لم يشعرني يوما دانيال هغاري، الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي، أنه صادق في تصريحاته. أمر عادي جدا. فالرجل أولا وأخيرا جندي إسرائيلي، أذله أهل غزة إذلالا لم تعرف البشرية له سابقة... قبل السابع من أكتوبر، وبعد السابع من أكتوبر، وإلى يوم الدين، لن ينسى التاريخ أهل غزة... قوم يتنفسون قضيتهم في نسائم الصباح الباكر، وعند العشي، وعند الغسق، يشربونها شرب الماء الزلال المتدفق بين المروج الفيحاء... يحلمون بها في يقظتهم وفي منامهم... يلهوا بها الصبية في الحارات، وبين الروابي والتلال... يبتهل بها العباد والنساك في المساجد والكنائس. دانيال هغاري كان يتحدث بحماس زائد عما يسميه "قتل المخربين"، والذي لم يكن في حقيقته سوى تقتيل ممنهج للأطفال والنساء والمسنين العزل... وأن القوة العسكرية الإسرائيلية قادرة على اجتثاث المقاومة في غزة... إلا أن ملامحه كانت تخفي سرا أكثر عمقا... كان يعلم علم اليقين أن الرصاصة التي تقتل طفلا بريئا، هي نفسها التي تصنع من أخيه الذي لم يولد بعد، مشروع فدائي... كان يعلم أن هدم المباني يوازيه بناء أعظم منه... بناء عزيمة أهل فلسطين التي توازي صلابه الحجر الصوان... كان يعلم في قرارة نفسه، أن إيمان أهل فلسطين بقضيتهم، هو إيمان رباني، لا يقهره الرصاص ولا قصف الطائرات والمدافع... يستشهد جيل، لتخلفه أجيال. كنت واثق بأن دانيال هغاري بعد الانتهاء من تصريحه سيتوجه على عجل إلى التلفاز ليتابع الحقائق المرة التي سيثيرها اللواء فايز الدويري... هذا الشيخ الذي علمنا أبجديات الخطط العسكرية... ورحل بنا إلى جغرافية غزة... فعلى يديه سافرنا بدون جواز سفر ولا تأشيرة مرورا إلى شوارع وأزقة وحارات غزة... خبرناها أكثر من سعاة البريد... كان الدويري يعري هغاري بلا استحياء... يجرده من ملابسه الخارجية والداخلية على حد سواء. كان دانيال هغاري يشعرني بأنه غير جدير بالاحترام... يخاف من صبية النصيرات... من مرضى المعمداني... من نساء دير البلح... من شيوخ بيت لاهيا... من أرامل مخيم البريج... من كل أهل غزة شيبا وشبابا ذكورا وإناثا... كان يكذب على نفسه حين يظن أن قتل البشر، يقتل قضية تسكن الأنفس. إلا أنه في يوم 19 يونيو من هذا الشهر، استطاع دانيال هغاري أن يفرض علي احترامه... كيف لا وقد فك عقدة لسانه... وتصالح مع ذاته، حين قال في تصريح لإحدى القنوات التلفزية: "... إن حماس فكرة وهي مغروسة في قلوب الناس ومن يعتقد أن بإمكاننا إخفاؤها فهو مخطئ...". ما يهمني من هذا الاعتراف/البوح هو مسألة الفكرة المغروسة في قلوب الناس... لا يتعلق الأمر هنا بحركة حماس فقط، أو غيرها... ولكن يتعلق الأمر بثابت تاريخي رافق ويرافق البشرية منذ البدء وإلى الأبد... وهو مسألة الأفكار والإيمان بالقضايا... كيفما كانت الفكرة وكيفما كانت القضية. فالإنسان يملك قوة باطنية لا يقهرها الزمن، ولا القمع، ولا التقتيل... إنه صمود الفكرة أمام جميع أساليب الدمار... فالفكرة لا تقتلها إلا الفكرة... انتصر دانيال هغاري على ذاته... على الميت فيه... على جنون العظمة الذي يسكنه، ويسكن من خلاله حكام إسرائيل... تخلص من عقدة المهزوم الذي يتغنى بقتل طفل أو شيخ أو امرأة نائمة إلى جانب رضيعها في خيمة منسية على هامش مخيم مدمر... انتصر على التلذذ بالمشاهد اليومية لأشلاء الصبية مرمية على الطرقات، بسبب قصف طائرات "إف 16′′... أو قذائف "ميركافا". عاد دانيال هغاري إلى رشده... آمن بأن الفكرة لن تموت بالقوة... وأن القضية باقية ما بقي المطالبون بها... عبر كل الأزمان... وفي كل بقاع الأرض... وما علي الآن إلا أن أحترمك يا هغاري.