إلى أي مدى تتمتع ترجمة الوثائق التاريخية بقيمة تاريخية في حد ذاتها؟ وهل ترجمة التاريخ ممكنة؟ ثم هل للترجمة أي دور في توثيق الأحداث التاريخية وتدقيقها؟ وكيف تحافظ الترجمة على الحقيقة التاريخية؟ أسئلة وأخرى أجاب عنها خالد بن الصغير، المترجم وأستاذ التاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس بالرباط، بمناسبة حلوله مساء اليوم الجمعة ضيفا على الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة التابعة لأكاديمية المملكة، حيث ألقى محاضرة تحت عنوان "التاريخ والترجمة أية علاقة؟..الرهانات والحدود"، بحضور عبد الجليل الحجمري، أمين السر الدائم للأكاديمية، وثلة من المهتمين والباحثين في التاريخ. عبد الفتاح الحجمري، مدير مكتب تنسيق التعريب التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، قال في كلمته التقديمية بهذه المناسبة: "إن التاريخ يعد ذاكرة الشعوب ومرآة الحضارات، وله دور هام في فهم حاضرنا وتشكيل مستقبلنا، ولكن ماذا لو كان هذا التاريخ مكتوبا بلغة لا نفهمها؟"، قبل أن يجيب: "هنا يأتي دور الترجمة باعتبارها أداة أساسية لربط الماضي بالحاضر وفهم الثقافات والحضارات المختلفة". وأشار الحجمري إلى الصعوبات التي قد تواجه الباحث في ترجمة النصوص التاريخية، على غرار "عتاقة اللغة، فقد تحتوي هذه النصوص على لغة قديمة أو متوسطة القدم، وهي لغات تختلف عن اللغات الحديثة في الكثير من الأحيان، ولذلك يحتاج المترجم إلى فهم النص بعمق وتحويله إلى اللغة الحديثة"، مشيرا أيضا إلى "التعبيرات والألفاظ القديمة غير المألوفة التي قد تتضمنها النصوص التاريخية، وهو ما يفرض على المترجمين بذل جهود مضنية لإزالة هذا العائق، إضافة إلى الخلل النصي الذي قد يعتري النص التاريخي نتيجة تلف أو تدمير". وسجل أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة أن "العلاقة بين التاريخ والترجمة تدعو الباحث إلى التفكير في حدود تأثير هذه الأخيرة على توثيق الأحداث التاريخية، وبيان كيفية تشكل النصوص المترجمة وفهمها"، موضحا أن "هذه العلاقة تشمل عدة مستويات، أبرزها توثيق الأحداث والنصوص، وتشكيل الفهم التاريخي، ثم الترجمة باعتبارها أداة للسلطة والسيطرة، فقد استخدمت في بعض الأحيان كوسيلة لتعزيز السلطة، خاصة في العصور الوسطى، حيث كانت ترجمة النصوص الدينية مثلا وسيلة لتعزيز سلطة الكنيسة". واعتبر المتحدث أن "الترجمة تعد أيضا عاملا فاعلا في فهم الهوية الوطنية للدول التي يمكنها التعريف بثقافتها وتأكيد مكانتها في العالم عبر ترجمة الأعمال الأدبية والتاريخية"، مؤكدا في الوقت ذاته أن "الترجمة ليست نقلا للكلمات من لغة إلى أخرى، بل هي أيضا نقل للمعاني والمفاهيم والسياقات، وهو ما يفرض على المؤرخ المترجم الفهم العميق للثقافة والاعتماد على التحليل التاريخي، أي القدرة على تحليل النص الأصلي ونقل هذا التحليل بدقة إلى اللغة الواسطة". من جهته استهل خالد بن الصغير، أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة محمد الخامس بالرباط، والمترجم الذي ترجم مجموعة من الأطروحات والبحوث التاريخية، محاضرته بطرح السؤال التالي: "كيف يصبح المترجم مترجما؟"، قبل أن يضيف: "حين نعود إلى المراحل التاريخية أو إلى أركيولوجيا الترجمة سنجد أنها عبارة عن ممارسة موجودة منذ القدم ومنذ وجود الحضارات القديمة، خاصة في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط التي تعتبر مجالا خصبا لنشاط الترجمة بحكم أن ضفافه تطل عليها شعوب ذات ثقافات ولغات مختلفة". وأوضح بن الصغير أن "الفضاء المتوسطي مورست فيه الترجمة منذ عهد الفراعنة، ومنذ اكتساحهم ومحاولتهم الهجوم على مجموعة من المناطق، بمعنى أن ممارسة الترجمة تكون حاضرة حتى في الغزو والحروب وتكون ضرورية في أوقات السلم وفي ممارسة التجارة"، مسجلا أن "الرومان أيضا حينما سيطروا على المنطقة احتلوا شعوبا كثيرة، وكان لا بد من محادثتها ومحاورتها بلغتها، ولذلك بدأت تظهر ومنذ القديم حرفة الترجمة التي لا تقل أهمية عن الجيوش، باعتبارها أيضا سلاحا". وبين المحاضر ذاته أن "ممارسة الترجمة الأكاديمية تطرح سؤال مشروعية هذه الممارسة في حد ذاتها"، متسائلا: "هل يجب أن يكون المترجم مؤرخا بالضرورة؟"، ومضيفا أن "العمل الترجمي يبقى مفتوحا على جميع الاحتمالات ولا تحكمه قوانين، وإنما هناك ظروف وعلاقات شخصية وحاجات وقتية تفرض هذا العمل في الحقل الأكاديمي". واستعرض المؤرخ ذاته مجموعة من الأعمال والنصوص والأطروحات التاريخية التي قام بترجمتها، مع إبراز سياقاتها وظروفها، لافتا إلى أن "الترجمان في بعض السياقات التاريخية كان يتمتع بامتيازات وإعفاءات ضريبية، وكان التراجمة يتصاهرون في ما بينهم"، وزاد أن "أحد السفراء كان وصف التراجمة بأنهم اللسان الذي يتكلم والأذن التي تسمع والعين التي ترى واليد التي تعطي والروح التي تعمل، ويتوقف عليهم نجاح أي مفاوضات". وتابع المحدث بأن "الترجمان في حوض البحر الأبيض المتوسط، خاصة في المدن الإيطالية، كان رجل سلطة، وقد اتهم في بعض الأحيان بالجاسوسية، بحيث كان مصير التراجمة في مناسبات عديدة الإعدام". واعترف المؤرخ ذاته ب"صعوبة ترجمة المؤلفات والكتب الجماعية إلى لغات أخرى، بسبب أن المقالات المتضمنة فيها تكون مكتوبة بنفس مختلف"، مسجلا في الوقت ذاته أن "ترجمة هذا النوع من الكتب غير موجودة في المغرب وفي العالم العربي عموما، وكأنها غير مهمة"، وموردا على صعيد آخر أن "أدوار الترجمة في حقل التاريخ هي المساعدة في حفظ الرواية الشفوية".