الحيوية التي تتطلب استمرارية في أداء نشاطاها. ثانيا: طرح المشروع على طاولة الحوار الاجتماعي هل يعتبر مؤشرا على بداية التوافق؟ بالنظر إلى رفض المركزيات النقابية لمقتضيات هذا المشروع الذي أحالته الحكومة على المؤسسة التشريعية والمطالبة بسحبه، قررت الحكومة برمجة هذا المشروع في إطار جولات الحوار الاجتماعي، وهو ما تم فعلا بموجب اتفاق 25 أبريل 2019 الذي نص على التزام الحكومة بالتشاور بخصوص مضامين مشروع القانون التنظيمي رقم 97.15 المتعلق بشروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب قبل عرضه على مسطرة المصادقة بالبرلمان. ومن بين النقاط التي ترفضها المركزيات النقابية الأكثر تمثيلية نجد مصطلح التشاور الوارد في اتفاق 25 أبريل 2019، وتطالب باستبدالها بعبارة "الحوار والتفاوض الجماعي"، وأكثر من ذلك تطالب بسحبه من مجلس النواب وإعادة وضعه في إطار التفاوض الثلاثي الأطراف، وهذا الموقف تتبناه الكونفدرالية الديمقراطية للشغل التي تعتبر أن مشروع القانون التنظيمي تم إعداده بشكل أحادي من طرف الحكومة وخارج منهجية الإشراك الفعلي للمركزيات النقابية الأكثر تمثيلية، وتم وضعه بمجلس النواب، في خطوة استباقية لفرض الأمر الواقع بالاعتماد على الأغلبية البرلمانية وبالخلفية نفسها، أحيل على مجلس النواب بدل إحالته على مجلس المستشارين لتفادي معارضته من طرف المجموعة النيابية للكونفدرالية على مستوى اللجنة المختصة، وفي الوقت نفسه، تطالب بحوار ثلاثي للتوافق حول صيغة تحترم الحق الدستوري في ممارسة الإضراب وتتلاءم مع المعايير الدولية ذات الصلة. وهو الموقف نفسه الذي يتبناه الاتحاد العام للشغالين بالمغرب الذي يرى أن المشروع المحال على البرلمان، يتضمن عدة مقتضيات مخالفة للدستور ولالتزامات المملكة في مجال الحريات النقابية، إذ يطالب بسحبه من البرلمان ويؤكد تشبثه بإخراج قانون تنظيمي متوازن يبين حقوق والتزامات كل طرف في شأن ممارسة حق الإضراب. ومن جهته، يَعتَبِر الاتحاد المغربي للشغل قرار الحكومة بإحالة مشروع القانون التنظيمي للإضراب على مجلس النواب أحاديا ويشكل تهديدا للسلم الاجتماعي ويرى أن الهدف منه يتمثل في "تكبيل حق دستوري من خلال مجموعة من المقتضيات التراجعية". ومن أجل تجاوز حالة سوء الفهم وتباعد المواقف بين المركزيات النقابية الأكثر تمثيلا والحكومة التزمت الأخيرة، في حوار اجتماعي آخر تم التوقيع عليه يوم 29 أبريل 2024، بالاتفاق مع المركزيات النقابية على المبادئ الأساسية للمشروع في أفق المصادقة عليه خلال الدورة الربيعية 2024. وعلى الرغم من كون الحكومة الحالية التي يترأسها حزب التجمع الوطني للأحرار حاولت بعث بعض التطمينات للمركزيات النقابية الأكثر تمثيلا بخصوص مشروع القانون التنظيمي للإضراب المودع حاليا بمجلس النواب، عبر تخصيص محور خاص له في محضر الحوار الاجتماعي المركزي الثلاثي الأطراف الذي تم التوقيع عليه في 29 أبريل 2024، فضلا عن إفصاحها عن رغبتها في إخراج القانون التنظيمي المتعلق بشروط وكيفيات ممارسة حق الإضراب، بعد الاتفاق على مبادئه الأساسية؛ من قبيل ضمان انسجام المشروع مع أحكام ومقتضيات دستور 2011، ومع التشريعات الدولية المتعلقة بممارسة حق الإضراب والحريات النقابية؛ وتأطير ممارسة حق الإضراب، سواء في القطاع العام أو الخاص، بما يضمن التوازن بين ممارسة هذا الحق الدستوري وحرية العمل وتدقيق مختلف