قال الأكاديمي فريد الزاهي إن الترجمة لا تبدأ بممارسة النقل من لغة إلى أخرى، بل "تكون في الإدراك، في الانتقال من الإحساس إلى اللغة ومن اللغة إلى النص؛ فنحن لا نترجم فقط ما يقدمه النص لنا، بل أيضا اختيارنا له، وإحساسنا به، وتأويلنا له، وطبيعة علاقتنا به، كما نترجم موقعنا، وموقفنا الثقافي منه". جاء هذا في مداخلة بأكاديمية المملكة المغربية، خلال ندوة دولية بعنوان "جسور المعرفة.. تأويل الغيريّة في الفكر والترجمة"، نظمت أكاديمية المملكة المغربية يومها الثاني، الخميس، في إطار الهيئة الأكاديمية العليا للترجمة التابعة لها، بتعاون مع جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي، وجامعة فريديريش ألكسندر إرلنغن بنورمبرغ. وانطلاقا من تجربة الزاهي مع الترجمة عند التُّرجمات التي "فكّر فيها كثيرا كباحث"، وعاشها "كتجربة حدية تجمع بين الألم والمتعة والفكر والتفكّر"، ذكر أنها "كما المرآة، بشكل ما، لا تمنحنا من حقيقة الانعكاس إلا ما يبدو لنا فيها؛ تفيض الترجمة كثيرا عن التطابق ليس لاستعصائه عليها فقط، بل لأن الترجمة عملية سابقة على الترجمة". وتابع المتحدث ذاته بأن هذه "الافتراضات"، غيرَ الجديدة؛ "وليدة الانزياح عن العلاقة الميتافيزيقية التقليدية بين أصلية النص وتبعية النص المترجم لدائرة المؤلف"؛ ف"كان لا بد من موت المؤلف، وولادة القارئ كي ينبثق الترجمان بدوره من حضن هذه الولادة، باعتباره متلقيا وقارئا ومبدعا للنص"، دون أن يقلل هذا من دور المؤلف، وأهمية النص المترجم. وواصل الأكاديمي: "ولادة التُّرجمان ندا للمؤلف تجعل النصوص، في أغلبها، قابلة للتحويل في الترجمة والضيافة في لغات أخرى (...) لكنه تحول ينزع عن المؤلف حظوته، ليخلق موازنة جديدة بينه وبين الترجمان؛ بل إن ذلك ما يجعل من الترجمة تراكما من النصوص والقراءات والتأويلات التي تمنح صورا جديدة للنص (...) فالترجمان موقع ثقافي وأنثروبولوجي يبتكر للنص شكلا جديدا من أشكال وجوده، ويمنحه صورة جديدة، وهيئة جديدة، وجسدا جديدا، ولسانا جديدا". كما تحدث فريد الزاهي عن "إستراتيجيته الفكرية في الترجمة"، التي جعلت كثيرا مما ترجمه "مرجعيات لا محيد عنها للقراء المهتمين"، مثل: "حياة الصورة وموتها" لرجيس دوبري، "الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي" لهنري كوربان، و"السحر والدين في شمال إفريقيا" لإدموند دوتيه، و"المقالات" ل مونتين، ومؤلفات دافيد لوبروتون؛ ثم أردف شارحا: "عملية الاختيار تنتمي إلى مقاصد الترجمان، لا لقصدية المؤلِّف، وهي المنطلق لهذه الإستراتيجية الفكرية التي يشتغل بها الترجمان. إستراتيجية يكون فيها استباقيا استشرافيا يوجه النظر في حقله الثقافي لقضايا غير مطروقة أو منسية أو مكبوتة أو مقموعة أو محظورة، أو توجيهيا باقتراح وجهة نظرة جديدة في الموضوعات المطروقة لثقافته، أو كشافا حين يترجم للعربية نصا يعتمده الباحثون والدارسون في لغته الأصل أو في لغات أخرى". عملية الاختيار والحرية التي تقوم عليها، وما يستتبعها من عمليات مركبة، هي، وفق المتدخل، فعل فكري يحول الترجمان "من آلة ترجمية وسيطة إلى مترجم ذي مقاصد ثقافية وفكرية ومنخرط كلية في محيطه الثقافي، فاعل ثقافي؛ بفكر يقظ راصد لنقط جمود ثقافته ومثبطاتها ومواطن قوتها وضعفها، خاصة إذا كان كاتبا وباحثا". وزاد المتحدث: "الترجمان الجيد يفكر في تلك المعاني بحساسيته ولغته وثقافته وما يسعفه إدراكه منها، وكلما كانت ثقافته اللغوية والثقافية واسعة كلما وجد المخارج والحلول، وحين لا يعثر عليها يستخدم ذكاءه التأويلي والترجمي والثقافي؛ ففعل الضيافة يحول الغريب الآخر إلى أليف يتآلف مع الغريب عليه، يحوله إلى صدى ممكن لذات ثقافته، قد يتقاطع معها أو يخصبها بالجديد (...) وحين نترجم نجاوز مفهوم الغريب ومبدأ الضيافة، لأنهما في أصل عملية الترجمة لا في مآلها". واسترسل الأكاديمي شارحا: "هي ضيافة مشتركة. لا يمكن للنص رفض ضيافة الترجمان، وحين يستضيف الترجمان النص يصير مضيفا أيضا، في غيرية متبادلة؛ ولذلك الترجمان، خاصة للنصوص الفكرية والفلسفية، لا يمكن إلا أن يكون مفكرا في دقائقها من الاختيار إلى الصيغة النهائية، والترجمة تكون مفكرة حتى حين ترجمة الرواية". كما قال الزاهي إن "الترجمان صانع للنظير، يشترك مع مترجمين آخرين في إشعاع النص الأصلي واستقراره وضيافته في لغات أخرى؛ وعندما يكون كاتبا أو مفكرا ويقدم على الترجمة فإنه يمارسها بإستراتيجية تخلخل تصورات تنقص من الترجمة، فحين يترجم الشاعر شاعرا أو الفيلسوف فيلسوفا يغدو التملك والندية والمصاحبة أمورا لصيقة بالترجمة، أو تأويلا ترجميا يكون منطَلقا لبناء تجربة فكرية". ودافع الأكاديمي عن "الترجمة المفكرة" بوصفها "نقادة مفكِّكة، ومتيقظة لهفوات النص، وانزلاقاته، وميوله الإيديولوجية، كما لظروف إنتاجه وتلقيها"؛ فلذلك "غالبا ما يحيط المترجم النص بالهوامش التوضيحية والتفسيرية لما غمض أو التبس، ولما يَمتنِع أو يتمنَّع عن الترجمة وما يثير حفيظة المتلقي أو القارئ". ثم ختم المتدخل بالقول إن "الترجمان يمنح لنص المؤلِّف بعضا من معانيه، وبعضا من بصماته، وفي ذلك يتشاطر معه صورة النص النهائية التي يوقعها باسمه"، علما أن "الترجمة ضرب من الفعل الثقافي، تسعى لتغدو ترجمة مرجعية في محيطها الثقافي، تثبط كل محاولة لإعادة الترجمة"، وأن المفكِّرة منها "لا تشيخ سريعا، وتكرس الترجمانَ فاعلا ثقافيا لأجيال عديدة".