ارتخت ذراعاي تماما وصارتا كالمطاط، ولم يعد في إمكاني الجلوس من غير سند، وكان لعابي يسيل باستمرار، أما قناعتي بقبول تلك الأحكام القيمية مصدرها معظم علاقاتي، حيث تصفني بالتخلف العقلي والعته وضرورة التعجيل بإلحاقي بمؤسسة خيرية أو لإحدى دور ذوي الاحتياجات الخاصة، كان أمرا يقينا فاق نسبة كل احتمال. لكن، ورغم كل هذه الانكسارات النفسية العميقة لم أنس ولو مرة موقف والدي النبيل، لقد أصر على إبقائي في البيت والاعتناء بي وبكل ما يتطلبه الوضع مع باقي أفراد أسرتي، وكانت لديه قناعة راسخة بأن ابنه ليس أبله وليس معتوها ولا توحديا؛ لقد أبدى حفظه الله قدرا كبيرا من الحرص وأبان عن صبر وروية على إثبات ذلك. كان المسكين بعد ساعات عمله الشاقة والطويلة يغسلني ويلبسني ويعينني على قضاء حاجاتي الضرورية؛ وكم كان فظيعا ورهيبا أن يتدخل الأنساب والأحباب لإقناعه بإرسالي إلى مؤسسه للمعاقين حتى يتسنى له حسب زعمهم الانصراف إلى الأولاد السبعة الآخرين، إلا أن موقفه كان رفضا مطلقا غير قابل لأي مساومة. وجاء يوم علق جزء من ورق جريدة بحلقي وكاد يخنقني، لقد وجد هؤلاء وأولئك فرصة ثمينة لا تعوض كي يؤكدوا مطلبهم بإبعادي خارج بيت الأسرة؛ أما بالنسبة لي فكانت تلك السنوات مثل حلم غريب، فأنا بالكاد أستطيع أن أسمع وأبصر، لكني أتحسس وأفكر، لكن من غير أن تكون لي القدرة على نقل ذلك إلى الآخرين، حيث كنت عاجزا حتى أن أهز رأسي الذي كان بالنسبة لي أثقل من جبل. لكن كيف السبيل إلى اختراق هذا العجز وإبلاغ كل أفراد الأسرة والعائلة وكل الأصدقاء والإفضاء إليهم بكل هذه الأفكار التي تعتمل في ذاكرتي؟. أذكر لما ولجت السنة السابعة من عمري، وكنت لحظتها جالسا على عتبة في الحديقة مسنودا إلى وسائد رخوية تمنع الجسد من انجرافاته المتوالية، والمتداعي باستمرار. كنت أراقب أختي وهي تكتب على لوح حجري فرحانة تطير في السماء مثل ملاك؛ كانت تغني وتمرح، وترسل بين الفينة والأخرى صراخا غير مفهوم، وملامح أخي إسماعيل وهو يقرأ الأخبار مثل مذيع محترف.وفيما يشبه التقليد، استولى علي إحساس بجلب قطعة طبشورة، ففعلت متجرجرا، وأخذت أرسم خطوطا وأشكالا بلا نظام. كان الجميع يرقبني في صمت واندهاش، إلا أن يد أحدهم طبطبت على كتفي، وأمسكت بيدي، ثم رسمت الحرف الأول من اللغة، وقال: انسخ هذا يا صغيري. كانت أمي مدرستي في الحياة وملهمتي أولا وأخيرا. في البدء أجهدت نفسي كثيرا، وعبثا كررت عشرات المحاولات، لكن قطعة الطباشير تبللت ثم تحللت وتفسخت لتذوب مثل قطعة سكر في الماء، وفكرت لخيبتي أن ألقي بها بعيدا، إلا أنني أحسست بذات اليد الحنون تربت بحنان فوق كتفي وتقول: "واصل، أنا فخورة بك 'كود جوب'"، فحاولت للمرة الأخيرة فأمكنني رسم الحرف بصعوبة لافتة، فارتسمت على وجهي دمعة وابتسامة وصاح والدي فرحا: "يا الله كم أنت رائع، ما شاء الله عليك"، وحملني فوق كتفيه القويتين وطاف بي أرجاء الحديقة. ومنذ ذلك الوقت، تعلمت كيف أتقن رسم الحروف جميعها وحملها بأصابع قدمي لأن يداي لم تكن لتسعفاني أبدا، أما مخارج الحروف فكانت تحدث شخيرا لا يفهمه سوى أفراد أسرتي. ورغم اتكالي على الآخرين في بعض شؤوني الخاصة، مثل تناول الطعام وارتداء الملابس، إلا أنه لا أحد منهم دللني أو أشبع نزواتي، وهذا ما كان يجعلني أشعر بأنني فرد طبيعي في العائلة. لكن نظرة الغرباء إلي كانت احتقارا مدويا، تضايقني كثيرا وتزج بي في عالم من اليأس والكآبة، خاصة