للقميص في الثقافة العربية والإسلامية دلالات ومعان عميقة، والغريب هو أن جل استعمالات القميص في التراث تأتي في سياق الصراع بين قوى الخير والشر. ففي القرآن الكريم، ورد ذكر القميص في سورة يوسف ثلاث مرات. والحاصل أن قصة يوسف مع إخوته تتمحور بشكل لافت حول القميص؛ ذلك أن الغيرة الشديدة لإخوة يوسف منه بسبب حُبّ أبيهم له وإيثاره عليهم دفعت بهم إلى التفكير في طريقة للتخلص منه، فعمدوا إلى رميه في الجبّ (البئر)، ثم عادوا إلى أبيهم يعقوب وهم يبكون ويندبون أخاهم يوسف. ولكي تنطلي حيلتهم على أبيهم جاؤوه بقميص ملطخ بدم الذئب. يقول تعالى: (وجاءوا أباهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين وجاءوا على قميصه بدم كذب). فماذا كان ردّ أبيهم؟. يقول تعالى: (قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون). على هذا الأساس، يتضح أن القميص كان وسيلة استعملها إخوة يوسف لتزييف الحقيقة. أمّا المرة الثانية التي ذُكر فيها القميص في هذه السورة فهي قوله تعالى: "واستبقا الباب وقدت قميصه من دبر وألفيا سيدها لدى الباب قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم قال هي راودتني عن نفسي وشهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت وهو من الكاذبين وإن كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين فلما رأى قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم". هنا أيضا نسجل حضور الصراع بين الخير والشر. امرأة العزيز تراود الشاب يوسف عن نفسه وتدعوه للفاحشة؛ غير أنه لم يستجب لها. وماذا كانت النتيجة؟ زوجها وقف على الحقيقة وبالرغم من ظهور براءة يوسف تمّ سجنه فيما يشبه الالتفاف على الواقعة. أما الموضع الثالث لذكر القميص فورد في قوله تعالى: "اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا وأتوني بأهلكم أجمعين". ها هنا يتحول القميص إلى أداة لفعل الخير، فهو من جهة يثبت أن يوسف قابل حقد إخوته وشرّهم بالصفح والحلم، ومن جهة ثانية سيكون هذا القميص بقدرة قادر أداة وسببا مباشرا لاستعادة يعقوب لبصره، وفي المحصلة الأخيرة تنتصر قيم الخير على إرادة الشر. ويأتي "قميص عثمان" في الثقافة العربية الإسلامية مقرونا بما يسمى ب: "الفتنة الكبرى" التي شكلت منعطفا خطيرا في تاريخ العرب والمسلمين، ما زالت تداعياته الخطيرة مستمرة إلى يومنا هذا، حتّى بعد مرور أزيد من 15 قرنا. وبدون الدخول في التفاصيل التاريخية يمكن تلخيص الحكاية على النحو التالي: ثارت مجموعة من القبائل العربية على الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه بسبب ما اعتبرته ظلما اجتماعيا وتفضيلا منه لبني أمية التي استأثرت بالمناصب والثروة في عهده، فكان أن حاصروه بمركز الخلافة وأحاطوا بمنزله، فانتشرت الفوضى والقلائل، فانتهى بهم الأمر إلى التسلل إلى منزله وقتله. وفي ظل تلك الأجواء العصيبة، تمّت مبايعة الخليفة الرابع علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فطالبه بنو أمية بالاقتصاص من قتلة عثمان؛ لكنه أرجأ ذلك إلى حين تثبيت حكمه، علاوة على أنه كان من الصعب وقتها معرفة المتورطين في قتل عثمان. وبدهاء سياسي وبراغماتي من معاوية وعمرو بن العاص، ثار بنو أمية على عليّ وحاربوه مستغلين "قميص عثمان" الملطخ بالدماء للثأر للخليفة المقتول، فكانت معركة صفين الشهيرة والتي عرف دهاة بني أمية كيف يحولون هزيمتهم فيها إلى نصر كبير من خلال دعوتهم عليّا إلى الاحتكام إلى القرآن. وهو ما قبله عليّ على الفور؛ لكن بعضا من أتباعه خرجوا عليه وهم الخوارج ثم قتلوه بعد ذلك ليخلو الجو لبني أمية الذين استأثروا بالحكم وأسسوا مملكة بني أمية. وصولا إلى قميص فريق نهضة بركان لكرة القدم وما أثير حوله من صدام بين الإخوة الأعداء، لا بد من الاشارة إلى أن هذا القميص أشّر لفصل جديد من فصول الصراع المغربي الجزائري؛ وهو صراع تاريخي ذو حمولات سيكولوجية، يرى البعض أنه يعود إلى الفترة التي سبقت احتلال فرنسا للجزائر. لكن ما هو أكيد تاريخيا وباعتراف من الجزائريين أنفسهم أن المغرب قدم للثورة الجزائرية خدمات جليلة وساعدها في حربها التحررية من نير الاستعمار الفرنسي. وغداة استقلال البلدين تواليا (المغرب سنة 1956 والجزائر سنة 1962)، حدثت المواجهة بين