المفاهيم المتعلقة بممارسة حق الإضراب؛ وضبط المرافق الحيوية التي تستوجب، بالنظر إلى خصوصيتها، توفير حد أدنى من الخدمة خلال فترة سريان الإضراب إضافة لتعزيز آليات الحوار والمفاوضة الجماعية في حل نزاعات الشغل الجماعية... كل هذه المبادئ التي التزمت بها الحكومة سيتم إدخالها على النسخة الحالية التي سبق وأودعتها الحكومة السابقة بالبرلمان في أفق برمجة مناقشة المشروع والمصادقة عليه في الدورة الربيعية 2024، ومن خلال ما قدمته الحكومة من وعود للفرقاء الاجتماعيين تكون قد نجحت ولو نسبيا في تحييد واستبعاد مطالب السحب التي كانت تطالب بها المركزيات النقابية، لكن هذا لا يعني نهاية مرحلة تباعد المواقف والرؤى؛ لأن بعض المركزيات النقابية مازالت غير مطمئنة للخطوط الكبرى التي تضمنتها نسخة مشروع القانون التنظيمي السابق وتعتبرها غير صالحة كأرضية أو منطلق للنقاش أو التشاور أو التفاوض الثلاثي الأطراف، لأنها تمت صياغتها بمنهجية أحادية من جانب الحكومة التي قادها حزب العدالة والتنمية، وغالبا ما تؤسس المركزيات النقابية مطالبها على مضامين الخطاب الملكي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية 2015_2016 من الولاية التشريعية التاسعة بالبرلمان، بتاريخ 09 أكتوبر 2015، والذي أكدت فيه أعلى سلطة بالبلاد أن بلورة مشروع القانون التنظيمي للإضراب، تقتضي إجراء استشارات واسعة، والتحلي بروح التوافق البناء، بما يضمن حقوق الفئة العاملة، ومصالح أرباب العمل، ومصلحة الوطن. ثالثا: ما العمل في حالة ما كان المشروع الحالي تعتريه بعض النواقص أو الثغرات؟ سبق وقلنا إن مشروع القانون التنظيمي للإضراب له علاقة وطيدة بحق منصوص عليه في الفصل 29 من دستور 2011، وبطبيعة الحال فإن أية مبادرة تشريعية يجب أن يراعى فيها البُعد الحقوقي تماشيا مع روح القانون الأسمى للبلاد، ويجب أن تراعى فيها أيضا التزامات المملكة في إطار القانون الدولي لحقوق الإنسان وكذا اتفاقيات منظمة العمل الدولية التي صادق عليها المغرب؛ أخذا بعين الاعتبار أن المغرب اختار بشكل طوعي التفاعل مع هيئات المعاهدات من خلال تقديم تقارير دورية ومنتظمة لهيئات المعاهدات بشأن إعمال وتنفيذ مقتضيات المواثيق التي تمت المصادقة عليها؛ كلها مبادئ أو مرجعيات مؤطرة لكل مبادرة تشريعية أو سياسة عمومية تعتزم الحكومة المغربية تبنيها أو مباشرتها. وعليه، فإن مشروع القانون التنظيمي الحالي للإضراب بدوره يجب أن تراعى فيه كل هذه المرجعيات، وحتى ولو افترضنا أن النسخة المودعة حاليا لدى مجلس النواب تعتريها نواقص أو شوائب؛ فهذا شيء عادي لأن الأمر يتعلق بعمل إنساني والإنسان قد يصيب وقد يخطئ وفي هذه الحالة يمكن أن يتم تدارك الأمر بمناسبة المناقشة التفصيلية لمشروع القانون التنظيمي المذكور على مستوى اللجنة البرلمانية الدائمة المختصة والفرق البرلمانية عبر تقديم تعديلات الغاية منها تجويد الصياغة القانونية وتجنب كل ما من شأنه أن يمس بحق من الحقوق المضمونة دستوريا؛ وتحقيق هذه الغاية رهين بتوافر الشروط الموضوعية والذاتية لإنجاحها وفي مقدمة ذلك أن تتوافر لدى الحكومة الإرادة في الإشراك الحقيقي للفاعلين النقابيين قصد تذكية روح التفاوض بشأن كل الملفات العالقة في إطار جولات الحوار المركزي الثلاثي الأطراف؛ وبالنسبة للمركزيات النقابية الأكثر تمثيلا فيجب عليها أن تتحرر من كل الخلفيات والأحكام