إن التطورات التي تميز المشهد السياسي المغربي هي جد واضحة وصحية جدا لكونها تعرف حركية ستكون حاسمة على صعيد المشهد السياسي المغربي وبالتالي حاسمة في كيفية تدبير الشأن العام . إنها الجدلية التاريخية والتي تعني وبكل بساطة أنه مصير السياسي للشعوب يعرف، بشكل طبيعي، صراعات بين مبدأين أساسين أو بعبارة أخرى صراعات بين كتلتين: كتلة تهم المهمشين وكتلة تهم المستفيدين. والصراعات تكون بطبيعة الحال حول الوصول إلى تسيير الشأن العام أي مصالح الشعب. وما هو إيجابي وجوهري في هذه الجدلية هو ضرورة إبرازها لوضعية سياسية واقتصادية واجتماعية أفضل وأجود من الوضعية التي كانت قائمة. ستأخذ من الوقت ما يستلزمها ولكن المهم أن جرس انطلاق القطار قد رن. "" وفي الواقع المغربي لم تكن هناك جدلية فعلية حقيقية بل كان هناك توافق بمعنى غياب رقابة سياسية بين كتلتين سياسيتين يبرز دائما نفس الوضعية السياسية والاقتصادية والاجتماعية أو أسوأ. ذلك أن "الجدلية" لم تكن بين تيارات فكرية ولم تكن، لامنتظمة ولا مستديمة، بل كانت "موسمية" "انتخابية" والعجيب أنها عوض أن تقوم بين تيارين لكل واحد خاصياته كانت تقوم بين أفراد من نفس التيار الفكري. أي أن الجدلية كانت قائمة بين أفراد وليس بين كثل. والفرق جد شاسع بين هذا وذاك كما أن عواقبه من ناحية تدبير الشأن العام لم يكن ليكون في صالح خدمة الصالح العام بل في خدمة الصالح الفردي.
وهذه النزعة الفردية هي التي أدت إلى تشردم الأحزاب السياسية وانقسامها وتقزيمها حتى صارت لكثرتها غير معروفة لدى المواطن المغربي واصبح هذا المواطن لا يصوت على حزب أي على مبادئ سياسية وسياسة اقتصادية واضحة بل أصبح يصوت على أشخاص دون إعطاء أهمية لمعرفة الحزب أو الأحزاب التي ينتمي إليه هؤلاء الأشخاص. حتى أن المواطن، ولا أريد التعميم، لا يعلم بأن الشخص الذي صوت عليه قد انتقل من حزب إلى آخر. ولا مجال هنا للحديث عن أخلاقيات الحياة السياسية... . إلا أن المواطن بات على يقين أنه لن يراه إلا من مرحلة انتخابية إلى أخرى. إذ أنه بعد الانتخابات يقفل مكتب التواصل ولن يراه حتى في البرلمان من خلال الجلسات التي يعقدها لأنه غالبا غير موجود وحتى إذا رآه خلال إحدى الجلسات يراه "في حالة..." ربما بكثرة انشغالاته؟
لقد عمل مجلس النواب للتصدي لظاهرة غياب نواب الأمة عن الجلسات إلا أنه كان من الأجدر أن تسن مدونة الانتخابات بندا ينص على إعطاء ساكنة منطقة مثل هذا النائب إمكانية مراسلة وزارة الداخلية ووزارة العدل لإقالة هذا البرلماني وإعادة انتخاب آخر يكون أكثر جدية في عمله وفي التزاماته اتجاه منتخبيه.
ولقد أدى التوافق المذكور أعلاه إلى نوع من الاطمئنان وعدم الانزعاج. والجانب السلبي في هذا أنه أدى إلى عدم الاجتهاد في الفكر السياسي والاقتصادي من خلال اعتماد مبادئ وخطاب سياسي يتماشى والتطورات الحتمية والطبيعية التي يشهدها الواقع، في مختلف جوانبه، المغربي والدولي. هذا الركود أو العجز الفكري، غالبا نتيجة تشبث قيادات الأحزاب بمواقعهم وأفكارهم وعدم إتاحة الفرصة للشباب الحامل لأفكار جديدة، ترتب عنه تشابك واختلاط وتمازج في إيديولوجيات الفكر السياسي وتطبيقها العملي اقتصاديا. ذلك أن السياسة الاقتصادية ليست سوى تطبيقا عمليا لإيديولوجية الفكر السياسي للحزب الذي من المفترض أن يكون اختاره المواطنون بالأغلبية.
