"البطاطا أربعة دراهم الطماطم أربعة دراهم الفلفل خمسة دراهم الجزر ثلاثة دراهم البصل خمسة دراهم الباذنجان ثلاثة دراهم الشيفلور ثلاثة دراهم...". صليت العصر كعادتي بمسجد الحي، وكان مما يزعجني دائما هي تلك الأصوات التي تتعالى قبالة المسجد وعند جنبات بابيه، أصوات تتعالى هنا وهناك، وكأن أصحاب هذه الأصوات في منافسة شرسة، كأنها معركة طاحنة، في من منهم يرفع صوته ويبرز بضاعته أكثر؟ إنهم باعة الخضروات والفواكه، بعدما أعياهم التجوال في أزقة المدينة بحثا عن اللقمة الحلال، يتفرقون وينتشرون عند كل مساجد المدينة، فما من مسجد إلا ويقصده ثلاث أو أربع وربما خمسة أو يزيد بحسب موقع المسجد ومحوريته داخل الحي. يزيد الأمر انتشارا عندما تعلن السلطة بين الفينة والأخرى حربا ضروسا شعواء على أصحاب العربات وأصحاب الدراجات النارية الثلاثية. وأحسب أن ليس للدولة رؤية واضحة لتنظيم هذه الظاهرة، بل يخيل إلَيَّ أن رجال السلطة يستفيدون من هذه الفوضى، ويجنون مبالغ من الإتاوات التي يحصلون عليها جراء مداهمتهم ومطاردتهم اليومية لهذا الصنف من الباعة المتجولين. ومدينة القصر الكبير، شأنها شأن باقي المدن، بل ربما أن هذه المدينة الضاربة في عمق التاريخ تتميز بفوضى انتشار الباعة المتجولين، بل ربما هذه الفوضى هي سبب إسعاد الآلاف من الأسر الذين كتب عليهم أن يعيشوا من مداخيل هذه التجارة المتنقلة، والتي تتمركز أكثر في القلب النابض للمدينة؛ قرب المحطة الطرقية، وفي حي المرينة، وحي بوشويكة وقرب المسجد الأعظم وللا رقية...... وغيرها من المراكز المهمة للتسوق في المدينة. وكغيري من غالبية الحي الذي أسكن فيه، أفضل التسوق من هذه العربات التي تحط عند أعتاب المساجد عقب صلاتي الظهر والعصر، والحقيقة أن الأثمنة تكون في الغالب جد مناسبة مقارنة مع بعض محلات الخضر والفواكه الموجودة في وسط المدينة. هذه المرة لم أنزعج بتاتا من تلك الأصوات التي غالبا ما كنت أتضجر من سماعها، وكنت أحيانا عديدة أنبري ناصحا لبعض الذين يجيدون الصياح، فأطلب منهم الإمساك عن الصخب، وخاصة أن بعض المصلين الذين فاتتهم ركعة أو ركعتين لن يستطيعوا التركيز في الصلاة ناهيك عن الخشوع فيها، وغالبا ما كنت أتذكر حديثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يذم فيه الصخب في الأسواق، فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (إن اللهَ يَبغضُ كلَّ جَعْظَرِيٍّ جَوَّاظٍ، سَخَّابٍ في الأسواقِ، جيفةٍ بالليلِ، حِمارٍ بالنهارِ، عالمٍ بأمرِ الدنيا، جاهلٍ بأمرِ الآخِرةِ) صحيح ابن حبان. هذه المرة خالفت طبعي، وتمردت على قناعتي، وأعجبت بتلك الأصوات التي كنت أكرهها وأمقتها كما يكرهها الباري عز وجل كما سبق في حديث أبي هريرة؛ تجدني اليوم فرحا مسرورا مبتهجا، أرجو أن يرفعوا أصواتهم أكثر فأكثر، وددت صدقا لو شاركتهم في رفع الصوت؛ ولم أبال بالمسبوق في صلاته، ولم أهتم حتى بانتقادات شيوخ المسجد الذين طالما تحاملوا على توجيه النقد اللاذع لهؤلاء الباعة. أجدني اليوم أطرب وأكاد أرقص على إيقاع تلك العبارات، أقول في خيالي: لعلها أحسن موسيقى أسمعها في هذه السنوات الأخيرة، مقاطع جميلة، وبعبارات أجمل، وحتى المقام