بعد أربع ليال كانت هي الأروع بحياتي في طيبة، وفي كنف المسجد النبوي، وبين الروضة والمقام، عزمنا الرحيل جهة البيت العتيق، وفي نفسي هي أعظم ليال قضيتها في حياتي، ويا ليتني لم أخرج من طيبة، ويا ليت ملك الموت زارني وأنا في ضيافته، وفي وفادته صلى الله عليه وسلم. فعن عبد الله ابن عمر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من استطاع أن يموتَ بالمدينةِ فليمت بها فإني أشفعُ لمن يموتُ بها" (رواه النسائي). فهذا الحديثِ يقولُ فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "مَن استَطاع أن يَموتَ بالمدينةِ"، أي: يَبْقى ويُقيمَ فيها ولا يَخرُجَ منها حتَّى يُوفِيَ أجلَه فيها، "فَلْيَمُتْ بها"، أي: فَلْيبقَ فيها؛ "فإنِّي أشفَعُ لِمَن يموتُ بها"، أي: إنَّ أجْرَ مَن يبقى بالمدينةِ حتَّى يموتَ فيها هو شفاعةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم. وتذكرت قول أنس بن مالك رضي الله عنه: "لمَّا كان اليومُ الَّذي دخل فيه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ، أضاء منها كلُّ شيءٍ" (أخرجه الترمذي). المدينة أنوار وأنوار، لا يخبو ضياؤها، ولا تنطفئ أنوارها، العيش في طيبة أشبه ما يكون في روضة من رياض الجنة. وأنت تتجول في رحابها، تشعر بوجوده وحضوره، تطأ قدمك أرضا مشى فيها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضوان الله عليهم، أحاول أن أتحسس أثرهم، وأشم رائحتهم، أعيش في الخيال، أغيب عني لعلي ولعلي.... أفضل أن أمزج بين الأزمنة فأحيا الماضي مع الحاضر، وكم أرجو أن يتوقف الزمن، حتى أرتوي، تتراءى لي أحداث السيرة النبوية الشريفة، وكأني بالصحابة ينتظرون دخوله صلى الله عليه وسلم، جهة ثنيات الوداع، وكأني بقلوبهم، بلغت الحناجر حبا في رؤيته واستقباله، وكأني بهم يتسلقون النخيل، فينادي أحدهم: هاهو الرسول، هاهو الرسول.... فيتسابقون للظفر به، وهاهم يضربون الدفوف: طَلَعَ البَدْرُ عَلَيْنَا مِنْ ثَنِيَّات الوَدَاعْ وَجَبَ الشُّكْرُ عَلَيْنَا مَا دَعَا لله دَاعْ أَيُّهَا المَبْعُوثُ فينَا جِئْتَ بالأمْرِ المُطَاعْ جِئْتَ شَرَّفْتَ المَدِينَة مَرْحَباً يَا خَيْرَ دَاعْ وحملني الشوق أن أحضر بناء أول مسجد في الإسلام، أحمل معهم الطوب، وأستمتع بدعاء الحبيب المصطفى: "اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ فَارْحَمْ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِر". وسط الجموع أتملى بالمؤاخاة بين الأنصار والمهاجرين، أراه من بعيد، إنه الصحابي الجليل المهاجر عبد الرحمن بن عوف، وهو يحتضن أخاه الأنصاري سعد بن الربيع، وإذا بي أقترب من سعد لأسترق سمعا حيث وقع في أدني: "إني أكثر الأنصار مالا فأقسم لك نصف مالي، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي أطلقها، فإذا انقضت عدتها فتزوجها، فقال عبد الرحمن بن عوف: بارك الله لك في أهلك ومالك، لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال سعد: سوق قينقاع، قال فغدا إليه عبد الرحمن (البخاري). وكم كنت أرجو أن أحظى ببعض اللحظات