شكلت الانتخابات الجماعية ل 12 يونيو الماضي امتحانا جديدا للمغرب شعبا ومؤسسات منتخبة وغير منتخبة، فقد تم فيها (الانتخابات) قياس "درجة" الديمقراطية المحلية، وطرحت عليها أسئلة كثيرة، من قبيل حدود وعي الدولة والشعب بكل فئاته بمسؤوليته في محاسبة ممثليه المحليين بالمجالس المنتخبة، فكان الجواب جليا منذ التحضيرات الأولى لهذه المحطة. "" مرحلة التسجيل في الانتخابات عرفت هذه المرحلة بعضا من التقصير من طرف الاعلام الرسمي الذي لم يتمكن بخطابه ووصلاته الاشهارية من إقناع فئات عريضة من المغاربة عموما، والشباب بوجه خاص، من التسجيل في اللوائح الانتخابية، كما لم تعطي الهيئات السياسية والمدنية لهذا الأمر الأهمية المطلوبة، حيث لم تطرح مبادرات من أجل حث الغير المسجلين (وما أكثرهم) على التسجيل، كما أن اللوائح القديمة/الحديثة لم يطرأ عليها كبير تغيير وهو ما يفسر بقاء القاعدة الانتخابية في أغلبها وفية لمرشحيها السابقين الذين "خافوا" من وقوع مفاجأت بفتحهم التسجيل في وجه الشباب. ومازاد الأمر تعقيدا كون رؤساء المجالس المنتخبة هم من يترأسون لجنة الفصل في التسجيل في اللوائح الانتخابية حيث يلجؤون في أحايين كثيرة إلى نهج أساليب غير ديمقراطية، كالتشطيب على من هم مسجلون أصلا، أو رفض تسجيلات جديدة، أو إغراق اللوائح بأناس غير مقيمين بحدود دائرتهم الانتخابية. الحملة الانتخابية وإيداع الترشيحات منذ الساعات الأولى لإعلان بداية الحملة الانتخابية ل 12 يونيو الماضي، دخلت كل الأحزاب المشاركة في "معارك" ضارية من أجل الظفر بثقة الناخب المغربي، غير أن السمة البارزة في تحركات المرشحين هو خطابهم المحلي الذي اتسم بالشخصنة والتمحور حول الذات عوض مخاطبة المواطن بلغة البرامج ونهج الحزب الذي يتنمون إليه، خاصة في القرى والمداشر التي تنتشر فيها الأمية المعرفية والسياسية. كما تم منح تزكيات لبعض المرشحين دونما الأخد بعين الاعتبار لمستواهم الدراسي ولتاريخهم السياسي/النضالي، فترشح الأميون الذين لم يجلسوا قط في مقعد الدراسة، بل منهم من قام بتزوير شواهد تمكنهم من الحصول على رئاسة المجلس الجماعي، كماذكرت بعض الأخبار الصحفية. وقبيل إنهاء فترة الحملة الانتخابية بسويعات قليلة، تحركت جيوب الفساد والافساد وراحت تخرج "أسلحتها" المعتادة في مثل هذه المحطات. ودخل المواطن المسكين والمغلوب على أمره في مزاد غير علني بين سماسرة الانتخابات، فمنهم من أعطى كذا ومنهم من أعطى أكثر من كذا، فتم ذبح الديمقراطية علنا ، وانتحرت معها اللعبة الانتخابية الشريفة. يوم الاقتراع اعتبر هذا اليوم في نظر الناخب المغربي النزيه، الذي لايقبل المتاجرة في صوته، يوم الانعتاق وتذوق حلاوة الديمقراطية المفقودة. كما اعتبر يوم مقاومة ومحاصرة للفساد ما أمكن في نظر المرشح النزيه. بيد أن معظم المدن والقرى المغربية عرفت حالات كثيرة لاستمالة الناخبين، حيث سجل مرشحون وهيئات حقوقية خروقات انتخابية رفعت على إثرها شكايات إلى السلطات المعنية. أما ليلة إعلان النتائج فقد بدا جل المرشحين مشدوهين وأعينهم مركزة على التلفزيون الرسمي في انتظار التوصل بالنتائج الوطنية، أما المقرات الحزبية فكانت تعمل على قدم وساق بعد التوصل بأول نسخة من محضر التصويت. إعلان النتائج تشكيل المجالس ومنطق التحالفات مباشرة بعد إعلان التنائج، بدأ الشد والجذب بين المستشارين الفائزين للظفر بأكبر فريق يضمن هامشا واسعا للتدبير المحلي المريح للجماعة أو المقاطعة. غير أن قطار التحالفات زاغ عن سكته مرات كثيرة وخاصة في المدن الكبرى التي تعتمد نظام المقاطعات (نظام وحدة المدينة)، أما القرى فلم تشهد أحداثا مهمة أثناء تشكيل المجالس، أو على الأقل لم تطفو تداعياتها إلى سطح الاعلام. وقد يمكن