السابقة التي أطرت علاقتها بالحكومة المنتهية ولايتها؛ خاصة وأن الأمر يتعلق بحكومة جديدة وحزب جديد أعرب عن نية إيجابية لمعالجة هذا المشكل الذي عمر طويلا؛ وأيضا هناك مجموعة من التراكمات بخصوص المشروع، في مقدمتها على الأقل برمجته على طاولة الحوار الاجتماعي المركزي الثلاثي الأطراف بأسلوب جديد. وعليه، فأطراف الحوار ملزمة بالعمل قدر المستطاع على إيجاد الأرضية المناسبة لتحقيق التوافق المنشود، ومن جهته يجب على الاتحاد العام لمقاولات المغرب الانخراط الفعلي والايجابي والمحاولة قدر المستطاع الاستجابة لمطالب الفرقاء النقابيين، لأنهم شركاؤه في المجال الاقتصادي. رابعا: علاقة النقابي بالسياسي وتداعياته على مشروع القانون التنظيمي للإضراب؟ صحيح أن تعثر صدور القانون التنظيمي للإضراب مرتبط في جزء كبير منه بموقف المركزيات النقابية من بعض مواد مشروع القانون الحالي؛ نذكر على سبيل المثال: حصر الجهة الداعية للإضراب في النقابة الأكثر تمثيلا إذا تعلق الأمر بإضراب على المستوى الوطني والنقابة الأكثر تمثيلا على صعيد المقاولة وفي حالة عدم وجودها، النقابة التي حصلت على أكبر عدد من مندوبي الأجراء المنتخبين على صعيد المقاولة (المادة 3)؛ ومنع الإضراب لأهداف سياسية (المادة 5)؛ وعدم اللجوء لقرار الاضراب إلا بعد مرور 30 يوما من تاريخ توصل المشغل بالملف المطلبي للجهة الداعية للإضراب (المادة 7)؛ وعدم عرقلة حرية العمل خلال مدة سريان الإضراب بالنسبة لغير المضربين (المادة 13)؛ ومنع كل توقف مدبر يتم بالتناوب عن العمل (المادة 12) واعتبار الأجراء المضربين في حالة توقف عن العمل ومنعهم من الاستفادة من الأجرة (المادة 14)؛ وأيضا إلزامية إحاطة الجهات المعنية علما بقرار الإضراب سبعة أيام على الأقل قبل الشروع الفعلي في تنفيذ قرار الإضراب (المادة 19)؛ ومنع الأجراء المضربين من احتلال أماكن العمل (المادة 27)؛ ومنح قاضي المستعجلات ورئيس الحكومة إمكانية تعليق الإضراب بقرار معلل وفي حالة ما كانت له تداعيات على النظام العام أو في أوقات الأزمات والكوارث الطبيعية (المادتين 27 و28)...، وغيرها من المواد. غير أن المقاربة النصية لمواد المشروع تبقى غير مجدية، ذلك أن القانون شأنه شأن أي نسق إيديولوجي غير بريء؛ بل يحمل في ثناياه تَوجُّهَات النخب التي تضعه قصد الحفاظ على امتيازاتها. وعليه؛ هناك سؤال جوهري مسكوت عنه على الرغم من كونه يعتبر الخيط الناظم الذي من خلاله تتم صياغة التشريعات والمطالب الحقوقية؛ وهذا السؤال يتمثل في علاقة الفاعل النقابي بالفعل السياسي؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل تعتبر مدخلا لتفسير وتحديد دور النقابة في المشهد السياسي، حيث سيتبين ما إذا كانت النقابة بمثابة تنظيم قانوني يكتفي بصياغة المطالب الحقوقية للأجراء؟، أم أنها فاعل نقابي بمرجعية سياسية؟ وقد تسعفنا الخلفية التاريخية لبداية تشكل الحركة النقابية باعتبارها قناة يدافع العمال من خلالها عن مصالحهم ضد "الاضطهاد"، حيث ارتبط ظهور النقابات بالثورة الصناعية بأوروبا لتنتقل منها بفعل المد الاستعماري لباقي الدول المُستَعمَرَة، بل وكان تأسيسها بمثابة إجابة موضوعية على طبيعة النظام الرأسمالي القائم آنذاك على "الاستغلال"، فكانت النقابات واجهة للنضال السياسي والإيديولوجي. وهكذا، جاءت فكرة العمل النقابي انطلاقا من الرغبة في الدفاع عن الأخطار