للأمكنة حضور وجداني وثقافي يتجاوز بكثير أبعادها الجغرافية، وحدودها السياسية، يرتبط بها الإنسان وتشكل بوتقة هويته التي تنصهر فيها كل العناصر المكونة لها. وللعرب حظ وافر في التعبير عن هذا الحضور أدبيا وفكريا، تجسد في الشعر كما في النثر. وقد احتفلت المنجزات الأدبية بالعديد من الأمكنة: المقاهي، دور السينما، المكتبات، والفنادق وغيرها من الفضاءات التي تشكل كيان المدينة أو القرية، والتي تنضوي بمجموعها تحت مسمى الوطن. حين تشهر الثقافة سلاحها في الذود عن الحمى: لقد كثف محمود درويش مفهوم الوطن في قصيدة: "وطني قصيدتي"، فالصورة الشعرية تشكل ملاذا ومأوى للشاعر، لا يقل حميمية ودفئا عن الوطن ككيان جغرافي. وفي حالة انسداد أبوابه وتصبح هجرته الخيار الأوحد، تزداد الحاجة إلى الأدب، كذاكرة وك"شاهد على الظروف المكانية والزمانية" (خوسيه ساراماغو). كما تصدى الأدب والشعر خصوصا، كسلاح ضارب للدفاع عن الحرمات والمقومات الحضارية التي عمادها وأرضية منشأها الوطن. فقد نصب الرسول (ص) منبرا لحسان بن ثابت في المسجد النبوي لقول الشعر ردا على إفك قريش، ومدافعا بالكلمة عن الوطن الوليد. كل هذا وغيره كثير، يشهد أن الثقافة تبنت المكان بحدوده السياسية والجغرافية، وجعلت من الدفاع عن حوزته قضية حياة، وشهادة تثبت الحق وتنافح عنه في وجه المغتصبين، الذين أنكروا الحق الجغرافي، بدليل الغياب للإنتاج الأدبي والثقافي كما زعمت غولدا مائير: "ليس هناك شعب فلسطيني، لأنه ليس هناك أدب فلسطيني". إنها محاولة وأد قسري لكوكبة من المثقفين تتداول منجزاتهم الفنية والأدبية والفكرية على أوسع نطاق، تجاوزت حدودها المحلية والعربية، وعانقت الأبعاد العالمية. فلم يغيب الموت البيولوجي غسان كنفاني، ناجي العلي، محمود درويش وسميح القاسم وإدوارد سعيد والكوكبة طويلة، حضورهم الرمزي، فتراثهم الثقافي يغذي جذوة النضال والمقاومة لانتزاع الحق، واستدامة المطالبة بتحرير الأرض. فلسطين سفيرة الثقافة التحررية: فسرديات غسان كنفاني أصبح لها حضور قوي وكثيف في وسائل التواصل الاجتماعي، كحكم يستقي منها الشباب قيم الرجولة ومعاني الكرامة. واتخذ من حنظلة ناجي العلي، قلادة تزين الصدور، وموضوعا لجداريات الأحياء، جنبا إلى جنب الكوفية والعلم الفلسطينيين. ونظم درويش وسميح يردد في أكثر من لقاء ثقافي على امتداد الوطن العربي وبلدان المهجر واقعيا وافتراضيا، الشيء الذي جعل القضية حية خارجيا، ويغذي قيمة الانتماء والولاء لها. لقد شكل المثقفون الفلسطينيون ومن سار على دربهم في مقاومة الاحتلال، بكل الأشكال الأدبية، تيارا ينزع عن العربي ثوب الانكسار الذي يريد البعض إلصاقه به، وجعل ثقافة الخضوع والانبطاح من صميم تكوينه بسبب ما قد يصدر من مثقف عربي هنا أو هناك، لا يكاد يذكر أمام كوكبة من الذين سخروا إبداعهم الأدبي والفكري في خدمة قضية وطنه