نسمع أحيانا المغاربة يقولون: "والله يْلا دايزة فيه الصدقة" وهم يتكلمون برثاء وإشفاق عن الإنسان في أدنى درجات الفقر. وقد تكون العبارة للاحتقار والاستعلاء، لكن الذي يلفت الانتباه هنا هو أن هذا الفقير لا يتسول ولا يستجدي رغم الحاجة، ليس لأن الكرامة لا توزن بثمن ولكن لأن منطق الاستجداء غير حاصل. في زمن المجاعات لا يجد الناس ما يبقيهم على قيد الحياة فيمدون أيديهم مجبرين على ذلك حتى دون شعور، لأن غريزة البقاء لها أوجه متعددة. وقد أذكر أنه في أواسط الستينات كان المتسولون يمرون عبر الدروب والأزقة يصيحون بطلب الصدقة، وكانوا يقبلون الخبز اليابس وفتات السكر وأحيانا بعض الطعام يأكلونه أمام المتصدق. ولم أكن أسمع طلب النقد ولم أر التصدق به. تحولت الصدقة من شكلها البسيط إلى العطاء بالنقد معدنا أو أوراقا، من "شي ريال على الله" إلى "شي درهم على الله"، وتحول المتسولون إلى ممثلين بارعين في اصطناع حالات القهر والعوز وادعاء الأمراض الفتاكة والمصائب العظمى. كانوا يصعدون إلى الحافلات قبل انطلاقها بالدوْر ويأخذون ما شاء الله لهم، حسب أريحية "الزبائن" والكفاءة في الأدوار المسرحية. ثم غيروا خططهم فاقتحموا المقاهي والمطاعم ثم ملأوا الأزقة والشوارع، منهم الواقف والجالس والماشي، من يعرض عاهة أو عاهتين (عندنا في مكناس متسول مشهور أصم أعمى من أغنى "محترفي" المهنة) ومنهم المرضعة كذبا وصاحبة اليتامى والذي "تقطع به الحبل" وقصص أخرى لا حصر لها. الصدقة في الإسلام واجبة لمن فضُل عنه ما يتصدق به، وقد تُصرف الزكوات على شكل صدقات محدودة حتى تعم الفائدة على أكبر عدد من المحتاجين، لكن المطلوب في الصدقة هو التبصر وتمييز المحتاج من المحتال، رغم أن كل من يمد يده في هذا الزمن يوميا يعتبر محترفا للتسول دون تمحيص ولا شك. قصص المتسولين أصحاب العقارات والأملاك والأرصدة البنكية ليست خرافات وأساطير بل وقائع حقيقية تداولتها الصحافة وتناقلها المجربون في المجتمع المغربي، لكن المؤكد أن محترفي التسول ليسوا كلهم من أصحاب الملايين وإنما أقلهم دخلا يستطيع أن يجمع 3000 درهم في الشهر بسهولة ومع قليل من هدر الكرامة، بينما هناك من المغاربة من يشتغل اليوم كله فلا يتجاوز 2000 درهم، بمعنى أن التسول مربح دون تعب سوى تمريغ الكرامة في التراب. والمطلوب في المتصدقين والكرماء وأصحاب الأريحية أن يبحثوا عن الفقراء المحتاجين الذين "لا يسألون الناس إلحافا" هؤلاء الذين يشتغلون تحت الشمس في يوم قائظ من أجل فتات الدراهم دون أن يمدوا أيديهم للناس، فبالأحرى أن يلحّوا على الصدقة حتى "الثمالة". تناقل المغاربة منذ زمن اقتراح أحد المقاولين في طنجة وظائف شغل على بعض الأفارقة الذين يتسولون أمام أضواء المرور، فرد عليه أحدهم: – Ici je gagne 150 dirhams par jours, je suis partant pour 200 المتسولون هم بكل بساطة محترفون للتسول بأساليب النصب والاحتيال في القول والفعل، تجد نفسك أمام ابتكاراتهم الميلودرامية كمتأثر بفلم سينمائي متقن لا أقل ولا أكثر، والمفروض في السلطات المغربية استعمال الجد والحزم في تطبيق القانون الذي يجرّم التسول، الذي يُظهر المغرب للعالم كما لو أنه أكثر فقرا من الصومال. كما أن على المحسنين توجيه الصدقات لمن يستحقها من الفقراء الذين لا يغادرون كرامتهم. ولعل الله يبعث هؤلاء المحتالين دون وجوه يوم القيامة بعد أن خدشوا سمعتنا في العالم.