حينما أقبع فوق مقعدي أمام النافذة، فيما إخوتي يلعبون بالكرة خارجا، فكنت أنظر إلى أيديهم عضلاتهم الصلبة وأصابعهم الرشيقة القادرة على حمل الكرة وقذفها حيثما اتفق، ثم أتطلع في رعشة إلى يداي الملتويتين المرتجلتين، فيخيل إلي أنني أراهما للمرة الأولى، مرة زحفت إلى غرفة النوم ورحت أتفرس في المرآة التي عكست رأسي المرتعش الميال كورقة خرطال في مهب الريح، وتتبعت عضلات فمي المنحرف الذي لا يكف عن السيلان، وبحركة واحدة من قدمي اليسرى حطمت تلك الصورة اللعينة أمامي. ويوما بعد يوم، صارت 'اللاب توب' قدري المستعجل، صرت أشكل عشوائيا ما أريد وأعمل في صمت، أكتب الحروف بتهالك تارة، أرسم بقدمي اليسرى على ورقة مثبتة إلى الأرض أشكالا غريبة تارة أخرى، وكنت عندما أحمل الفرشاة بين أصابع قدمي وأغمسها في الصباغ الأحمر ثم أرسم بها خطوطا وعلامات أشعر بفخر بلا مدى، كان ذلك بمثابة السحر وكنت أنا الساحر. وهكذا دربت نفسي بتؤدة لغة اللون والشكل، وتراكمت الأشكال والرسوم على الجنبات، زحفت بي وجوه أليفة مختلفة مناظرها من كل جانب، وتراكمت فضاءات وأمكنة تجريدية تعبر عن مشاعري الجياشة المفعمة بالرغبة في الحياة؛ وحده الرسم كان يبدد وحدتي وألمي في وقت يزداد إحساسي بالقوة والحياة. وفي الثانية عشرة من عمري اشتركت في مباراة للرسم نظمتها جريدة وطنية، وبعد أسبوعيين فاجأني والدي وهو يصيح بفرح: "انظر.... لقد فزت في المباراة". أما الخبر فقد نشرته الجريدة التي يعشقها والدي حتى النخاع في صدر صفحتها الأولى. لا أخفي لحظتها أنني كنت أتلصص الأخبار، خاصة الجريدة المعارضة لكل ما هو رسمي مخزني. لقد كان ينبهني بحرص باستمرار "لا تمزقها يا ولدي، لا تنس وضعها في مكان آمن بعد قراءتها". كان المسكين يعتقد أن مجرد حمل نسخة من تلك الجريدة جريمة لا تغتفر تؤدي إلى السجن، وذلك ما كان حقا في تلك السنوات التي يطلقون عليها سنوات الرصاص. وفي سن الثامنة عشرة لم تكن معظم حاجياتي تختلف عن حاجيات أي فتى في سني، لكني كنت مدفونا حيا بانتمائي إلى جسد عاجز وكسيح. أبدا لم أحس بذلك الصدق الذي كان عليه والدي وهو يشرح المرض الذي أصابني ببساطة لا تتصور، كان يقول عن الشلل الدماغي ليس مجرد كلمة عامة تطلق للتعريف عن المشاكل التي تحصل نتيجة إصابة الدماغ في مرحلة نموه داخل الرحم وبعد الولادة، فكلمة الشلل بالنسبة له لا تعدو كونها ضعفا في العضلات أو وهنا عابرا في التحكم الحركي، وكل ذلك ينتج بسبب عطل في الخلايا العصبية الدماغية.لكن ضعف العضلات ليس هو المشكلة الوحيدة، فإصابة الدماغ تؤدي إلى مشاكل أخرى مثل تأثر الحواس الخمس. لكنها لا تمس بالقدر نفسه القدرات اللغوية والفكرية للمريض. وحدث ذات مساء أن زار بيتنا رجل غريب، فأحسست بجاذبية قوية نحوه، لقد كان طبيبا عالما، وأنجز أبحاثا كثيرة، لما وقف أمامي سأل عن اسمي، وفيما إذا كنت أعاني من قلة النوم أو التعب الشديد؛ ثم شرع في عملية تحسيس وتوعية انطلقت من الأعراض المصاحبة لحالات الشلل الدماغي، وبسط بمهنية عالية المشاكل السلوكية والنفسية لدى المصابين بالشلل الدماغي، مؤكدا أن المقدرات اللغوية لديهم قد تنمو بمعزل عن مضاعفات المرض، لكن مشاكل التغذية تحتاج لحرص كبير، كما أن القدرات الفكرية بعد تشخيص حالات الشلل الدماغي قد تتطور موازاة مع ردود فعل الوالدين. وعلمت كثيرا عن العلاج الوظيفي انطلاقا من الإجلاس السليم وتعديل البيئة لتناسب حالات الشلل