(1) تسألني رجلي قائلة : كتبت ذات يوم عن يدك اليمنى وما أصابها من داء، ويبدو لي أنك نسيت أن رجلك أصيبت أيضا، وأن إصابتها تشبه ما لحق يَدَكَ اليمنى. فقد شملت وعكتك الصحية بصورة عامة، نصفك الأيمن بدرجات. لقد اعتلت الرجل اليمنى، كما اعتلت اليد والأصابع والكتف.. اعتلت الأعضاء بمفاصلها وحواملها العظمية والعضلية والعصبية. ولحق العطب الرجل بساقها وبما هو أعلى الساق، بل إن الخلل شمل مجموع أعضاء منتصف الجسم، ما ظهر منها وما خفي. أَدركتُ وأنا أستمع إلى سؤال رجلي اليمنى في موضوع التقصير الذي لحقها مني، أنها محقة فيما تسأل عنه. كما أدركت أنني ربما أغفلت ذلك قصدا، بحكم أن ما أصاب رجلي من شلل جزئي، تخلصت منه في وقت قصير مقارنة مع حال يدي، التي ما تزال في وضع يختلف عن وضع اليد اليسرى. ويبدو لي أنني حاولت في غمرة ما لحقني من عطب، تناسي ما لحق طريقة سيري من تعثر وبطء، لم أستطع التخلص منهما إلى حدود هذه اللحظة، رغم وقوفي وتحركي المستقلين.. في بداية الحكاية، ومنذ ما يقرب من ثلاث سنوات، سقطت اليد اليمنى قبل الرجل بيوم كامل، وأصابني ما أصابني من علل أخرى، أبرزها ثقل اللسان ووهن العظم والعضل. وأبرز من ذلك الإحساس الباطني العميق بانتقال جسمي من وضع إلى وضع، حيث أصبحت أتحرك ببطء وتؤدة، وأتحدث ببطء، وقد كنت بالأمس القريب، أمشي وأجري مغمض العينين، وأتحدث بطلاقة لا يعتريها تلكؤ..بل أذكر جيدا، وكأن الأمر ينتمي إلى زمن آخر، أنني كنت فيما مضى طليق اللسان، قادرا على التلفظ بالعبارات الراقصة والطائرة، وذلك لعشقي وشغفي الكبيرين بمخزونات وذخائر اللغة العربية وآدابها. وبعد إصابتي كنت أحاول تجاوز أعطاب اللسان، فأجد صعوبة كبيرة في بلوغ المراد، فينتابني من جراء المحاولة عياء كبير، كان يصل أحيانا وخاصة في الأشهر الأولى درجة العجز عن النطق ببعض الأحرف والكلمات. ولم أكن أدري هل يتعلق الأمر بإصابة النصف الأيمن من اللسان، أم أن الإصابة لحقت وظيفة اللسان ودوره في الكلام، وفي ترتيب مخارج الحروف أثناء عمليات تصريف النطق وبناء المفردات. لنواصل الجواب عن السؤال موضوع هذا التداعي؟ جاءت إصابة الرجل اليمنى كما قلنا، بعد يوم كامل من إصابة اليد اليمنى. ذلك أنه في صباح اليوم الثاني للإصابة، كان الحادث المفاجئ قد شمل بقية أعضاء الطرف الأيمن من جسمي. الأمر الذي ترتب عنه أنني أصبحت لا أمتلك القدرة على الوقوف والمشي والحركة. وهناك أمر مثير في العلاقة التي وَطَّنتُ نفسي عليها بعد حصول ما حصل، فقد قَبِلت بالأمر الواقع دون خشية ودون سؤال. وما شجعني على ذلك هو أن ما أصابني، تم بصورة مفاجئة وسريعة، ودون ألم موضعي. وخارج الإحساس العام والعميق بالوهن، بقيت أسمع وأفكر وأتذكر، وأمشي في الأسواق، كما كنت، مع إضافة عنصر جديد، يتعلق الأمر بتأمل حالي ومعاينة ما ألم بي.. وجدت نفسي في صباح اليوم التالي للإصابة، غير قادر على الوقوف والمشي على رجلي اليمنى، إلا بمساعدة الآخرين أولا، ثم المشي البطيء بعد ذلك. وترتب عن هذا أن حركة وقوفي لم تعد مستقلَّةً، فقد أصبحت أمشي بمساعدة الآخرين، وأنا الذي كنت أمشي كما تمشي بقية الكائنات الحية. إن ما حصل لرجلي اليمنى كان طريفا ومُسليّاً في الآن نفسه، فقد أصبحت مقعدا، لا أتحرك مستقلا. وخلال مدة قصيرة، و بفعل تمارين مكثفة في الترويض الطبيعي، استعدت قدرتي أولاً على الوقوف مستقلا، ثم على المشي المستند إلى عكاز، ثم المشي البطيء في مرحلة ثالثة.. وقد بدا لي إذ ذاك أن ما حصل كان غريبا، مثل غرابة ما أصابني في الأول. أصبحت أمشي مجددا لا كما كنت أمشي، ولكنني أصبحت أمشي مرة أخرى بعد تَوقُّفٍ، وكأن هذا الذي لحقني قد اختفى بسرعة. حضر وألحق بي أعطاباً معينة في الحركة، والوقوف والمشي، وفي الكلام. ثم اختفى، فأصبحت أمشي مرة أخرى بعد توقف دام ما يقرب من شهر ..