في هذا الماضي حتى أظفر باحتضان أحدهم، فيضمني. وأضمه، فأبكي شوقا، وأنوح فرحا رجعت إلى غفلتي بعدما تركت رشدي، على قول سيدي زكريا الطاهري خادمنا في هذه الرحلة الطيبة المباركة: "على بركة الله الحافلة وصلت باب الفندق، السفر إلى مكة إن شاء الله تعالى". زاد شوقي لمكة، قلت الجنة قيعان، وبدأت أستعد وأستجمع قواي، لأترك المدينة في الواقع، وقد حملتها معي في قلبي وفؤادي وخيالي، لا أتركها، ولن أستطيع مهما حاولت. كانت الوجهة هذه المرة نحو مكة، حيث بداية الوحي، مكة حيث اختيار منشأ وبداية هذا الدين، مكة، حيث ولادة النور، ومشكاة الهداية، محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، مكة حيث غار حراء وأول نزول الوحي، مكة حيث اللقاء بأمين الوحي جبريل عليه السلام، بكة حيث قوله تعالى: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)" (سورة العلق). التوجه جهة أصل هذا الدين، إنه أول بيت وضع للناس، وفيه مقام ابراهيم، مكة حيث الأمن والأمان، قال تعالى: "فِيهِ ءَايَٰتٌۢ بَيِّنَٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ". ۖ وَمَن دَخَلَهُۥ كَانَ ءَامِنًا ۗ جميلة هي هذه الرحلة، جميلة، ذكر وشكر وتلبية وصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان بين الفينة والأخرى، يذكرنا صاحبنا وهادينا في هذه السفرية المباركة، ببعض مقتطفات من السيرة، ولخبرته وتجربته الطويلة في تنظيم هذه الزيارات، أصبح له رصيد، يعرف الأماكن والمزارات، يخبرنا بالأسامي ويذكرنا ببعض الأحداث العظيمة التي غيرت مجرى التاريخ، أحداث كتب الله لها أن تبقى راسخة منقوشة في قلوب أجيال، أحبت وارتبطت بالدين الخاتم، كتب الله لهذه الأحداث أن تبقى محفوظة تتناقلها الأجيال بالسند المتصل، محفوظة بحفظ القرآن الكريم. في منتصف الرحلة أناخت الحافلة، نزلنا في أبيار على، مكان الإحرام، نعالج النية، كنت أرجو أن يكتب لي الله زيارة المقام، كما سخر لي زيارة طيبة، كنت متعجلا، وصورة الكعبة لا تفارق قلبي ومخيلتي. هذه الصورة حملتها معي مذ وعيت، وأدركت قيمة هذا الدين الخاتم، وكنت كلما حاولت أن أدرك كنه أركان الإسلام الخمس، إلا وختمت بصورة الكعبة المشرفة. كم كنت أرجو أن تكتحل عيني برؤيتها على الحقيقة، بعدما ارتبطت بها في وجداني والخيال، كنت أحدث كفي بلمسها، ووعدت شفتاي بتقبيلها بقي عن الوصول نصف ساعة، تجلت لنا الساعة أو قل برج الساعة من بعيد، وكم كنت أرجو أن تقع عيني أول ما تقع على الكعبة المشرفة وليس على هذا البرج. شعرت بالأسى، بعدما قضيت هذه الرحلة منشرحا، وتتراءى لي البنايات الشاهقة، هذا التطاول في البنيان، يكاد يفسد علي لذة اللقاء الأول في كنف البيت العتيق. قلت ماذا لو جعلوا البنيان والتطاول فيه بعيدا عن البيت، نريد أن نستمتع بالنظر إليه من بعيد، أما البرج أو الساعة مناظر تخدش في جمالية الصورة الجميلة لبيت الله الحرام. تحجب عن الحجيج الرؤية من بعيد، والنظر إلى الكعبة المشرفة عبادة، قال مجاهد: "النظر إلى الكعبة عبادة". وروي نحو ذلك عن طاووس وعطاء وغيرهم من