أهنئكِ بانتخابك سيدةَ المدينة، ولا أعرف حقا إن كان عليّ أن أفرح استبشارا بما وصلت إليه النساء، أم أحزن حداداً على انقراض الرجال الرجال... هؤلاء الرجال الذين ما التفتوا إليّ، ولا فهموا أن هذه المدينة التي يتحكمون في ناسها وترابها أعزُّ من أن تتحول إلى فندق كبير مفتوح للسياح والغرباء. "" أهنئك وأبوح بألمي بعد أن وصلتِ إلى الحكم، وما أهمّني كيف وصلتِ؛ أفوق دبّابة أم على ظهر جرّار. لم أكن راغبا في أن أفتح هذا الجرح قبل شهور عندما سقط حائط من حيطان ضريحي، لأني لم أُرِد أن أفسد فرحة البعض بمرور كم قرن على تأسيس المملكة. فقد كان من الممكن أن أصرخ فتتوقف كل مظاهر الاحتفال، وتدفع الجميع إلى الشك في كل ما يسمعون ويعرفون. ولهذا كتمتُ صرختي داخلي وانتظرتُ، ربما ينهض من بين الحاكمين رجلٌ يهتف أنْ آنَ للمغاربة أن يعرفوا ملكا عظيما كان هنا، وآن لضريحه أن ينعم ببعض الهيبة وبكثير من التكريم. لكن لم يرتفع صوت ولا اهتز ضمير. أترى تنجح امرأةٌ في ما عجز عنه الرجال؟ لستُ أقل شأناً من رجال مغمورين تُشدّ إلى قبورهم الرحالُ كل عام وتفيض على سدنتهم الأموال والعطايا. ولستُ أصغر من سلاطين عابرين يحيط الجلال اليوم بأضرحتهم ويتوجه إليها السياح والتلاميذ كل يوم. ثقي بي، أنا لستُ حزينا بسبب الإهمال الذي يلقاه ضريحي، فوالله لا تُحزنني بساطته، لأني لستُ من أولئك الذين تُعْميهم العظمةُ في الدنيا فينخدعون بحملها معهم إلى القبر. فالتاريخُ يشهد أني كنتُ الزاهدَ في الجاه، المترفعَ عن الأبهة، المتقشف حتى الضنك... لكن ما أحزنني حقا هم هؤلاء الذين تعاقبوا على الحكم ولم يفهموا أنهم حين يدوسون اسمي فإنهم يوَسّعون الثقوب التي يتسرب منها ما تبقى من ماء كرامتنا. هم لا يفهمون، ويجهلون أن هذه المدينة العريقة لا تحيى فقط بالغرباء الذين تسليهم، بل يمكنها أن تحيى وتصنع الحياة بأبنائها وسواعد رجالها وكرامة نسائها وعنفوان شمسها وشجاعة علمائها، تماما كما كانت حين كنتُ. أنا غاضب من الحاكمين، ولستُ منزعجاً من هؤلاء النكرات الذين يمرون بشاهد قبري ويبصقون، لأنهم لا يعرفون من ذا الراقد وسط الضجيج والغبار والخذلان. هم لا يعرفونني ولا يسألون. فمهما كانوا قساة عليّ بتجاهلهم، سأسامحهم. ومهما رموا بقذاراتهم على حواشيَّ لن أغضب منهم، لأني أعرف أنهم مجرد مساكين، ضحايا لآلة المحو العملاقة التي عاثت تدميرا في تاريخ المدينة وتاريخي ولم تتوقف بعد. أمَا مِن أحدٍ يخبرهم بأني الساكن هذا الضريح؟ أنا يوسف يا امرأة. أنا يوسف السلطان الأمير القائد الشاهد على عزة المغاربة التي امتدت من إسبانيا حتى تخوم الصحراء. كنتُ في الحرب والسلم الدليلَ على عظمة المسلمين عربا وأمازيغ ذات عصر. أنا الذي بنيتُ هذه المدينة إذ جعلتُ من حفرة صحراوية واحاتِ نخل لا يكف الماء عنها ولا المجد، فكيف يطويني النسيانُ الآن في هامش مغمور لا يعبره الضوء ولا الماء؟ أنا الذي جعلتُ هذه الأمة العظيمة ترفع رأسها في وجه المتطاولين على أرضها وسمعتها شمالا وشرقا وفي عمق الجنوب، كيف يضيق بي دليل السياح في مدينة تتسع يوما بعد يوما لتجار الجسد والشعارات والعقار؟ لذا يا سيدةَ المدينة حاولي أن تنفضي عن ضريحي هذا الهوان، حاولي أن ترفعي عن اسمي هذا الظلم ليعرفني المغاربة القادمون، حاولي وستقدرين. وإذا ما وقف أحدٌ في وجهك انتصارا للجهل وتسلحاً بالباطل، رددي في وجهه ما كنتُ أردده في وجوه المغرورين: "الذي يكون، ستراه". [email protected]