وعدت إلى سالف عهدي كائناً يمشي، دون أن أتمكن من استعادة طريقة سيري الأولى، ودون أن أتخلص من إحساسي العام بالوهن. تذكرت أن الرِّجل اليمنى استعادت عافيتها بفعل تمارين الترويض اليومية. وأفترض وأنا أقارن بين مسار نتائج العلاج في اليد والرجل، أن إصابة الرجل كانت أبلغ من إصابة اليد، أو أن بنية اليد الوظيفية أكثر تعقيدا من البنية الوظيفية للرجل. (2) استعدت في البداية قدرتي على المشي، وكانت مشيتي بطيئةً. لا أستطيع الخطو بسرعة، كما لا أستطيع ممارسة الخطو بإيقاع سريع.. أتحرك ببطء بَطِيء، لكنني أتحرك.. أصابني في اليوم الأول لعودة الحركة إلى رجلي، وقدرتها على حمل جسدي إحساس بفقدان التوازن عند الوقوف، حيث كان ينتابني إحساس عام لمدة شهور، إحساس يجعلني أشعر بأنني غير قادر على الوقوف بشكل متماسك ومتوازن، كما يقف الواقفون في العادة. لقد أصبحت معرضا للتمايل ذات اليمين وذات الشمال عند الوقوف، بسبب فقدان التوازن، وكان يدفعني هذا الإحساس إلى نوع من التركيز أثناء السير، لا نحتاجه في العادة عندما نتعلم المشي ثم نمشي. وقد نجم عن انعدام القدرة على المشي خلال ما يقرب من شهر، أنني فقدت القدرة على الوقوف من أجل الانطلاق في عملية المشي. اكتشفت بعد ذلك، أن طريقتي في المشي لن تعرف التوازن المطلوب إلا باللجوء إلى عملية إسناد، وأن هذه العملية تتطلب الاتكاء على عكاز . وتذكرت في غمرة كل ما أصابني أنني أمتلك عكازاً، اشتريته لوالدي عندما بلغ به العجز مبلغاً قَصِيًّا، فكان يتكئ عليه ليُصَحِّح طريقته في المشي، واحتفظت به لنفسي بعد وفاته. ولم يخطر ببالي في أي وقت من الأوقات، أنه سيصبح ذات يوم أداة تساعدني في عملية المشي، وضبط التوازن عند الوقوف، وأنه سيمنحني فرصة لمشاركة والدي في أداة استعان بها على تحسين سيره ذات يوم. وقد جعلني هذا الأمر، استرجع بعض صور علاقتي بالوَالدِ، وهو الأمر الذي فقدته منذ زمان..وذلك تحت تأثير ما يفعله بنا الزمان في رحلة العمر، المليئة بالحكايات والاحلام، والمليئة أيضا بفضيلة النسيان... أصبحت أسير مستعينا بعكاز والدي، من أجل توازن أَضمن، وطريقة في المشي أَسلم. وهكذا خلال مدة أسبوع، كان لا يمكنني أن اتحرك دون استعمال هذه الوسيلة، فاسترجعت بالتدريب البطيء بعضا من توازني، أصبحت طريقتي في المشي متزنة، رغم بطئها، وكنت أحس أن أي محاولة في الإسراع يمكن أن تؤدي إلى سقوطي، ومع ذلك أقول، إنني أصبحت أمشي، ولا ينبغي أن يخالجني أي شعور كاذب من قبيل الاعتقاد بأن طريقة سيري اليوم تشبه طريقة سيري السابقة، فلكل زمان طريقته في الخطو والمشي. وفي هذه اللحظة بالذات، كانت يدي على خلاف ما حصل من تَحسُّن في رجلي اليمنى ما تزال كما هي.. فكيف لي أن أتحدث عن رجلي، وقد استعادت عافيتها مقارنة مع حال يدي؟ كان تطور وضع اليد بطيئا، وقد مر على المصاب ما يزيد عن سنة ثم سنتين، وها أنذا أكمل السنة الثالثة.. فهل تدري الرجل الآن، لماذا نسيتها وتحدتث عن اليد وحدها، واصفا من خلال ما لحقها بعضاً من مواجع دماغي المسلية؟ قد يكون في السرد السابق، ما يشير إلى معطيات موصولة برجلي وما أصابها، إلا أنني أغفلت الإشارة إلى قابليتي اليوم للسقوط أثناء عملية المشي، واستمرار هذه البلية رغم التحسن الذي حققته رجلي مقارنة مع يوم حصول الحادث.. أريد هنا، أن أؤكد على أمر أساسي، يتعلق بظاهرة تعثري أثناء الحركة، ففي الأيام الأولى لإصابتي كنت أصاب ببعض التعثر أثناء المشي، ومن حسن حظي أنني سقطت مرتين فقط ودون ألم يذكر، وبعد سقوطي، كانت تنتابني لحظات بكاء عابرة، بحكم خوفي من السقوط المفاجئ ومن تكراره، وذلك رغم أنني عودت نفسي في الآن نفسه على الضحك من عثراتي، ودَرَّبْتها على لزوم الاحتراس واليقظة، والسير في الطرقات المعبدة والآمنة. نبهتني العثرات اليومية إلى طريقة مشيي الجديدة، واستوعبت بعض مظاهر النقص في طريقة رَفْعِ رجلي وثَنْيِ ركبتي، وهما معا من الأفعال التي نمارسها في المشي، دون أن نفكر فيها لأنها أفعال وظيفية مرتبطة بنظام تركيب الرجل. ولأن عطالة الرجل ترتبط بضعف العضلات، فإن من نتائج ذلك عدم القدرة على رفع الرجل، وعدم القدرة على ثنيها، ويترتب عن ذلك في حال عدم استواء سطح الطريق إمكانية التعثر والسقوط. أصبحت بفعل ما حصل أمشي بحساب، أقيس وقع خطواتي بحساب، ابتسم حين أتعثر، وأتابع سيري بحذر، كنت أمارس تمارين جديدة في تعلم المشي مجدداً، في سياق وضعي الصحي الجديد. لنعد مرة أخرى إلى سؤال رجلي اليمنى. (3) أثار السؤال في ذهني شجوناً عديدةً، وجعلني أدرك أن قدرتي اليوم على الوقوف، والمشي البطيء والمتعثر أحيانا دون سقوط، يعد مكسباً لايمكن الاستهانة به. لكن عندما أتأمل ما كنت عليه قبل المصاب، ينتابني شعور باستمرار الحال على حالها. وكما نعرف، فإن الأمور نسبية دائما، في حال الصحة وأثناء أطوار المرض. وينبغي أن نُعوِّدَ النفس على النظر إليها من هذه الزاوية بالذات. أحسست مرة أخرى، أن السؤال وضعني أمام أمرٍ كنت أخفيه على نفسي، فقد تذكرت بعد حصول ما حصل، رغبتي في أن أكون راقصا محترفاً، وأن أرقص دون توقف. وأذكر جيدا أنني كنت أنظر بعين الرضا والإعجاب للراقصين وللمتصوفة الذين يحرصون على الذِّكر المصحوب بالحركة المتمايلة إلى حين نيل الوصل. ولعلكم تعرفون أنه لا يمكننا ان نرقص بالأيدي وحدها ولا بالرأس وحده، وأن قاعدة الرقص الكبرى، تتحدد في الوقوف على الأرجل، وقدرة هذه الأخيرة على التحكم في الجسد، الأمر الذي يُمكِّن كل زوايا وأبعاد الجسم من ممارسة أشكال من الحركة المتنوعة بالوقوف والمشي، والمشي والوقوف، والانحناء والتمايل ذات اليمين وذات الشمال، إضافة إلى الانحناء في اتجاه الأمام والانكفاء المتسق نحو الخلف، والانعطافات في الوسط، وكل ما يُمكِّن مختلف أعضاء الجسم من رسم الإيقاعات والإيحاءات المفصِحَة دون كلمات، ولهذا يُوظِّف الفعل الراقص زوايا معينة في الجسم، لأداء أشكالٍ من الحركة المتسقة والمرتبة. تمارس الأرجل أثناء الرقص وظائف مركبة ومتنوعة، شبيهة بمنتوج الشطح الصوفي، الذي يُحوِّل بعض عبارات الصوفية إلى كلمات متطايرة ومضيئة، وحدوس ملتقطة لمكنونات لا نعثر عليها في المتون المرسلة بالكلام . وفي لحظة التداعي التي