وهذا التمازج والاختلاط هو واقع وحقيقة تجلت من خلال تعاقب الأحزاب السياسة على تدبير الشأن العام وخاصة نتائج سياساتها الاقتصادية والاجتماعية التي جعلت المغرب يحتل مراتب غير مرضية في أغلب المؤشرات الصادرة عن المؤسسات الدولية وخاصة تلك المتعلقة بالمستوى المعيشي للساكنة ومستوى تمدرسه واستفادته من الخدمات العمومية كالصحة والتعليم والماء الشروب...
و ترسخت هذه الحقيقة في ذهن المواطن المغربي الذي صارت عنده الأحزاب السياسية وبرامجها في خانة واحدة أدت به إلى تبني فكرة "كم حاجة قضيناها بتركها" وهذا ما وقع في 2007 والتي لا يمكن لأحد أن يلوم جهة ما لأن كل "قادة" الأحزاب اعتبرتها آنذاك نتائج شفافة ونزيهة. لا أثق في كون الأحزاب ليس لديها تفسيرا أو تعليلا لما وقع لأنها من المفروض أنها هي المسؤولة عن تأطير المواطن بكل ما تعنيه هذه كلمة تأطيرمن توعية وتعبئة. كلما فتت به الأحزاب هو عزوف الشباب عن المشاركة في الحياة السياسية.
إلا أن الحقيقة غير ذلك والحقيقة جد بينة. غير ذلك، بمعنى أن الشباب لم يعزف أبدا عن المشاركة في الحياة السياسية ولكن العزوف كان عن التصويت على الأحزاب المتواجدة والتي خيبت آماله بعدم تحقيق ما وعدته به خلال حملاتها الانتخابية السالفة وخصوصا بعدم دمقرطة اشتغال أجهزتها وإفساح الفرصة للشباب لولوج مراكز اتخاذ القرار داخل الأحزاب. أما الدليل فيكمن في تحول الشباب من الانضمام إلى الأحزاب لكون أبوابها مصدودة أمامه و اللجوء إلى العمل الجمعوي وتكوين جمعيات في مختلف الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها مكنته من تحقيق ذاته وإبراز مؤهلاته وخلق ديناميكية حقيقية في محيطه.
إلا أن الجدلية المشار إليها أعلاه لا تعرف توقفا أو ركودا أو استراحة فهي عجلة دائمة الدوران والايجابي فيها أنها لا تبالي بمن كان في غفلة من أمره أو تائها أو مغرورا. ذلك أن هذه الجدلية أفرزت متنفسا جديدا وأملا كان منتظرا، إنها عواقب الجدلية السياسية، متمثلا في حزب يدعو كل ذوي النيات الحسنة وكل ذوي الغيرة الحقيقية على هذا الوطن للعمل سويا دون خلفيات ولا إيديولوجيات قصد الرقي بالمستوى المعيشي لساكنة هذا الوطن. حزب يدعو إلى التكتل عوض التشردم والتشتت.
إلا أن ما يتفاجؤ له المواطن هو الذهول الذي استقبلت به بعض الأحزاب هذا الحزب الجديد؟ ألم يكن ظهور حزب جديد من حقبة لأخرى بالأمر العادي والمألوف؟ بل من الأحداث التي أدت إلى توالد الأحزاب السياسية وتكاثرها حتى تشابك الأمر لدى المواطن؟ ألم تخلق أحزاب وترعرعت دون أن يكون للمواطن علم حتى بوجودها؟ ربما لأنه حزب لم ينشق عن حزب آخر وبالتالي وجبت معرفة مبادئه وأهدافه ومنهجية عمله وأنصاره...
