حتى لا يبقى الحديث عن "الطنجية" المراكشية رهين المنظور الاستهلاكي أو الدعائي بغرض جلب السياح؛ لا بأس من وضع المهتم أمام السياقات التي تؤطر حضور "الطنجية" في حياة "بهجاوة". أولا: لم تتميز أكلة "الطنجية" بكونها وجبة مطبوخة في جرة من طين فقط؛ بل لأن نوعية اللحم التي تطبخ فيها استثنائية (الكرعين / أي قوائم ثور أو عجل أو جمل). ثانيا: هناك من المراكشيين من يحيد عن طبخ "لكرعين فالطنجية "؛ ويكتفي ب "لحم الراس" أو "الديالة" أو "اللسان" أو "الضرع" أو "الملج"، بل "الكرشة" أحيانا أو "لمحاشم". وتطبخ كل تلك الأنواع من لواحق اللحوم بنفس التوابل المعلومة لإعداد "الطنجية"، مع القليل من الحمص الجاف أو الفاصوليا بعد ترطيبهما بالماء سلفا. لذلك يبقى تقديم "الطنجية" على أنها وجبة من لحم الغنم فقط رأي يفتقر إلى دقة التوصيف الأصيل للأكلة. بل إن بعض المراكشيين من الحرفيين "ديال القاع والباع واللسان فيه دراع" يفتي بالقولة المشهورة لدى قدماء الصناع التقليديين "الغنيمي فالطنجية متروك" أي لا يعتد به؛ وربما بخلفية استهجان البعض تفتت اللحم داخل الجرة لصغر سن الضأن فتصاب الوجبة بالتشوه عند إفراغ "القلوشة" كما يحلو للبعض تسميتها. إنما من المراكشيين من يتباهى ببراعته في طبخ "الطنجية" بلحم الغنم، ولا يقلل ذلك من القيمة المهارية لمن يعدها ب"الكرعين" أو الذي يعدها بالغنم. ثم لا يمكن الحديث عن أكلة "الطنجية" دون الإشارة إلى مهارة وخبرة "المعلم الفرناطشي" والذي لا يستغنى عن حرفيته في العناية ب(الطنجية)؛ حسب نوعية اللحوم وكميتها وتوقيت الحاجة إليها. ومن أشهر المحترفين في "تافرناطشيت" (باعياد بحي الموقف وقبله باحسون بدرب الحمام بنفس الحي). ويجدر بنا التوقف عند العمق الاجتماعي (للطنجية المراكشية)؛ إذا ما أردنا إنصاف أهل "الصينية والرشوق ومكلت اللوز"، بحيث كان الحرفيون من أهل اليسر من الذين يمتلكون منازل كبيرة (الرياضات)؛ عندما تبرمج نساؤهم يوما لحملة تنظيف البيت كان الزوج يقوم بتخفيف عبء إعداد وجبة الغذاء بترتيب أمور (الطنجية فالسويقة)، حتى تبقى "مولاة الدار" منشغلة بترتيبات عملية "التخمال" كما تسميها الأوساط الشعبية بمراكش. وهو موقف جد متقدم بالنظر إلى الفئة التي كانت تحياه كقيمة من خلال العلاقة بين الأزواج، وقد تؤدي "الطنجية" نفس الخدمة وبشكل أرقى وأروع؛ عندما يعتري الزوجة الملل والنفور من تكرار الوجبات، فتأتي مساهمة الزوج لتكسير تلك الرتابة المقيتة التي يشعر بها الواحد منا وهو يرى نفسه رهين استهلاك مألوف تمجه النفس. بل تحضر "الطنجية" بمستوى إنساني أعمق عند تدبير الأب لطارئ مرض الأم؛ فيكون الأبناء في حاجة إلى وجباتهم الراتبة فينقذ الأب الموقف (بشي قلوشة فاعلة تاركة) لتدارك الارتباك الذي ينتج عن طارئ تعب الأم بفعل علة عابرة. وقد أضاف الأستاذ عبد العزيز الفتال أنها تفيد الأسر إذا كان لديها انشغال بالرحيل من بيت إلى آخر. لكل ذلك لم تكن وجبة "الطنجية" مجرد أكلة ترف فقط؛ وإنما كان لها دور اجتماعي ذو قيمة ثقافية تترجم السلوك المدني ما بين الناس من خلال المعيش بالملموس. ونفس الوظيفة التي تؤديها "الطنجية" لدى الأسر الموسرة كذلك الشأن عند بسطاء الحرفيين. ويتساوى الجميع في توظيف "الطنجية" لمعالجة النزاعات التي يمتد أثرها إلى أهالي المتخاصمين. فلا ينطفئ الغيض والتنابذ بين عمين أو خالين أو أبوين "من ولاد الحومة" إلا عندما يتدخل ذوو النيات الحسنة؛ فيوجهون دعوة لكلا المتنازعين رغبة في حضورهما "نزاهة" دون علم أي منهما بحضور الآخر، ويتم ذلك إما بجنان المنارة أو باب جديد أو غابة الشباب أو جنان بندرا خارج سور باب دباغ أو بحدائق أكدال با حماد التاريخية...، حتى إذا اجتمع القوم ومر اليوم بأكله وشربه وقصائد ملحونه تحت ظلال الزيتون وأجواء التنكيت "مكاين غير شد فيا نشد فيك، وشد فراسك لا تشد فيك النشبة". وفي ختام تلك الأجواء يتدخل الشخص الأكثر اعتبارا واحتراما لدى الجميع؛ فيطالب المتخاصمين بالصلح وتبادل الاعتذار اعتبارا "للملحة والطعام" وتقدير رابطة الدم الذي يجري في شرايين من تقاسموا وجبة "الطنجية" وخصوصا إذا تم إعدادها ب"الكموسة". وبالمودة والدعابة تتم عملية "بوسان الراس" وتنقية الأجواء. لكن الأروع في هذا السياق هو عودة الدفء إلى علاقات ذوي المتصالحين من كلتا العائلتين. بهذه الدلالات يحضر موقع "الطنجية" في حياة المراكشيين وثقافتهم الشعبية؛ موازاة لقيمتها الغذائية عندما تقدم للضيوف. ولهذا التزمت (جمعية بانا لبساط للفنون والتراث) ومازالت تقوم بإعداد 40 "طنجية" أو ينيف بمناسبة إحياء (ليلة عاشوراء) من كل عام حتى يتمكن أهل الذاكرة الشعبية من أبناء البهجة من صلة الرحم وإنعاش العلاقات الت تكون قد مرت عليها أحيانا ما يزيد عن الثلاثة عقود أو أكثر (الصورة). وختاما لا بد من لفت الانتباه إلى أن المشهور لدى المراكشيين هو قيام الحرفيين من أهل السوق بإعداد "الطنجية"، لكن ذلك لا يعني عجز النساء عن إنجازها؛ فهناك "شي عيالات" لا يستطيع درب من الذكور إثبات مهارة "تمراكشييت" أمامهن عند إعدادها.