فكر السوسيولوجي جسوس وحياته في أربعينية رحيله كان حاضرا بفكره وبقيمه الإنسانية ومبادئه السياسية التي عاش يدافع عنها. هكذا حقق سمحمد جسوس ما لم يستطع غيره تحقيقه على الرغم مما خلفوه وراءهم من كتب ودراسات. مات هذا الرجل قبل أربعين يوما، وبالأمس كانت أفكاره وكلامه وتوجيهاته وهمساته تتردد في مدرج الشريف الإدريسي بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس كما لو أنه كان حاضرا ! الذين حضروا ذكرى هذا الرجل المنظمة بتنسيق بين الجامعة وحزب الاتحاد الاشتراكي من مختلف الفئات الاجتماعية والمهنية شهدوا على أنهم تعلموا الكثير من جسوس بمرافقته شخصيا أو بمرافقة أفكاره التقدمية والعقلانية. لا تستسلموا للصعوبات والتهديدات شقيقته نزهة رسمت صورة الأخ الذي كان بمثابة أب ثان داخل العائلة، يرافق الجميع ويساندهم كبيرا وصغيرا، «لم يكن ذلك الأخ السلطوي الذي يحاول فرض رأيه على أخواته» تقول نزهة. «المعقول» لطالما ترددت هذه الكلمة على لسان سمحمد هو الذي اختار العمل بمبدإ خدمة الصالح العام وخدمة الله يرحم الوالد. وإلى جانب هذا المبدإ الذي شكل منهلا بالنسبة لعائلة جسوس فقد كان حسب نزهة موسوعة علمية وثقافية يمتلك مهارة بيداغوجية لتبسيط أفكاره. مقابل ذلك ظل يحث مقربيه على عدم الاستسلام للصعوبات والتهديدات مع التحكم في مجال الاشتغال معرفيا وممارسة ومشروعية، ففي النهاية يجب الإيمان بأن الأشياء لا تتغير في رمشة عين. داخل العائلة كانت عطاءات جسوس منقطعة النظير على مستوى التضامن والتوجيه رغم انشغالاته العديدة وتنازعه بين العائلة الأكاديمية بالجامعة والعائلة الحزبية بالاتحاد الاشتراكي، لم يكن يبخل على أحد من أفراد عائلته بالاستشارة سواء في الدراسة أو البحث عن العمل أو حتى في المشاكل الشخصية. تعترف نزهة جسوس أنها ترعرعت وكبرت تحت سمعة سمحمد في فاس الذي كان متميزا في مساره الدراسي، وقد استفادت منه كثيرا بالرغم من أنها لم تعش معه فترة مراهقتها، إذ رحل إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية وعمرها ست سنوات وبعد أن عاد إلى المغرب كانت هي قد سافرت إلى فرنسا لإتمام دراستها. وحتى بعد تخرجها واشتغالها بالتعليم العالي ظل بالنسبة إليها المعين الذي لا ينضب على المستوى المعرفي والسلوكي، هو الذي علمها كيف تحترم الرأي المخالف لها مؤكدا على حرية التعبير والرأي لكن طبعا، بكل مسؤولية، مقابل ذلك لطالما أوصاها بعدم الاستسلام للرأي السائد عند الاختلاف مهما كانت الضغوطات والإكراهات، وكان دائما يوصيها قائلا «ما تقبليش دوز عليك الدكاكة». الدرس النضالي تعاقب على المنصة التي احتضنت شهادات رسمت بورتريه محمد جسوس سياسيون وسوسيولوجيون وأصدقاء تقاسموا مع الراحل أشياء كثيرة كانت حاضرة كشريط من الذكريات التي لا تفنى والتي سجلها الوثائقي الذي أخرجه عمر العبادي والذي عرض بمدرج الشريف الإدريسي. الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي تحدث عن جسوس المعلم والأستاذ ليس فقط بمعناه الأكاديمي ولكن في مجمل هذه الحياة نقابيا وجمعويا وحزبيا، وجمع خصال الراحل في أربع صور، الأولى هي حضوره الدائم في مختلف المحطات النضالية للاتحاد الاشتراكي عندما كان يحاضر ويؤطر وينتقل بين الفروع الحزبية وهو بذلك يقدم نموذجا للتفاني اللامشروط والعمل المستمر بما يوحي أن يوم جسوس يفوق 24 ساعة. وتتجلى الصورة الثانية في قدرته الهائلة على التحليل الدقيق للمعطيات والظواهر