تعيش المجتمعات العربية، تخلفا حضاريا جد مركب، جعلها في وضع بين الأمم و الحضارات الأخرى لا تحسد عليه. تخبطت فيه منذ قرون عديدة. وقد ظهر هذا التخلف بصور و أشكال مختلفة ، بحسب طبيعة و خصوصية كل فترة تاريخية من فترات هذه الحقبة الطويلة المظلمة .كان أبرزها دخول هذه المجتمعات، منذ الاستقلال حتى الآن، في مسلسل " تحديث « للبنيات العتيقة، السياسية، والاقتصادية و الثقافية و الاجتماعية التي تتسم بها، حاولت فيه تطبيق نماذج حضارية غربية شملت مختلف مظاهر الحياة العصرية ( إدارة، عسكر، تعليم... ) بشكل تعسفي جعل، في النهاية، التعايش ما بين "العصري" و "التقليدي" العتيق يتسم بالمفارقة، و جعل، بالتالي، المشهد الحضاري العربي الآني يبدو قاتما يثير السخرية و الشفقة في نفس الوقت. "" فمنذ أن استفاق العرب من " كومتهم العميقة " التي سببتها ضربات " الغزو المغولي " الموجعة وما أعقب ذلك من قضاء نهائي على الإمبراطورية العربية و الإسلامية ، انتهجوا طرقا و سياسات و استراتيجيات مختلفة بغية التقليص من هذه المسافات و التباعدات الحضارية بينهم وبين المجتمعات المتحضرة . فمنهم من فتح شرفات الوطن لتهب نسمات الغرب بنكهة ليبرالية و رأسمالية ، و منهم من أوصد كل المنافذ و سد جميع الثغرات و اكتفى بمغازلة الحاضر على إيقاعات نوستالجية ماركسوية ، و منهم من توسد " عقائديات " خالدة و افترش أمجاد و بطولات الأجداد ، و راح في نومة " دوغماتية " عميقة لم يستفيق بعد منها إلى حد هذه الساعة . كل هذه الأصناف ، تمثلت لها صورة الغرب ، على أنه ذلك"الآخر المزعج " الذي تغلغل في النسيج الثقافي و فجره تفجيرا ، و استباح المعايير والنظم الأخلاقية والمقدسات المصونة . بعيدا عن كل التصورات الواقعية و الحقيقية التي ستخرجها من مأزق تنمية غير محسوبة النتائج و العواقب ، لم تقدها إلى السبل الحقيقية للتحديث الحقيقي المستدام . و لم تكلف نفسها عناء النظر إلى مختلف تمثلانها عن ذاتها .. وقد ازدادت حدة مفعولات هذه "الإستيهامات " الرافضة ، لا شعوريا ، للغرب و عصرنته ، مع بداية هذه الألفية الثالثة ، نتيجة ما عرفته الحضارة الغربية الرأسمالية من طفرات و فجوات رقمية استجابة للتطورات التي شهدتها الثورات العلمية في مجال الاتصالات و التكنولوجيات الرقمية . فالعدد الكثير من الدراسات العربية التي قامت برصد تقاطعات هذا التخلف مع الحداثة الغربية ، فد انصب جهدها ، على المستويين الموضوعي و المنهجي ، لفهم البنية النفسية و الذهنية الحالية التي تشكل عليها الإنسان العربي المعاصر ، انطلاقا من رصد أهم ميكانيزمات هذه الأزمة الحضارية . فإذا كان مفهوم" الحضارة " ، كما عرفه الأنثروبولوجيون ، يعني الإنتاج المادي و الروحي لدى شعب من الشعوب ، و الذي تأسس انطلاقا من مواجهة الإنسان لعناصر الطبيعة و السيطرة عليها ، انطلاقا من اكتشاف قوانينها ، و العمل على توريث هذه المكتسبات الثقافية للأجيال اللاحقة . فإن هذا التعريف يقدم فكرة أساسية ألا وهي، أن بناء الحضارة هو من بناء الإنسان. وهنا ينبغي طرح التساؤلات التالية : هل يمكن الحديث عن حضارة ما و إغفال ذلك الإنسان الذي قام ببنائها و كلفه ، ذلك تضحيات جسام في سبيل تجديدها عبر تثوير عناصرها بغية أن يستفيد منها الجيل اللاحق و ينهل منها كقاعدة تنظيمية و حياتية تنير له طريقه و تجعله قادرا ، في النهاية ، على مجابهة تحديات العصر ؟ كيف يمكن، إذن، فهم بناء حضارة دون فهم بناء الإنسان ؟ وهل يمكن فهم الإنسان دون فهم دقيق لعالم الطفولة ؟ ألا تشكل الخصائص و السمات النفسية ، التي يكتسبها الأطفال ، في المراحل الأولى و المتوسطة و المتأخرة من طفولتهم ، بنيات تحتية و قاعدة مرجعية لوجودهم الفكري و الروحي و الأخلاقي الإنساني يصعب ، مستقبلا ، تغيير مواقفها و اتجاهاتها التي تستند عليها ؟ وهل السلوك الإنساني هو ترجمة، إجرائيا و عمليا، لتلك التصورات الذهنية التي تتشكل، مند الطفولة إلى الرشد، من ثقافة المجتمع . فبناء على هذه التساؤلات ، يمكن تحليل وضعية التخلف الحضاري المركب ، التي انطلقنا منها في بداية هذا المقال ، بالقول أن أطفال العالم العربي ، يتعرضون لتنشئة اجتماعية ، قد قلبت موازين و معادلات نسقهم التربوي الذي كانوا يخضعون له ، والذي يتجلى في دور كل من الأسرة أو البيت و المدرسة و الإعلام ، بحيث أصبحت تستند ، الآن ، على وسائل جد متطورة فرضتها العولمة ، أثرت في عقولهم و أنظمة إدراكهم ، و أدت إلى تذويب الخصوصيات الثقافية ، باسم" التنوع الثقافي " و" التثاقف "و" المثاقفة ". وهذا مبعث تساؤلنا التالي : ألا يشكل هذا الإجراء المنهج من قبل العولمة ، تهديدا للمقومات الحضارية التي تستند عليها كل حضارة ما ، تروم التجديد و التجدد ، و بالتالي نسفا لتلك التي يسميها "كلود لفي ستروس " ، ب"القاعدة الثقافية " التي تتأسس عليها هوياتهم و مرجعياتهم الثقافية و الروحية و الحضارية ؟ فإذا كانت العولمة ، في مظهرها العام ، هي تعميم للنموذج الثقافي الغربي و جعله " عالميا " عبر نقله من مجال "الخصوصية " إلى مجال "العمومية "و "الكونية "، وإذا كانت هذه العولمة ، أيضا ، تشكل تعبيرا عن " ما بعد الحداثة " كمرحلة تعيشها الدول الغربية ، على مستويات عدة : اقتصادية و تكنولوجية و اجتماعية و سياسية و ثقافية ... هي في انسجام ، كما يقول" عبد الله العروي " ، مع تاريخها ، فإنها لا يمكن أن تبدو لنا ، نحن العرب ، المنتمون لثقافة مغايرة لثقافة الغرب ، إلا " تسويقا " لنموذجها الثقافي و الحضاري يتعارض مع ما يرفع من مستوى الفعل الثقافي الخصوصي لدى الشعوب المستضعفة . لا يقتضي منا، و الحالة هذه، لكي نخرج من وضعية التخلف المركبة، الاستهانة و الاستخفاف بثقافة الأطفال. فطابعها البنائي المتجه صوب تنمية مختلف القدرات و المهارات في الشخصية ، يعزز الفعل التكويني للثقافة .هذا الأخير الذي لا يمكن بتاتا ، رده إلى مجرد مكتسب معرفي ، كما دأبت المقررات الدراسية في العالم العربي على ترسيخه في الفعل الديداكتيكي و البيداغوجي التربوي ، بل يجب اعتباره نتاجا لتكثيف ثقافي ينحت الهويات في جسم الطفولة و يِؤصلها . فالإنسان هو صانع الحضارة و العكس أيضا صحيح. [email protected]