وأمته، إنهم المثقفون الممارسون كما سماهم هشام بستان. جعلوا الثقافة في صلب العملية التحررية وأداتها، و"الكلمة هي أول المقاومة" (إدريس الخوري). وهو الدور الذي يسنده محمد برادة للأدب والفنون وكل الممارسات الثقافية، التي غذت واجهة تقاوم الاستبداد، وقناة لنشر الديمقراطية والمطالبة بالحريات، والتي تعد الفكرة الصهيونية "أحد المعوقات للبناء الديمقراطي في العالم العربي" (محمد الأشعري). لتحقيق هذه المهام التحررية أمام مستبدي الداخل، ومستعمري الخارج، جعل المثقف العربي من فلسطين عنوان نضاله، ودرعا يحتمي به لمراوغة الخط الدفاعي للمنع والمصادرة. وعلى سبيل المثال لا حصر، مجلة "فلسطين" التي أسسها المرحوم الجابري، للحديث عن المغرب وشجونه ضمنيا، في وقت كانت للتصريح بها عواقب لا تحمد. وهكذا حمل المفكر والمثقف قضية فلسطين كما حملته، فردد الكثير منهم: "أن طريق الحرية يبدأ من فلسطين"، للتخلص من الاستعمار ومنظوراته للأرض كمصدر للثروة، وللإنسان كموضوع للاستغلال. فإنصاف نضالات الشعب الفلسطيني، إنصاف وإضفاء للمشروعية على كل حركة تسعى إلى الهدف ذاته، وتوريث هذا النضال في المطالبة بالحق، وهو ما قامت به الثقافة والمثقفون عن جدارة واستحقاق، ولا يعيب جهودهم، من أتى على خلاف أصله العربي، بكل معاني المروءة والشهامة. نكبة الفلسطينيين وحدت مثقفي الغرب والشرق: يجري هذا الحديث في سياق ما صدر من مواقف مما يجري في غزة منذ السابع من أكتوبر، من طرف الطاهر بن جلون وياسمينة خضرا العربيين، اللذين أثارت مواقفهما من "طوفان الأقصى" ردود فعل غاضبة، ليس في الوطن العربي فقط، بل في سائر بلاد المعمورة، وتم تشبيه أمثالهما من طرف مثقفي الغرب "بالتوكنز"، أي أوراق اللعب في أيدي اللاعبين. ويظهر تعاطف مثقفي الغرب مع القضية الفلسطينية، في أكثر من موقف. نذكر هنا بموقف العديد من مثقفيه من إلغاء الاحتفال بالجائزة التي منحت للروائية الفلسطينية: عدنية شلبي برحاب معرض فرانكفورت للكتاب 2023، من طرف الجمعية الألمانية "ليتبروم". ولم تغير الجمعية موقفها رغم المنع، كما رفضته جمعية المؤلفين الألمان، وهو السبب ذاته الذي كان وراء انسحاب اتحاد الناشرين العرب منه. وفي سياق ما يتعرض له قطاع غزة من قصف وحشي عز نظيره، صدرت تنديدات من ممثلين (أنجيلا جولي) وفلاسفة (نعوم تشو مسكي، نعومي كلاي، سلافوي جيجيك) ومؤرخين (مارك كاميليري). ووقع أكثر من 2000 شخصية من عالم الفن والثقافة في المملكة المتحدة على عريضة مفتوحة للوقف الفوري للحصار الإسرائيلي وقصف غزة، والتي كتب فيها: "إننا نشهد جريمة وكارثة"، تزامنا مع توقيع آلاف من المثقفين حول العالم من العرب على عريضة لإدانة العدوان الإسرائيلي الوحشي المستمر على قطاع غزة. بالإضافة إلى كوكبة تتألف من مغنيي الراب أوروبيين وأمريكيين انخرطوا في الغناء من أجل غزة ووقف العدوان.