الدماغي، إلى جانب التعليم والتدريب وتدريبات النطق والتطور الحركي والفكري، وتقييم التطور الحركي والفكري والتعرف على نمو الطفل – مقاييس النمو وتوقعات المستقبل. وباختصار شديد، لقد تراءى له جسدي حقلا بشريا مناسبا للتجارب العلمية المختبرية لمختلف آرائه ونظرياته وأبحاثه في الأعصاب والشلل بأنواعه. ولم يكن الطبيب مختصرا في أسئلته، على العكس، كان دافقا مثل نهر جارف لا يتوقف عن الأسئلة، حيث علمت في ما بعد أنه يقوم بتجميع معطيات قصد عرضها خلال ندوة صحافية يعقدها للترويج لعيادته الجديدة المتخصصة في الشلل الدماغي، والواقع أن حواره النبيل ترك أبلغ الأثر في نفسي، لقد فتح بأسئلته فرصا كثيرة تنضح بالحياة، إذ في عيادته ورفقة الكثير من أقراني المقعدين الكساح تابعت تماريني التي من شأنها تقوية وظائف عضلاتي ونقل مشاعري وأفكاري إلى الآخرين. لقد قال لي الطبيب يوما إن سنوات طفولتك الطويلة التي أمضيتها من غير تمرين كانت عائقا رئيسيا في سبيل إحراز تطور سريع وفاعل، ولكنه مقتنع بأن الوقت لم يفت لتحقيق نجاح ولو نسبي في العيادة. أيضا نسجت علاقات وأنشأت صداقات جديدة كانت أقواها على الإطلاق تلك التي أقمتها مع أطفال يشبهون الصورة التي أشاهدها في المرآة كل صباح. وصرت لحظتها أنظر إلى الحياة من زاوية جديدة. وبت أشد قبولا بأنني لن أصبح طبيعيا البتة على الأقل من الناحية الجسدية، لكني وبشهادة الطبيب المعالج أتمتع بالفكر والشعور وباستطاعتي أن أكتب، والله نعم، أكتب ما أريد لكن بقدمي اليسرى. لقد أعانتني عزلتي على اكتشاف المعنى والحكمة حتى في الأمور العادية، فصممت على كتابة سيرة لحياتي لعلها تكون مرآة لغرباء كثيرين أمثالي في مثل هذا العالم القاسي، فكنت أملي فصولا ووقائع من حياتي على إخوتي بالتناوب، ورغم أن ذلك كلفني مئات الساعات من العمل الدؤوب إلا أنه ملأني أحساسا قويا بأنني شاب قابل للتعلم إلى أبعد حد. ومع الأيام صرت أتقبل كل كلمة نقد أو توجيه، فأحرزت تقدما سواء في حجم اطلاعي على الأدب والفن أو إتقاني أساليب الكتابة والتعبير. وذات لحظة، حصل شيء غريب، حيث لم أعد أتحمل وضعي في الاعتماد كليا على الآخرين، وكففت عن الإملاء لإخوتي وعدت لأضع القلم بين أصابع قدمي اليسرى وأخطط بنفسي ما أرغب في تدوينه. وأحسست أن الحياة عادت إلي من جديد، وبعد سنوات من الجهد والمراجعة أرسلت مخطوطة إلى إحدى دور النشر من غير إشعار والدي أو أي فرد من أسرتي، فقبلت الدار دونما أدنى تردد، فظهرت الرواية عام 1967 بعنوان "قدمي اليسرى هي أنا"، وكان عمري لحظتها لا يتجاوز 23 سنة. وبفضل ريع الكتاب الذي غدا من أكثر الكتب مبيعا في المنطقة حصلت على جهاز حاسوب، وباستخدام الأصبعين الكبرى والصغرى كنت أتمكن من اللحاق بأفكاري وأحاسيسي قبل أن تفر من الذاكرة أو يقبرها النسيان، وكانت تلك لفترة فيما أذكر رحلة إنتاج هائلة في حياتي، توجتها بروايتي الرائعة التي صدرت عام 1968 تحت عنوان "في قلب الأيام"، وهي عصب تلك المرحلة ومحتواها، إنها سكب للروح في قالب من الكلام الشعري العميق الذي يروي قصة مفعمة بالأمل والحياة، حياة عائلة مكابرة بما يتخلل تفاصيلها من قبح وجمال، من عنف وحب، كما تجلت أمام عيني ذاك الفتى المعوق ببصيرة نفاذة. أن يذكرك الآخرون، أن تخلد في الذاكرة الجمعية، أن تبصم الأثر، لا بعاهاتك الإنسانية، ولا بخصوصياتك، لكن لشيء أنجزته وتركته وراءك، فوصل إلى الآخرين ودخل أعماق حياتهم.