جعلتني أقرن الرقص بالمشي والمشي بالرقص، وأقرن المجاهدة الصوفية بطقوس الحركة الساعية إلى مقام القرب، في هذه اللحظة بالذات، تذكرت شارلي شابلن، كما تذكرت مِسْتَربِين الممثل البريطاني المعروف، وهما معاً يتمتعان في ذاكرتي السينمائية بمكانة عظيمة، لما تتميز به أعمالهما من قيمة فنية عالية. وقد جاء تذكري لهما موصولا بما أصاب طريقة سيري من ارتباك، تذكرت قدرتهما العجيبة على توظيف الرجلين، وجعل حركة المشي مطابقة لشخصية كل منهما. فحاولت استرجاع تفاصيل حركاتهما في المشي، في لحظات القيام بأدوار ومشاهد تمثيلية، يستحيل القيام بها دون حركة الرجلين واليدين، بل لنقل حركة الحاجبين والعينين والرأس ووسط الجسم، بل ومختلف أبعاده الأخرى. كانت طريقة مشي شارلين شابلن في أفلامه الصامتة، تعبر عن مفارقات وعثرات ومقالب، صانعة للمعنى والدلالة في الصور ومتوالياتها، داخل الخطاب السينمائي المنسوج بحركة السقوط والوقوف والجري والابتسام، أو لحظات الانفراد بالمشاهد، وكذا في اللحظات التي يحضر فيها شابلن بجوار مكونات أخرى تدور في فلكه، وتمنحه أمكنة داخل المكان، قصد تهييء ما يسمح له بالحركة الهاربة والمصحوبة بابتسامة ماكرة. أما شخصية مستربين الفيلمية، وهو يتحرك راقصا في مغامراته المعتمدة على طريقته الخاصة في المشي والحركة، بكل ما يترتب عنها في خطابه السينمائي من إيحاءات ومواقف. تحضر في أفلام ميستربين إشارات تجمع بين فعل الرجلين والجبين والشفتين، وتقدم لقطات قيامه بهش حشرة في فيلم «استراحة على العشب»، ما يصنع مقومات الفعل المليء بالحركة والغضب والعنف والابتسامة، ثم الجري..وهو يقدم في عمليه «مغامرات مستربين»، و»عُطلة ميستربين»، مقاطع متلاحقة ومتواصلة من فيلم واحد، شخصيته الأساس تتمثل في حركة مشيه، أما الشخصيات الأخرى الموصولة به، داخل الفيلمين المذكورين، فترتبط بحركاته وسكناته، انحناءاته وابتساماته وغضبه.. وفي كل هذه الأحوال، يقف أمامنا رجل يرقص ويمشي، ثم يمشي ويرقص.. فلا نعود ندري أين ذهب؟، هكذا بدا لي الآن مستربين، وقد أصبحت أفتقد القدرة على المشي، الذي أتخيل أنه يمنح الاختفاء والظهور، إيقاعات الفعل الراقص. إن تفكيري في المشي اليوم دفعني إلى التفكير في الرقص والذِّكر، ومن منا يُنْكر أن في المشي علامات كثيرة موصولة بالرقص، حتى عندما نقول إن الذين يتحركون مشياً يسيرون، فإنهم في حقيقة الأمر يرقصون، وعلينا ابتداء من الآن أن نتأمل في ضوء ما سبق، حركة السائرين في الشوارع والأزقة داخل المدن، إنهم بكل بساطة يرقصون. (4) وأنا أستمع إلى سؤال رجلي، في موضوع نسيانها أثناء كتابتي لمواجعي المتعلقة بيد اليمنى، تذكرت أمراً آخر، تذكرت أنني كنت خلال عقود من الزمان، أنظر إلى مختلف أشكال الرقص التي أنتجتها البشرية في التاريخ، من الرقص الشعبي إلى الرقص المعاصر بأنماطه المختلفة، نظرة أعجاب يفوق أحيانا درجات إعجابي بفنون الكتابة والتشكيل. وكنت أدرك في الفعل الراقص لحظات إبداع قوية متسقة ومركبة، بل ومستوعبة لكل مآثر الفنون الأخرى. وقد تعلمت بحكم التجربة وجود علاقة قوية بين الجسم السليم والحركة الفنية في فعل الرقص، بل أدركت ان الذين يرقصون جيدا، يمارسون عمليات عجيبة ومثيرة في طريقة تحريك الأطراف وَطَِيّها، وبأشكال متنوعة ومتوازنة، وهم يتمتعون في الأغلب الاعم بكثير من