وتمكنه من التنظير واستشراف المستقبل، فيما تتضح الصورة الثالثة في تميزه بالتبسيط الذي يخلق نوعا من التواصل بينه وبين الآخرين، فجسوس هو رجل بسيط في معاملاته وسلوكه وفي تفاصيل حياته ما جعله يحظى باحترام كبير من لدن جميع الفئات.. كما أنه يتوفر على كفاءة تبسيطية نادرة يستطيع تبليغ أفكاره بلغة شعبية وبسيطة مستشهدا بالأمثال والحكم المغربية. الصورة الرابعة لجسوس هي الدرس النضالي الذي تلخصه صورة رجل حريص على كتابة وتدوين اللقاءات والاجتماعات التي يحضرها من خلال تسجيل مختلف التدخلات والأفكار والمواقف بكل تفاصيلها، ما يسمح في النهاية بإعطاء صورة تركيبية عن هذه الاجتماعات. إدريس لشكر وجه في النهاية دعوة لعائلة جسوس الصغيرة من أجل إمداد معهد الدراسات المزمع إنشاؤه بدفاتر الفقيد الذي سجل فيها على امتداد أربعين سنة ملاحظاته وأفكاره وهي تشكل اليوم متنا للتحليل السوسيولوجي وذلك بوضعها رهن إشارة الباحثين ما يسمح بالانفتاح أكثر على فكر جسوس. جوهر القبيلة كيف بدأ هذا الفكر يتبلور؟ الجواب عن هذا السؤال جاء في شهادة سوسيولوجيين من طينة المختار الهراس وإدريس بنسعيد، اللذين تتلمذا على يدي المعلم ونهلا من معرفته ومنهاجه. الأول سلط الضوء على أطروحة جسوس حول القبيلة التي ناقشها في جامعة لافال بكندا. اعتبر جسوس حينها أنه علينا دراسة القبيلة أيضا تاريخيا وليس الاقتصار على الدراسات الأنتروبولجية فقط وذلك في فترة (1960) كانت تتفوق فيها الدراسات البنيوية والوظيفية. انتبه جسوس إلى أنه يجب الاهتمام بالفكر النقدي والأحداث الدالة مع العمل على تحليلها. الدراسات التي أنجزت حول المغرب لم تكن تنظر إلى التاريخ المغربي إلا من خلال بنيته الفوقية أي من خلال تسليط الضوء على نخبه وأعيانه... ولا تتحدث عن القوى الحية في المجتمع كالقبيلة مثلا. وهذا بالضبط مع جعل جسوس يدعو إلى تعاون شامل بين السوسيولوجيين والمؤرخين، معتبرا أن السوسيولوجي بدراسته للقبيلة لا يجب أن ينطلق من الصفر لأن هناك تراثا ضخما أنجز في الفترة الاستعمارية. مقابل ذلك لاحظ أن السوسيولوجيا في عهد الحماية كانت تركز على المحلي ضدا على التوجهات الحضارية للمجتمع المغربي كما أنها ركزت على ما يفرق المغاربة وليس على ما يوحدهم، وبذلك قرر جسوس العمل على إنجاز إطار مرجعي لبناء مقارباته العلمية. اشتغل جسوس على بنية القبيلة لكنه لم يتبن الطرح الانفصالي بل تبنى أطروحة روبير مونطاني فيما يخص السٌّلم القبلي (من الفرد إلى الجماعة) على مستوى التثبيت ولجأ إلى أطروحة جاك بيرك حين اشتغاله على النسب (العائلة) لأنها الضامن لاندماج البنية القبلية، وبذلك جمع بين الاثنين باعتبارهما أساسيين لفهم الاندماج القبلي. كل ذلك كان باستعمال منهجية تتخلل البحث برمته، فهو يستعرض ويحلل ويناقش مستعملا أدوات منهجية تتجدد داخل البحث. فقد تأثر بدوركايم من خلال أن النمط المغربي يتطور، وسيرورة النظام القبلي امتدت من الفرد إلى الجماعة. كما تأثر بمارسيل موس الذي اعتبر العائلة الممتدة تشكل بنية اجتماعية كلية لا يمكن رصدها إلا بدراسة الفرد، وهو بذلك ينهل من المفاهيم الوظيفية. لقد كانت القبيلة التي حاول رصدها جسوس في بداية القرن العشرين غير متمكنة من قواها بل مفككة اجتماعيا أنهكها الصراع مع السلطة الاستعمارية ومع السلطة المركزية ومع القبائل المجاورة. المجتمع محكوم بالتقدم لكن ما هو الخيط الناظم لدراسات وأبحاث وفكر جسوس؟ ذاك كان السؤال الذي حاول ادريس بنسعيد الإجابة عنه، من خلال تقديمه لشخصية سمحمد كحداثي وعقلاني يؤمن بالعقل إلى أبعد الحدود، في إطار نسق متكامل إلى أبعد الحدود. انجذب جسوس نحو فكرة العقلانية باعتبارها عنصرا مؤسسا للنشاط العلمي والسياسي وللتعاقدات الاجتماعية، انطلاقا من مبادئ أهمها معقولية العالم أو المجتمع باعتباره قابلا للإدراك بواسطة العلم لا يخضع للصدفة والعشوائية أو للأسطورة والغيب وبالتالي فهو قابل للدراسة. هذا بالإضافة إلى مبدإ عقلنة هذا العالم فالواقع يخضع بالضرورة لسيرورة دقيقة وهي عملية تاريخية مستمرة تقوم على التراكم والاسترسال، إذ لا شيء مقدس في هذا المجال وكل شيء نسبي. ويقود هذان المبدآن في تناغم واضح إلى مبدء التقدم أي أن المجتمعات الإنسانية محكومة بقانون التقدم وهو تقدم في التاريخ إذ يجب عليها أن تتجه حتما نحو المستقبل وليس إلى الماضي. فإذا قلنا إن المجتمع يسير إلى الأمام فإن الماضي يتحول إلى موضوع للمعرفة ولا يتم استحضاره لتكرار ما وقع. انطلاقا من هذا التحليل خلص جسوس أن للدولة مكانة خاصة في المغرب وهي مرتبطة بالمقدس وما عرفته الدولة بعد الاستقلال اعتبره خطيرا لأنه يكشف أن المجتمع يسير في اتجاهين متناقضين هناك مؤسسات عصرية ولكنها تسير بعلاقة تقليدية. كل هذه المقدمات تنتهي مباشرة إلى دحض فكرة الخصوصية والاستثناء بما هي انهيار وتجاوز للعلم. القيمة الفكرية لمحمد جسوس تجلت أيضا في بيداغوجيته حيث اعتبره محمد زرنين وليا من أولياء الصالح العام، عمل ضد الانغلاق النظري، وهو أيضا راوي عظيم كان يجعل الدارجة تقبل الفكرة العميقة كأنه يقوم بإنباتها لتكبر ثم تتجذر في الأذهان. رجل الوفاء للأصدقاء كثيرة هي الشهادات التي رسمت صورة عالم اجتماع وسياسي وإنسان ذي قيمة عالية استمرت بعد مماته في دراسات وأبحاث الطلبة والأساتذة. غير أن للسياسيين كان نصيب، ومن أبرزهم رفيقه محمد اليازغي الكاتب الأول السابق للاتحاد الاشتراكي، الذي اعتبر الراحل رجل الوفاء للأصدقاء. استعرض محمد اليازغي مساهمة جسوس في استراتيجية النضال الديموقراطي للحزب معتبرا أنها هي التي أخرجت الاتحاد الاشتراكي من العدمية، ورصد كيف كان جسوس مدافعا عن المشاركة في الانتخابات التي يعتبرها تمرينا ضروريا رغم الظروف غير الديموقراطية التي كانت تجرى فيها. كما أنه لعب دورا أساسيا في التحالف مع حزب الاستقلال آنذاك حيث أنه كان من المخاطبين الأساسيين وهو نفسه من صاغ الاتفاق السري الذي جمع بين الحزبين. وبعد مشاركة الحزب في التدبير الحكومي عبر جسوس عن قلقه وانشغاله متسائلا هل يستطيع الحزب في إطار الانتقال الديموقراطي جعل النظام السياسي المغربي يمر من الملكية الرئاسية إلى الملكية البرلمانية؟ وقد كان دائما يعتبر أنه لا بد من تغليب المصلحة العامة للبلاد على مصلحة الحزب. ولم ينس اليازغي التذكير بدور جسوس في القضايا التعليمية من خلال مشاركته في اللجنة الملكية لإصلاح التعليم ودفعه في اتجاه إبعاد التعليم عن التوظيف السياسي والحزبي. لم تكن أسئلة جسوس لتنتهي إلا بأسئلة جديدة وهو كذلك كان يفتح باب النقاش بسؤال وينهيه بأسئلة أخرى أكثر ملحاحية، يقول اليازغي إنه حتى خلال اللقاءات والاجتماعات الحزبية كان عندما نصل إلى توافق في الآراء وقناعات يفتح باب السؤال من جديد حول هذه القناعات.. في جميع الصور التي رسمتها شهادات الأساتذة والسياسيين كان جسوس واحدا متميزا متفردا في فكره وأسلوبه ومنهجه. كان رجلا بسيطا. محمد أبويهدة