يخيل إليَّ: البياتي أو النهاوند. خرجت من المسجد وتسمرت في مكاني، وكأنها أغان أعشقها تعود للزمن الجميل حقا، أنتظر بعض جيراني الذين سأطلب منهم أن يبقوا بجانبي يستمعون ويستمتعون بالطرب الأصيل؛ الطرب الذي يدخل الفرح والبهجة والسرور على القلب. لا شك أن ما يفرحني سيفرحهم، فالأمر فيه البشارة، والموسيقى تطرب الأذن وتروي المشاعر وتغذي الروح. ومع هذه النغمات وددت لو حملت معي طبلا أو عودا أو حتى دفا، وتذكرت قول تلك الصحابية التي نذرت في حضرة الحبيب المصطفى أنه لو رجع سالما من إحدى مغازيه ستضرب بالدف وتغني. (فعن بريدة بن الحصيب: خرجَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ في بعضِ مَغازيهِ، فلمَّا انصرفَ جاءت جاريةٌ سوداءُ، فقالت: يا رسولَ اللَّهِ إنِّي كُنتُ نذرتُ إن ردَّكَ اللَّهُ سالمًا أن أضربَ بينَ يديكَ بالدُّفِّ وأتغنَّى، فقالَ لَها رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: إن كنتِ نذَرتِ فاضربي وإلَّا فلا. فجعَلت تضرِبُ، فدخلَ أبو بَكْرٍ وَهيَ تضربُ، ثمَّ دخلَ عليٌّ وَهيَ تضربُ، ثمَّ دخلَ عُثمانُ وَهيَ تضربُ، ثمَّ دخلَ عمرُ فألقتِ الدُّفَّ تحتَ استِها، ثمَّ قعَدت علَيهِ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ: إنَّ الشَّيطانَ ليخافُ منكَ يا عمرُ، إنِّي كنتُ جالسًا وَهيَ تضربُ فدخلَ أبو بَكْرٍ وَهيَ تضربُ، ثمَّ دخلَ عليٌّ وَهيَ تضربُ، ثمَّ دخلَ عثمانُ وَهيَ تضربُ، فلمَّا دخلتَ أنتَ يا عمرُ ألقتِ الدُّفَّ) رواه الإمام الترمذي. خرج الناس وتحلقوا حول هذه العربات، وقد أعجبهم الطرب والغناء، أعجبتهم تلك اللازمة التي اشتاق الجميع لسماعها، والتي يحبها المغاربة: "البطاطا أربعة دراهم الطماطم أربعة دراهم الفلفل خمسة دراهم الجزر ثلاثة دراهم البصل خمسة دراهم الباذنجان ثلاثة دراهم الشيفلور ثلاثة دراهم...". أتأمل وجوه المصلين وهم يخرجون من المسجد، وجوههم مستبشرة يظهر عليهم الفرح والسرور، حتى أولئك الذين كانوا يسبون ويشتمون، أراهم ينتظرون دورهم ويطلبون الأكياس لملئها بما تيسر من هذه الخضروات. اقتربت من صاحبي الحاج الذي رأيته قصد صاحب الطماطم وبدأ يملأ في كيسين، وأنا أمزح معه، وأقول له: يكفي، هلا تركت لنا شيئا! وحتى أتشبه بصاحبي تحسست كيسين فملأتهما بالطماطم، وكنت حجمت عن شرائها لمدة أسبوعين فثمنها كان قد وصل الخمسة عشر درهما، أما اللحظة فقد سمعت الأغنية تقول: (مطيشة ربعا دراهم) ربما وزنت 9 كيلوغرامات، وكنت اشتقت للحساء (الشوربة). وماهي إلا ربع ساعة حتى خفتت الأصوات، وبدأ المصلون ينسلون وكلهم في يده كيسا أو كيسين ملأه ببعض الخضروات. التفت إليَّ صاحبي وجاري الحاج، وأخاف أن يفسد عليَّ فرحتي، وقال لي: أن سبب انخفاض ثمن هذه الخضروات هي الݣرݣرات، أو موريطانيا أو أو... أجبته: أرجو من الله أن يستمر الحال على ما هو عليه اليوم، وخاصة نحن في شهر رجب الخير وبين يدي شهر شعبان ورمضان، نبتهل إلى المولى عز وجل أن ينعم علينا بالأمن والأمان، وأن يجود علينا بالخير العميم، وأن يشملنا بالغيث النافع. وختاما يقول المولى عز وجل: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ" (سورة الأعراف آية: 96).