يعدُّ الكاتب والسياسي إميل حبيبي واحدا من طليعة أشهر المبدعين الفلسطينيين الذين ارتقوا إلى مرتبة أبرز رموز الأدب العربي، ابتداء من سبعينيات القرن الماضي؛ فقد ترسَّخ اسمه بكيفية جلية حينما أصدر سنة 1974 روايته الشهيرة "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، التي ذاع صيتها بتسمية المتشائل، أي العبارة الأخيرة من العنوان كنحت اشتقاقي لساني جديد أبدعه إميل حبيبي بمزجه كلمتي المتفائل والمتشائم انسجاما مع كنه روحه الساخرة مثلما تجلَّت بين طيَّات مجموع نصوصه التي عضَّدتها ربما وقائع الكوميديا السوداء ليوميات الاحتلال الإسرائيلي، وهو الفلسطيني الذي بقي في الأرض ضمن جغرافية ما عُرِف بشعب الداخل أو فلسطينيي 1948 ولم يغادر قط نحو الخارج. ترجِمَت الرواية إلى ست عشرة لغة، واحتلت الرتبة السادسة ضمن أهم قائمة مائة رواية عربية. وإن استمرت غاية الآن بمثابة العنوان الأوفر حظَّا حين ذكر إميل حبيبي، المبدع والمثقف العضوي؛ فقد أنجز ابن مدينة حيفا، مسقط رأسه، متنا سرديا رصينا تنوَّع بين أجناس الرواية والقصة والمسرح وكذا المقالة السياسية: بوابة مندلباوم (1954)، النورية قدر الدنيا (1962)، مرثية السلطعون (1967)، سداسية الأيام الستة (1969)، لكع بن لكع (1980)، إخطية (1985)، خرافية سرايا بنت الغول (1991)، نحو عالم للأقفاص (1992)، أمّ الروبابيكا (1992). نتاج لافت أثار اهتمام لغات أخرى كي تترجمه إلى ثقافتها، مثلما فعل الإنجليز والفرنسيون والألمان والإسبان والإيطاليون وكذا أهل اللغة العبرية، بالتالي أخذ إبداع إميل حبيبي سبيله نحو العالمية. حينما نطالع سيرة إميل حبيبي، الغنيَّة والثريَّة، ككاتب ومناضل في صفوف الحزب الشيوعي منذ نعومة أظافره، غاية استقالته تماما من السياسة وتوقُّفه عن دواعي اهتمامات الحياة الحزبية، نتيجة آرائه الداعمة لمشروع بريسترويكا ميخائيل غورباتشوف سنة 1989؛ ذلك أنَّ موقفه المساند علانية للإصلاح داخل أجهزة الأحزاب الشيوعية، جراء مستجد اللحظة التاريخية، لم ينل رضا الرفاق. معطيات ناقشها بتفصيل واضح بين صفحات كتابه "عالم بلا أقفاص". أقول، بمجرد استعادة مسار حياته، سنلاحظ ثلاثة معطيات أساسية، تظهر مفارقات واضحة للعيان: أولا: إنَّه الفلسطيني/الإسرائيلي: ولد في حيفا يوم 29 غشت 1921، وانتقل عام 1950 إلى مدينة الناصرة حيث مكث حتى وفاته عام 1996، موصيا وصية وداعه الأخير بأن تكتب على شاهدة قبره: "باقٍ في حيفا". لقد عاش مختلف أطوار حياته داخل فلسطين 1948، وعضوا في الكنيست، نائبا عن الحزب الشيوعي الإسرائيلي بين سنوات (1952 -1972)، مستلهِما كليّا المرجعية الماركسية بعد دراسة لمجال الهندسة البترولية. كان من مؤسِّسي عصبة التحرُّر الوطني في فلسطين عام 1945، ثم اختبر العمل الصحافي مذيعا في إذاعة القدس (1942- 1943)، ومحرِّرا في أسبوعية مهماز (1946). أشرف على تحرير يومية الاتحاد الناطقة باسم الحزب الشيوعي بين سنتي (1972-1989). إجمالا، دون الاستفاضة في رصد تفاصيل حياة إميل حبيبي، ما