السلف. والذي يظهر حين التأمل أن النظر المجرد إلى الكعبة ليس عبادة خاصة لها ثواب خاص لكنه من حيث العموم داخل في عموم تعظيم شعائر الله وحرمات الله قال تعالى "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ". وحسب ما أتى في كتاب "من مكة إلى لاس فيغاس -أطروحات نقدية في العمارة والقداسة"، للدكتور علي عبد الرؤوف؛ فإن هذا الانحدار في الذوق الفني والديني، يُجرد مكة من قداستها الدينية ليحولها لمدينة سياحية ضخمة حتى صار برج الساعة، أحد أطول المباني في العالم، والذي يطل على الكعبة كعملاق ضخم يكاد يلتهمها. والسؤال هنا، هل تتحول مكة من بلد الكعبة المشرفة إلى فنادق ضخمة مليئة بمراكز التسوق ومطاعم فاخرة وزوار فاحشي الثراء! هل صارت مكة دليلا على الانتصار الواضح لقيّم الرأسمالية الاستهلاكية! هل صارت انتصارا للتشيؤ والتسطيح والابتذال؟! وهل يُمكن اعتبار ذلك من باب الجهل والخطأ وعيني تقع على الساعة من بعيد، وقلبي يتفطر لما أصاب البيت العتيق. فقد شهدت مكة، في العقدين الأخيرين، هدم آخر ما تبقى من الرواق العثماني في الحرم المكي بحجة أعمال التوسعة على الحجاج. فيما تم هدم بيت السيدة خديجة، أم المؤمنين، واستبداله بمراحيض عامة. كما تم هدم بيت أبي بكر الصديق في سبيل إقامة فندق "هيلتون" أيضًا (موقع الجزيرة). وأخيرا رست الحافلة بجنبات الحرم، حيث الفندق الذي سنقيم فيه تسعا من الليالي العظيمة والأيام المباركة السعيدة. وضعنا أمتعتنا على عجل، وخرجنا نقصد المسجد الحرام، حتى لا تفوتنا أول صلاة فيه، وكانت العشاء. صلينا خارج المسجد، تفاديا للزحام الشديد، وكنا قاصدين أول عمرة، توجهنا جهة الباب 73 وربما تسمى باسم أحد الملوك، وكم كنت أرجو أن تسمى الأبواب بأسماء الصحابة الكرام البررة، الذين حملوا لواء هذا الدين، وقدموا الغالي والنفيس، لنصرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، أولئك الأطهار الذين فدوه بآبائهم وبأمهاتهم وأبنائهم وأزواجهم وأموالهم، فدوه بأنفسهم. تذكرت بلالا وهو يعذب في هذا المكان، ولا يقول: إلا (أحد أحد)، وأبو بكر وهو يضرب حتى لا يعرف وجهه من قفاه، فيغشى عليه من شدة الضرب، وهو يمنعهم من إيذاء صاحبه وخليله، ويقول: "أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ" (سورة غافر جزء من الآية 28). وهذا أبو در الغفاري يعلن إسلامه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع إلى قومك فأخبرهم حتى يأتيك أمري، قال والذي نفسي بيده لأصرخن بها بين ظهرانيهم، فخرج حتى أتى المسجد، فنادى بأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ثم قام القوم فضربوه حتى أوجعوه، وأتى العباس فأكب عليه، وقال: ويلكم ألستم تعلمون أنه من غفار، وأن طريق تجارتكم إلى الشام؟ فأنقذه منهم، ثم عاد من الغد لمثلها، فضربوه وثاروا عليه، فأكب العباس عليه" رواه ابن عباس. قلت لماذا لم تسمى هذه الأبواب بأسامي وألقاب هؤلاء؟ عوض أسماء ملوك وأمراء، سينساهم الناس، وستطمس أساميهم، وحتى إذا ذكرهم التاريخ سيذكرون بسوء، وقد يلعن اللاحقون السابقون، "كلما دخلت أمة لعنت". أختها أما الصحابة، فقد رضي الله عنهم وأرضاهم، وخلدهم التاريخ، وفرحت بهم الأمة، وتسمت بأسمائهم. كنت أرجو أن أدخل من باب أبي بكر الصديق، وأنتظر والدتي التي تخرج من باب عائشة بنت الصديق، وأقصد باب عمر قريبا من الركن اليماني، وأخرج شرقا من باب عثمان، وأحضر درسا في الفقه قرب باب علي رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين. لكنهم جعلوها أرقاما نكرة جوفاء لا روح فيها، (باب 73)، (باب 74)، (باب 75)... دخلنا الصحن ولأول مرة يقع بصري، -أو قل قلبي وفؤادي وجوارحي وكلي- على الكعبة، وتذكرت نصيحة صاحبي، بالمبادرة بالدعاء عند أول نظرة، فالدعاء مستجاب: "اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا البَيْتَ تَشْريفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مِن شَرَّفَهُ وكَرمَهُ مِمَّنْ حَجَّه أو اعْتَمَرَه تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا". وصلنا الركن اليماني حيث بداية الطواف، وفي نفسي أعالج النية (اللهم لبيك عمرة). شرعنا في الطواف ولساني يلهج بالدعاء: "بِسمِ اللَّهِ، واللَّهُ أكْبَرُ، اللَّهُمَّ إيمَانًا بِكَ وَتَصدِيقًا بِكِتابِكَ، وَوَفاءً بِعَهْدِكَ، وَاتِّباعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صلى الله عليه وسلم". "اللَّهُمَّ اغْفِر وَارْحَمْ، وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمْ، وَأنْتَ الأعَزُّ الأكْرَم، اللَّهُمَّ رَبَّنا آتنا في الدُّنْيا حَسَنَةً وفي الآخِرة حَسَنةً، وَقِنا عَذَابَ النَّارِ". فإذا اقتربت من مقام ابراهيم، قرأت الآية: "وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى" (البقرة: 125). كنت أمسك بيدي أمي، وأكرر معها الدعاء، حتى إذا وجدت فجوة تقدمت معها مسرعا لستار الكعبة، فجعلتني خلفها في حمايتها، وهي تقبل الكعبة المشرفة، وتبكي محبة وفرحا، أن أطال الله في عمرها حتى حقق مرادها وكلما أقترب من الحجر الأسود أمسك بيدها ونشير إليه من بعيد، فالزحام شديد. وتذكرت حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: "يَا عُمَرُ إِنَّكَ رَجُلٌ قَوِيٌّ لَا تُزَاحِمْ عَلَى الْحَجَرِ، فَتُؤْذِيَ الضَّعِيفَ، إِنْ وَجَدْتَ خَلْوَةً فَاسْتَلِمْهُ، وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ فَهَلِّلْ وَكَبِّرْ" (أخرجه أحمد). حمدت الله تعالى على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، ومنها أن وفقنا لزيارة بيته المحرم. خرجنا بعد سبعة أشواط، نتوجه جهة المقام حيث نصلي ركعتين في مقام إبراهيم، قال تعالى: "وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى" [البقرة: 125]. رجعت للوراء حيث ماء زمزم، وقد بلغ منا الجهد مبلغه، وأصابنا العطش، أضع نصب عيني حديث "استقبل القبلة، وقل: بسم الله، وتنفس ثلاثا حتى تضلّع، وقل: "اللهم إني أسألك علما نافعا ورزقا واسعا وشفاء من كل داء". وروي ذلك أيضا من فعل ابن عباس أنه كان يدعو به عند شربه لماء زمزم. وأنا أشرب ماء زمزم، أشعر وكأنه من ماء