رحل عن الساحة الفكرية والسياسية الأب الروحي للسوسيولوجيا المغربية محمد جسوس بعد رحلة عصيبة مع المرض غالبها إلى أن غلبته في الأخير، حيث تركها تتذوق مرارة اليتم وحرارة الفراق. لقد جمع هذا الرجل العظيم بين الكثير من الأشياء التي لن تجد لها مثيلا في زمننا هذا، إنه كان رفيقا لطلبته الذين تتلمذوا على يده، وهو الرجل الذي فتح باب منزله لكل من كان يريد استنشاق عبير العلم والمعرفة الميدانية. لقد أثر في خبر مفارقته الحياة بشكل كبير جدا، لقد كان معلمي وأستاذي النبيل منذ 2004 وأنا طالبة بجامعة محمد الخامس الرباط بوحدة سوسيولوجية الأسرة: قيم، سياسات وممارسات، أتذكر منهجيته، أسلوبه، ولغته التي تؤثر وتجعل حتى من يختلف معه في الرأي يحترمه، لقد كان آنذاك متعبا وحزينا على معضلات التعليم ببلادنا، فحتى وإن لم يعبر عنها فقد كانت حاضرة في دروسه ومحاضراته الشيقة التي كنا كطلبة نتمنى أن تستمر ولا تنتهي. رحل جسوس لكن إرثه العلمي والمعرفي أبدا لن يرحل من أذهاننا وعقولنا. إنه خسارة كبرى للمغرب، ولطلبة علم الاجتماع، أتذكر هذا الرجل الذي خلف رحيله استياء عميقا في نفسيتي، لقد كان لي أستاذا وأخا وأبا ومثلا أعلى في التواضع ونبل الأخلاق واختيار الطرق المعبدة في الحياة لا السهلة، لقد كان يحثني دائما على تسخير طاقاتي خدمة للناس وسعادتهم وعدم الإقنتاع بالسهل والجاهز، فكان دائما يقول لي باعتباري آخر دكتورة تحت إشرافه (2008-2013) حول المسنون في المغرب، واقع وآفاق، - كان هذا العنوان من اختياره بدعوى أن هناك فراغا في هذا المجال- أن أية نظرية لا بد من التحقق منها ميدانيا، فلولاه لما سبرنا أغوار العمل الإمبريقي في وقت كان فيه من الأمور المحظورة والممنوعة في المغرب، لقد كان دائما يحثني على عدم التقصير في وزن العمل الإمبريقي. لقد كان دائما يردد أن الحقيقة تأتي من أفواه المعنيين، لذلك قدرت قيمة العمل الميداني وأعطيته أكثر من حقه. إنه أستاذ يقدر عمله الذي كان يعتبره بمثابة حرفة ومهنة، فبالرغم من معاناته مع المرض، إلا أنه كان لا يتهاون ولا يهدئ له بال إلا وهو يضع قلمه الأحمر على أوراق أطروحتي، وخاصة حول قواعد الجانب المنهجي الذي كان دائما يحثني على تدقيقه لأنه يعتبر خارطة طريق البحث. لقد كانت اتصالاته الهاتفية الشخصية أكبر شرف لي أنذلك، حيث كان يحدد لي موعدا لمناقشة كل ما كنت أحضره حول تلك الأطروحة التي لولاه لما رأت النور، أتذكر مجالساته التي كنت أنهل منها الشيء الكثير عن العلم والحياة والسياسة، والتي تدوم لساعات طوال في بيته حول فنجان قهوة وقطعة حلوى. أتذكر تشجيعه لي للمسايرة وتجاوز الإحباط الذي كان ينتابني في كثير من اللحظات، خاصة عندما كنت أخبره أنني أجد مشكلا كبيرا في إيجاد المراجع والكتب حول المسنين في المغرب، لكن كان دائما يقول لي: "لا عليك كوثر فهذا أمر إيجابي بالنسبة لك، لا بد أن تكوني فخورة، فأطروحتك ستكون هي المرجع لأجيال أخرى ستأتي من بعدك، استعيني وركزي على البحث الميداني فهو الرأسمال الذي سيحل هذه الأزمة". كنت أطرق بابه لأجده ينتظرني بصبر طويل ولديه العديد من الملاحظات الشفوية والمكتوبة الجادة والهادفة، حتى ناقشت أطروحتي التي كانت متميزة بميزة مشرف جدا مع توصيته ومطالبته بنشرها، كونها تعتبر قيمة نوعية تطرقت لفئة عريضة من المجتمع طالها الإهمال والنسيان. لقد كان أستاذا متواضعا وكريما بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لقد أشبعني كتبا كان يهديني إياها عند كل زيارة له في بيته. كم أستشعر فداحة الخسارة بحزن وألم، كوني فقدت تلك الحلقة الدافئة التي كانت تربطني بهذا الأستاذ العظيم. أدين بالكثير لهذا الأستاذ الرصين المتنكر للذات، أدين بالكثير لهذا الرجل الذي لا تهمه المظاهر، ولا يلهث خلف الإستوزار والسلطة والمناصب الزائلة بالرغم من كونه كان أهلا لها بكل ما تحمله الكلمة من معنى. الرجال مثل محمد جسوس لا يموتون، قد يغيب الجسد وتعود الروح إلى خالقها، لكن أثر هذا الرجل ستظل حاضرة بيننا، في ذهن كل ممارس للسوسيولوجيا على الخصوص. سيظل محمد جسوس حيا مادامت السوسيولوجيا تدرس ومادام هذا العلم تأسس في المغرب على يديه النبيلتين -رحمه الله- . بالنسبة لي محمد جسوس لم يمت، روحه ستظل حاضرة في وجدان محبيه السوسيولوجيين صغارا وكبارا، محمد جسوس ليس مرجعا فحسب بل هو نموذج للمثقفين والسياسيين الشرفاء والنزهاء.