دام حيِّز المقام لا يسمح، فالسِّمة الجامعة بين مختلف ذلك كونه من المثقفين الفلسطينيين القلائل الذين تمسكوا فعليا بمبدأ البقاء في الأراضي الفلسطينية والدفاع عن القضية عبر مؤسَّسات الدولة العبرية. وضع انطوى، حسب تقدير مبدعين عرب، على التباسات. ثانيا: سنة 1990، تسلَّم جائزة القدس من يدي ياسر عرفات. مرت سنتان، جاء إعلان تتويجه بجائزة الإبداع الإسرائيلية، فوقف هذه المرة إسحاق شامير – أحد عتاة الصهيونية العنصرية- مكان عرفات. جائزتان رفيعتان، مصدرهما طرفان يتواجدان عند موقعين متناقضين. تبرَّع بالتعويض المادي للجائزة الإسرائيلية إلى الهلال الأحمر الفلسطيني، الذي كان يشرف على علاج جرحى الانتفاضة. أيضا أسرع البعض نحو تبرير قبوله مصافحة شامير برغبة إميل حبيبي في تكريس الاعتراف الإسرائيلي الرسمي بالإنتاج الثقافي الفلسطيني، ثم انتمائه منذ سن ال14 إلى الحزب الشيوعي المعروف بوقوفه ضد العقيدة الصهيونية. مع ذلك، أثارت الواقعة لحظتها لغطا وضجَّة. كتب مثلا عبد الرحمن منيف: "أديب خسره الأدب ولم تربحه السياسة... قد تكون رواية المتشائل أصدق ترجمة لإميل حبيبي الكاتب والسياسي. ففي الوقت الذي يحلِّق الكاتب رافضا أيّ تنازل أو مساومة، فإنَّ السياسي ينشد إلى الأسفل، يضطرّ إلى التنازل خطوة بعد أخرى من أجل الوصول إلى نتائج عملية. إنها مفارقة أقرب إلى التراجيديا، وهي إحدى الإشكالات الكبرى في تحديد العلاقة بين المثقف والسياسي، بين الثقافة والسياسة... وعندما يقبل جائزة إسرائيل للإبداع الأدبي، يعرف أنَّ إسرائيل لا تمنحه هذه الجائزة لجدارته الأدبية وإنما لموقفه السياسي، في الوقت الذي يعتبر شامير أنَّ قصيدة مثل "عابرون في كلام عابر" لدرويش تشكِّل تحدِّيا لوجود إسرائيل" (عبد الرحمن منيف: لوعة الغياب، المركز الثقافي العربي والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثالثة 2003، ص 189). بمناسبة سياق الحديث، وجب إعادة التذكير بمسألة دعم إميل حبيبي لاتفاقية أوسلو ودعوته لاستتباب السلام في المنطقة، عبر ضرورة الاعتراف المتبادل بين الطرفين وكذا عودة اللاجئين. ثالثا كابد إميل حبيبي، منذ البداية، قصد التوفيق بين رافدي الثقافة والسياسة، المبدع الروائي والمناضل السياسي، الخيال والواقع، اللامتناهي واليومي؛ لكنه افتقد، في نهاية المطاف، هذا التوازن وانهزمت شفافية المبدع أمام دوغماطيقية وميكيافيلية السياسي. هكذا، مثلما سبقت الإشارة، ففي سنة 1989، اختلف مع باقي مكونات الحزب الشيوعي بخصوص الموقف الذي ينبغي تبنيه نحو سياسة الإصلاح التي بادر إليها ميخائيل غورباتشوف. دعا إميل حبيبي، في خضم ذلك النقاش المفصلي والنوعي، إلى حتمية إعادة التفكير في دمقرطة الحزب وتجديد آليات النظرية الماركسية. نتيجة احتدام الخلاف وتباين المواقف، صدر القرار بإقالته من رئاسة تحرير جريدة "الاتحاد" الناطقة باسم الحزب. حينها، لم يتردد إميل حبيبي في إعلان خروجه النهائي من الحزب؛ بل الحياة السياسية عموما، وتحوُّله إلى عزلة عالم الكتابة.