التي تهدد صحة الطبقة العاملة وتضر بمصالحها الاجتماعية والحد من هيمنة الرأسماليين على حقوق العمال، لذلك برز الفعل النقابي كشكل من أشكال النضال السياسي والصراع الطبقي في المجتمعات؛ بل إن بعض الأحزاب كان من وراء تأسيسها الطبقة العاملة، ونورد هنا حالة حزب العمال البريطاني الذي تأسس عام 1900 من رحم الطبقة الشغيلة، وهنا يبدو جليا أن الطبقة العمالية والنقابية كان لها دورها ونصيبها في العمل السياسي. وبالنسبة للتجربة المغربية، تؤكد السوابق التاريخية أنه من الصعب وجود تمايز بين السياسي والنقابي بل واستحالة وضع حدود فاصلة بينهما، وهو الأمر الذي يرخي بظلاله على مشروع القانون التنظيمي للإضراب، لاختلاف المرجعيات والمنطلقات التي ينطلق منها أطراف المعادلة؛ فبالنسبة للحكومة يتعلق الأمر بمشروع له أبعاد أمنية تتعلق بالحفاظ على النظام والأمن العموميين وتجنب كل ما من شأنه أن يهدد الاستقرار؛ وله أيضا أبعاد إدارية تجد تجلياتها على مستوى المرافق العمومية باعتبارها بنيات للخدمة العمومية، مع استحضار بعض المرافق الحيوية التي تتطلب قدرا من الاستمرارية في أداء خدماتها من أجل تلبية حاجيات المرتفقين، خاصة حينما يتعلق الأمر بإدارات الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، لأن من بين المبادئ المؤطرة للمرفق العام نجد مبدأ الاستمرارية في أداء النشاط المنوط به في النسق الإداري، خاصة وأن استمرارية الخدمات داخل المرافق العمومية هو استمرار للحياة الاجتماعية وللدورة الاقتصادية وفيه إشباع للحاجيات الأساسية للمرتفقين التي يصعب الاستغناء عنها لضرورتها الملحة والمستعجلة؛ وبالنسبة للاتحاد العام لمقاولات المغرب يكتسي المشروع خلفية اقتصادية تتعلق بالحفاظ على هامش الربح والرفع من معدل الإنتاج قصد تزويد السوق بالسلع الأساسية وضمان سيولة التموين... أما بالنسبة للمركزيات النقابية فالمشروع يكتسي من وجهة نظرها خلفية حقوقية تُقِيمُ وتؤسس عليها شرعية ومشروعية خطابها النضالي، واختلاف المنطلقات ترتب عنه بالتبعية اختلاف في المواقف وجعلها تتعارض جملة وتفصيلا لاختلاف الغايات؛ وإن كانت هذه الفكرة ليست سديدة دائما، ذلك أنه حتى داخل مكونات المشهد النقابي نجد أن بعض المركزيات النقابية الأكثر تمثيلا التي كانت تقدم نفسها بأنها أشد حرصا على الدفاع عن حقوق الطبقة العاملة؛ إلا أنها تبنت في بعض الفترات موقف الحياد السلبي بخلفية سياسية وهو موقف يخدم مصلحة الحزب المُوالية إليه خاصة بمناسبة تزعمه للأغلبية الحكومية، حيث اتخذت مواقف صريحة أحيانا وضمنية أحيانا أخرى من أجل مساندة الأغلبية دون اتخاذ أية مواقف معارضة للتدابير الاجتماعية بما في ذلك مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب؛ وهذا الأمر ينطبق إلى حد بعيد على نقابة الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب في علاقته مع حزب العدالة والتنمية، الذي كان من أسباب فقدان المركزية المذكورة صفة الأكثر تمثيلا أثناء الانتخابات المهنية لسنة 2021. وفي علاقة بمشروع القانون التنظيمي للإضراب؛ فإذا كانت نقابة الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب عرفت بمساندة التدابير الاجتماعية التي اتخذها حزب العدالة والتنمية أثناء قيادته للأغلبية الحكومية دون أدنى معارضة أو انتقاد، حيث عرف الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب أنه كان أكثر محاباة لحكومة حزب العدالة والتنمية، سواء من خلال موقف المساندة الذي أبداه فريق العدالة والتنمية بمجلس المستشارين، أثناء الجلسة المنعقدة بتاريخ 28 يونيو 2016، بالتصويت الإيجابي على مشروع القانون رقم 72.14 المحددة بموجبه السن التي يجب أن يحال فيها على التقاعد الموظفون والمستخدمون المنخرطون في نظام المعاشات المدنية، ومشروع القانون رقم 71.14 يقضي بتغيير وتتميم القانون رقم 011.71 المحدث بموجبه نظام المعاشات المدنية، غير أن موقفها أخذ بعدا تصعيديا وأصبح أكثر راديكالية بمناسبة قيادة حزب التجمع الوطني للأحرار للأغلبية الحكومية (2021-2026)، حيث لجأت النقابة المذكورة لانتقاد طريقة تدبير حكومة الأحرار لبعض الملفات وفي مقدمتها مشروع القانون التنظيمي للإضراب. ومن أوجه المعارضة التي يبديها الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، بمرجعية سياسية، لحكومة الأحرار، إعلانه في بيان، صادر يوم 29 أبريل 2024، عن موقفه الرافض لمخرجات الحوار الاجتماعي المركزي ل 29 أبريل 2024، مع المركزيات النقابية الأكثر تمثيلا، مبررا موقفه بما اعتبره عدم الوضوح في الاتفاق في ما يخص الجانب التشريعي المتصل بمشروع القانون التنظيمي لحق الإضراب، معبرا عن استغرابه من عدم تضمين الاتفاق لإجراءات عملية قصد مراجعة النصوص التنظيمية المؤطرة لانتخابات اللجان الإدارية المتساوية الأعضاء ومناديب الأجراء، علما أن هذه الملفات ورثتها الحكومة الحالية عن الحكومة السابقة. الأمر نفسه، انطبق سابقا على نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب في علاقتها مع حزب الاستقلال أثناء التشريعية الثامنة (2007-2011)، حيث اتخذت النقابة العديد من المواقف المساندة للأغلبية الحكومية، غير أن هذه التبعية السياسية للمركزية النقابية المذكورة للحزب، كانت أكثر وضوحا بمناسبة "الصراع السياسي" الذي سبق الأعمال التحضيرية للمؤتمر الوطني 17 للحزب المذكور بين أنصار حميد شباط وأنصار نزار بركة، صراع سرعان ما تطورت تداعياته لتخيم على نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب من خلال التحركات التي قام بها النعم ميارة -من الموالين لنزار بركة- للإطاحة بمحمد كافي الشراط -الموالي لحميد شباط- الذي كان انتخب بالإجماع كاتبا عاما للاتحاد العام للشغالين بالمغرب، خلفا لحميد شباط، خلال المؤتمر الوطني العاشر للاتحاد يومي 11-12 أكتوبر 2014، وهو ما انتهى فعلا بإبعاد حميد شباط من الأمانة العامة للحزب، بعد انتخاب نزار بركة أمينا عاما للحزب في 7 أكتوبر 2017، وقبله تمت الإطاحة بكافي الشراط من نقابة الاتحاد العام للشغالين بالمغرب وانتخاب النعم ميارة عوضا عنه كاتبا عاما جديدا أثناء المؤتمر الاستثنائي الحادي عشر بتاريخ 07 ماي 2017، علما أن تداعيات الصراع داخل الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، الذي كان امتدادا للصراع داخل حزب الاستقلال، وصل إلى ردهات المحاكم، من خلال الدعوى القضائية التي رفعها كافي الشراط لدى المحكمة الإدارية بالرباط ضد والي جهة الرباط – سلا – القنيطرة بخصوص منحه وصل الإيداع القانوني النهائي للاتحاد العام للشغالين بالمغرب في اسم الكاتب العام الجديد النعم ميارة، لكن المحكمة قضت برفض هذه الطلب؛ وبالتالي الإقرار بشرعية ومشروعية مخرجات المؤتمر الاستثنائي للاتحاد بتاريخ 07 ماي 2017.