الجنة، أحاول أن أفقه كمية هذه المياه، التي يشرب منها الحجيج والمعتمرين بالملايين، وكيف لا تنفذ، وأكاد أجزم أن هذا الماء شرب منه كل المسلمين عبر البقاع وعلى مر العصور والزمان، كل المسلمين إلا ورشف رشفة من ماء زمزم، ولك أن تتصور وجه الإعجاز في بقاء هذا الماء ما بقيت الشريعة، ماء عذبا سلسبيلا، محفوظا ما حفظ هذا الدين، فيه من البركة ما يكفي لإقامة الركن الخامس من أركان الإسلام. وأنا أرتوي أشعر بقصة زمزم، وخليل الرحمن نبي الله ابراهيم عليه وعلى نبينا السلام، وقصة هاجر، وقوله تعالى: "رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ" سورة إبراهيم (37). هاجر وهي تقول: سمعت صوتا، فقالت كالإنسان الذي يكذّب سمعه: صوته، حتى استيقنت، فقالت: قد أسمعتني صوتك فأغثني، فقد هلكتُ وهلك من معي، فجاء المَلك فجاء بها حتى انتهى بها إلى موضع زمزم، فضرب بقدمه ففارت عينا، فعجلت الإنسانة فجعلت في شَنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللهُ أُمَّ إِسْماعيلَ لَوْلا أنَّها عَجِلَتْ لَكانَتْ زَمْزَمُ عَيْنا مَعِينا (جارية سائحة على وجه الأرض)". وقال لها الملك: لا تخافي الظمأ على أهل هذا البلد، فإنما هي عين لشرب ضِيفان الله، وقال: إن أبا هذا الغلام سيجيء، فيبنيان لله بيتا هذا موضعه. (تفسير الطبري). صعدنا الصفا، وتوجهنا جهة البيت وبدأنا بما ابتدأ به الحق سبحانه: "إِنَّ ٱلصَّفَا وَٱلۡمَرۡوَةَ مِن شَعَاۤىِٕرِ ٱللَّهِۖ فَمَنۡ حَجَّ ٱلۡبَیۡتَ أَوِ ٱعۡتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِ أَن یَطَّوَّفَ بِهِمَاۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَیۡرࣰا فَإِنَّ ٱللَّهَ شَاكِرٌ عَلِیمٌ" نردد هذه الآية بصوت مرتفع، فالجموع بالآلاف، وأقترب من أمي وأكرر أجزاء من الآية، حتى تستطيع حفظها الله ترديدها معي، فأقول وهي تردد معي "إن الصفا والمروة" فتقول معي ما أقول، ثم أقول: "من شعائر الله" فتقول أيضا..... وفي نفسي أرجو ألا يفوتها شيء من الأدعية، والآيات التي نرددها في الطواف والسعي بين الصفا والمروة. وكنت أمسك بيدها مخافة أن تتفلت مني أثناء السعي، حتى إذا بلغت مكان السعي، تدفعني لتركها وتطلب مني أن أجري كما يفعل الحجيج والمعتمرين، فأنتظرها حتى إذا التحقت بي، أجدها تضحك، ولست أدري ما الذي يضحكها؟ هل هي طريقة الجري، وخاصة وأنا أمسك بتلابيب لباس الإحرام الذي لم أتعود بعد على لباسه، ناهيك عن الركض به؟ أم تجدها تضحك فرحا أن وفقها الله أن تقيم شعائر الله، وما كانت لتستطيع لولا توفيق الله. خرجنا قريبا من المروة، في الساحة قريبا من باب السلام. أنهينا المناسك ولم يبق لي إلا أن أحلق شعري، وكنت قد فضلت الحلق على التقصير، فعَنِ ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((اللهُمَّ ارحَمِ المُحَلِّقينَ، قال في الرَّابعةِ والمُقَصِّرينَ)). حتى إذا ولجنا الفندق لم يبق لي إلا أن آخذ شيئا من شعر أمي، فنكون قد تحللنا، فحضرني اللحظة قوله تعالى: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ" الأعراف 43.