البلدين بسبب تنكر الجزائر لوعودها وإجهازها على الصحراء الشرقية التي اقتطعها الاحتلال الفرنسي من المغرب بعد استعماره للجزائر. وعلى إثر ذلك، دخل البلدان في حرب الرمال سنة 1963 وبعد تدخل من بعض الدول الإفريقية والعربية تم وقف إطلاق النار في السنة نفسها؛ لكن الجزائريين لم يستطيعوا نسيان تلك الهزيمة التي ألحقها بهم المغاربة، فنما الحقد في قلوبهم ضد كل ما هو مغربي. وفي سبعينيات القرن الماضي، استرجع المغرب أقاليمه الجنوبية من إسبانيا؛ من خلال تنظيمه للمسيرة الخضراء سنة 1975. فما كان من الجزائر إلا أن عملت على خلق جبهة "البوليساريو" ودعمتها بالعتاد والسلاح كي تنازع المغرب على صحرائه؛ فنشبت على إثر ذلك حرب الصحراء التي زادت من تكريس أجواء الكراهية والحقد بين البلدين، خصوصا في عز الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي. وهي الحرب (حرب الصحراء) التي لم تضع أوزارها إلا في مستهل الثمانينيات. وفي هذا السياق، أقدمت السلطات الجزائرية على ارتكاب أبشع مأساة إنسانية عبر طردها لآلاف المغاربة من ترابها بعد أن جردتكم من ممتلكاتهم وفرّقتهم عن أهلهم وذويهم، وهو ما أسمته "المسيرة السوداء". ولنتأمل في رمزية اللونين: الأخضر المغربي والأسود الجزائري !. في خضم ذلك، تم الزج بكرة القدم في معمعان المواجهة والصراع، فاستغلت الجزائر حدث انتصارها على المنتخب المغربي سنة 1979 لتتغنى به وتجعل منه أشبه ما يكون بنصر عسكري وقد سخرت آلتها الإعلامية في ذلك بشكل صبياني يدعو إلى السخرية. ومنذ ذلك الحين، لم تفوت السلطات الجزائرية الفرصة في أية مناسبة تجمع بين رياضييها والمغاربة للتضييق عليهم واستفزازهم؛ بل وصل بها الحد إلى تعنيف شبان مغاربة لا حول لهم ولا قوة أمام أنظار العالم. واستمرت الحال على هذا المنوال إلى أن جاء من أقصى الشرق رجل يدعى فوزي لقجع، رئيس الجامعة الملكية لكرة القدم، الذي استطاع، بحنكته وتجربته، أن يلحق بالجزائريين الهزيمة تلو الهزيمة من خلال عمله الجاد واستراتيجيته المدروسة، إلى درجة أنه أصبح أكبر رجل "مطلوب" لديهم. وهذا ما يفسر تحاملهم عليه، وعلى المغرب بصفة عامة. وبمناسبة تنقل فريق نهضة بركان إلى الجزائر العاصمة لإجراء مقابلة في كرة القدم ضد اتحاد العاصمة الجزائري، تم الحجز بالمطار على أمتعته الرياضية بدعوى أن أقمصة نهضة بركان تحمل صورة لخريطة المغرب كاملة غير منقوصة. وهذا ما جعل السلطات الجزائرية تفتعل تلك المسرحية الفاشلة كي تقحم مرة أخرى السياسة في مجال الكرة، في ضرب سافر لكل الأعراف والقوانين التي سطرتها "الفيفا" و"الكاف". ولقد كان من الطبيعي أن تنتصر "الكاف" للمغرب لعقلانية موقفه، علما بأنه تم التصديق على قميصه ذاك منذ بداية المنافسات الإفريقية. ولست أدري لماذا تصاب الجزائر بالسعّار كلما أثيرت قضية الصحراء المغربية؟ ومن نصّبها كي تنوب عن شرذمة "البوليساريو"، وهي التي تدّعي أنها ليست طرفا في الصراع؟ إن الحديث في هذا الموضوع ذو شجون، ولقد سبق لي أن ضمنت روايتي الموسومة ب"الحُبّ والحدود" والتي صدرت عن دار إفريقيا الشرق في السنة الماضية العديد من صور المآسي الاجتماعية والإنسانية التي تسببت فيها سياسة الجزائر المنافية لكل حس إنساني أو حتى أخلاقي؛ لكن للأسف لم تحظَ روايتي بالاهتمام الكافي، وهي التي يمكن أن تسعف المخرجين السينمائيين في استثمار موضوعاتها للتحسيس بعمق الخلاف الجزائري المغربي ولتأكيد البعد الأخوي والإنساني الذي يجب أن يطغى على علاقة البلدين بدل الحقد والكراهية والشحناء. تبقى الإشارة، في الأخير، إلى أن سياسة الملك الحسن الثاني رحمه الله حول الصحراء تتلخص في جملتين اثنتين: الأولى هي: "المغرب في صحرائه والصحراء في مغربها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها"، وهي نفس قناعة الملك محمد السادس ومعه كل المغاربة الأحرار. والجملة الثانية: "الخير كلّه يأتي من الصحراء والشرّ كله يأتي من الصحراء". وعلى هذا الأساس، يمكن القول إن اليد الممدودة ترمز إلى الخير؛ فيما ترمز الأذن الصماء إلى الشر. فما على الجزائر سوى الاختيار. وفي نهاية المطاف، أحب أن أستعير من القرآن الكريم سؤالا وجيها أطرحه على دهاقنة السياسة وأهل الحل والعقد في الجزائر: "أليس منكم رجلٌ رشيد"؟... وإلى قميص آخر.