ومن خلال تتبع ما ورد في خطاب بعض قادة الأحزاب وبعض الجرائد أن هذا الحزب هو حزب صديق جلالة الملك نصره الله وبالتالي فإنه حزب الملك. إنه لأمر مخجل أن يتفوه قادة الأحزاب بمثل هذا التفسير لأنه من المفروض أنهم أناس من المفترض أن يكونوا متميزين بدرجة عالية من الثقافة والفكر والحنكة السياسية. أما كون زعيم هذا الحزب صديقا للملك فهذا الأمر ليس بغريب لكون كل المواطنين المغاربة أصدقاء للملك وفي أية مناسبة نرى ملكنا يصافح شعبه. بل أعظم من ذلك قام جلالته بالمبيت في أحد الدواوير ليقاسم ساكنته رغيفهم وزيتهم وشايهم. أليست هذه بأسمى دلالات الصداقة وأسمى العناية الدائمة التي يوليها جلالة الملك لشعبه.
ولقد كان بإمكان هذا الرجل أي مؤسس حزب الأصالة والمعاصرة، إذا كانوا ينعتونه بصديق الملك، أن ينعم بهذه الصداقة ويظل بجوار جلالته ويعمل في أي مجال يرغب فيه كمستشار أو مكلف بمهمة أو غيرها من المهام. ولكنه فضل سلوك سبيل صعب بالنظرلحساسيته، سبيلا له دراية بخباياه، وربما هذا الأمر هو ما يقلق البعض، وما أدراك بخبايا مجال السياسة في المغرب. لماذا هذا التخوف وهذا الهلع وأول شيء طالب به هذا الحزب هو لم الشمل والعمل سويا للرقي بمستوى معيشة الإنسان المغربي. وبمعنى آخر كفانا من الانقسامات وكثرة الأحزاب بدون تمييز في مبادئ بعض الأحزاب. انقسام فقط من أجل المصلحة الفردية واحتلال المناصب وغيرها من الامتيازات. كلنا مغاربة ومن حقنا كلنا تقاسم ثروات عرق جبيننا. هذا ما يسعى إلى إرساء مبادئه هذا الحزب من خلال سياسة التقرب من المواطن والإنصات إليه وإشراكه، من خلال سياسة تكافؤ الفرص في ولوج كل المجالات، وجعل المواطن المغربي يحس بأنه فاعل حقيقي، كل حسب مؤهلاته، في اختيار توجه سياسة بلاده اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا وثقافيا معززين ومحميين ومجندين وراء جلالة الملك نصره الله رمز الأمة المغربية والضامن لوحدتها.
إنها الجدلية التاريخية التي من كان يؤمن بها البارحة أصبح اليوم يتخوف من انعكاساتها. وعلى كل حال وكما سبق وأن أشرت إليه في البداية، لقد رن جرس انطلاق القطار فمن أراد أن يركبه فاليركب ومن أراد أن يبقى على الرصيف فذلك شأنه. والمحطة النهائية التي نود أن نصل إليها عبر هذا القطار هو مشهد سياسي يتكون من ثلاثة كتل سياسية واضحة المعالم والمبادئ: الكتلة الأولى تضم الأحزاب الليبرالية التي تعتمد رأسمالية الكتلة (capitalisme de masses) أي رأسمالية المنفعة الجماعية. أما الكتلة الثانية فستكون مشكلة من الليبراليين المتبنين للرأسمالية الفردية (capitalisme individuel) أو المنفعة الفردية كما صاغها آدام سميث. أما الكتلة الثالثة فستضم الاشتراكيين الجدد الذين يجب أن يكونوا قد أخذوا العبرة من سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي الذي كان منبع ومصدر ثقافتهم ومبادئهم على المستوى الدولي وكذا العبرة من التجربة التي عايشوها عندما تسلموا تدبير الشأن العام في المغرب وبالتالي أصبح من الواجب عليهم بلورة أفكار جديدة تتماشى والمعطيات الجديدة إن على الصعيد العالمي أو على الصعيد الوطني.