أن نسجل أهم الملاحظات التي طبعت إعلان النتائج تشكيل المجالس فيما يلي: * حصول الوافد الجديد (حزب الأصالة والمعاصرة) على المرتبة الأولى بعد فترة وجيزة من استحداثه، وهو ما يطرح تساؤلات عدة حول طريقة استقطابه لكل هذا الكم الهائل من المستشارين الذين كان أغلبهم يترشحون باسم أحزاب أخرى (دون اعتبار لماضيهم السياسي) مما يعضد ما ذكرناه سابقا بخصوص الكتلة الناخبة التي تكون "تابعة" لمستشار (ينتمي إلى فئة الأعيان) خاصة في القرى والمداشر والتي فاز فيها حزب الهمة بأكبر عدد من المقاعد. * مضاعفة الحزب الاسلامي (العدالة والتنمية) لمستشاريه مرتين باعتلائه المرتبة الأولى بالمدن الكبرى، حيث حصل على المرتبة الأولى في الاقتراع باللائحة مما يفسر تواجده القوي بالحواضر المغربية. * تراجع الكتلة الناخبة لبعض الأحزاب التقليدية (الاتحاد الاشتراكي والاستقلال والحركات) الذي نعزوه إلى معاقبة الناخب المغربي لمستشاريهم بعد نكسة شتنبر 2007 التشريعية خاصة حزب بن بركة. * الصراع المعلن أثناء تشكيل مجالس المقاطعات خاصة بالمدن الكبرى (أكادير والرباط ووجدة والدار البيضاء وطنجة...)، وقد ساهمت الملاسنات الاعلامية بين بعض قادة الأحزاب في تأجيج هذا الصراع الذي وصل إلى حد التلويح باللجوء إلى القضاء، وهو ما أعطى لهذه المحطة ذوقا آخر لم تعرفه الانتخابات المغربية من قبل. الانتقام الديمقراطي بعد تجربة التناوب التي أوصلت حزب الاتحاد الاشتراكي لأول مرة إلى الحكم في شخص حكومة عبد الرحمن اليوسفي، تنبأ جل المحللين السياسيين إلى دخول المغرب مرحلة القطع مع منطق "الحزب الوحيد" في الحكم خاصة بعد الاشارات القوية التي كانت تطلقها الدوائر الرسمية في بعض المناسبات. وكلنا يتذكر الحوار الذي خص به عبد الرحمن اليوسفي قناة إم.بي.سي مباشرة بعد تعيينه رئيسا للحكومة آنذاك فقد اعتبرها (التناوب التوافقي) تجربة سابقة في الوطن العربي. غير أن الأمور أضحت تمشي في منحى آخر مع توالي السنوات إلى أن وصلنا إلى محطة شتنبر 2007 وبعدها محطة 12 يونيو 2009 لنشهد جميعا على انتحار الديمقراطية المغربية. فقد عزف عن صناديق الاقتراع ما يقارب نصف المسجلين باللوائح الانتخابية، والذين شاركوا تم إجهاض إرادتهم بخلق تحالفات أفضت إلى تكوين مجالس لم يختر أغلبها الشارع المغربي. وقد عاش المواطن وشاهد الرعب الممارس على بعض المستشارين، كما شاهد وعايش "اختطاف" وإخفاء بعضهم عن الانظار ولم يظهروا إلا في ساعة التصويت على الرؤساء، كما شاهد وعايش الارهاب النفسي الممارس من طرف أجهزة السلطة (أحداث وجدة كما رواها المستشارون بالصوت والصورة). وكل هذا يعد إنتقاما من المواطن الذي أدلى بصوته لغير الذي تريد بعض الجهات، في إطار خلق توازنات تجهل تفاصيلها حتى الآن. ف"انتقام" المواطن من الدولة بعزوفه عن التسجيل والتصويت صاحبه "انتقام" الدولة منه (المواطن) بأن تدخلت غير ما مرة، بشكل غير مباشر، في تغيير أو إبقاء الخريطة السياسية لبعض المدن كما هي عليه قبل الانتخابات كما يقول بعض رؤساء الأحزاب السياسية. وهاتين الحالتين (الانتقام والانتقام المضاد) أفرز طرفا رابحا وأطرفا خاسرة للأسف، فالرابح هو لوبيات الفساد التي ستستمر لست سنوات أخرى وتعطل التنمية متى أمكن لها ذلك، والأطراف الخاسرة بطبيعة الحال تكمن في المواطن الذي أجهضت إرادته في ممارسة حقه في الاختيار ثم الوطن الذي سيفقد نقاط أخر في سلم التنمية والحكامة... وخلاصة الكلام تكمن في أن المغرب يعيد إنتاج النخب وفق تصورات ضيقة تجعل من صوت الناخب إداة لتلميع الصورة الخارجية للبلاد في حين أن الداخل هش وتعتريه آفات سياسية واجتماعية. والحاصول وكما يقول المثل المغربي "المزوق من برا أش خبارك من الداخل". [email protected]