الرشاقة، التي تُعَدُّ أساس الأداء الناجح في الرقص، الأداء الذي يحقق المتعة والفن. وهكذا أدركت ان المواقف الرافضة التي يتخذها البعض اليوم من فن الرقص، تحت مسميات مختلفة، تعبر عن عدم قدرتهم على إدراك الأبعاد الفنية والجمالية التي يستوعبها الفعل الراقص، وهي الأبعاد التي تشكل الأرضية المحايثة لمختلف التعبيرات الفنية، ومن بينها الرقص في جميع صوره وتجلياته. إن العناية الكبيرة التي تقدمها بعض المجتمعات اليوم لطقوس الرقص الجماعي، تكشف الوعي الجديد بوظائف فنون الرقص في تعزيز دوائر الجمال والحياة، ومن هنا فإننا نرى في انخراط مجموعات في حفلات راقصة، يعد عنوانا كبيرا لمأثرة الاهتمام بالجسد في أبعاده الجمالية اللامحدودة. ازددت اقتناعا بهذا، عندما انتبهت إلى أن حركة الأزهار والأشجار ومختلف النباتات على وجه البسيطة، وكذا حركة الأسماك في المحيطات والأنهار، والطيور في السماء تعلن خلال مراحل تشكلها وتطورها وحركتها ما يعادل الفعل الراقص بكل ما يحمله من صور وأشكال وأنغام، ففي نمو النبات وتفتح الورود وتطاول الشجر وانفلات الأسماك داخل حركة الموج وفي أعماق البحار، سمات مطابقة لمواصفات الفعل الراقص في أبهى تجلياته. كما أن طيران الطيور المعتمد على حركة مد الأجنحة الملونة وطيها، ما يعادل فعل التمايل المتسق للأداء الراقص الموصول في الآن نفسه بتعابير الانتشاء. استعدت ما سبق من صور في ذهني، وتذكرت أنني كنت دائما أحلم بالرقص، وكنت أرقص عندما تتاح لي الفرصة لذلك، كما كنت أرقص ذهنيا، وأحرص على قضاء وقت طويل داخل المراقص والساحات المخصصة للحفلات الراقصة. أدركت في زمن لاحق، أن الرقص أصبح سهلا في المراقص العمومية بفعل تقنيات الإضاءة، التي تشكل اليوم في حلبات المراقص فضاءً صانعاً لجمالية أمكنة الرقص، حيث تغمر الراقصين والمتحركين ألوان مختلفة ومتداخلة، بل وصانعة لحركة قد لا تكون فعلية، فلا يدري الرائي، هل يرى حركة الراقص، أم حركة لون الضوء فوق الجسم، أم حركة الواقف دون حركة، وقد عَبَرت جسمه أشعة الأضواء الملونة مخترقةً طُوله، ومضفية عليه ما يشير إلى الحركة دون حركة، وما يشير إلى فعل الرقص، سواء كان رقصا، أو كان فعل إضاءة صانعة لطيف متحرك وراقص.. وفي مختلف هذه الحالات فإن المشهد العام للراقصين داخل الحلبات، يخفى آثار الذين يرقصون والذين يكتفون بضلال الرقص الجماعي. صحيح أنني في شبابي الأول والثاني، لم أكن راقصا ولا مواظبا على الرقص، وفي اللحظات القليلة التي كانت تتاح لي فيها مناسبة ما للرقص وخاصة في الأفراح والمناسبات، كنت لا أتردد في القيام بذلك. وقد أدركت في زمن لاحق أن جسمي لم يكن مطواعا، وأن فعل الرقص الافتراضي في ذهني كان لا يخلو من أناقة مفترضة ومرغوب فيها. (5) أصبح أمر استعادة المشي والحركة بصورة تامة، يُعادل طموحي اليوم في أن أبلغ التحسن الذي يُمكِّنني من الانخراط الفعلي في الرقص، سواء في المستوى المتخيل كما كنت دائما، أو في المستوى الموصول بالفضاءات المخصصة للرقص داخل المراقص الليلية، أو في الأفراح، والساحات العمومية، التي تنظم فيها المهرجانات الراقصة، لفتح أوراش عمومية في الرقص الجماعي، الذي يشكل اليوم متنفساً يتيح لمن يمارسونه داخل المدن والقرى، فرصة للتعبير عن أفراحهم والتخلص مؤقتا من أعباء اليومي ورتابته. تُرَى هل أجبت رجلي على سؤالها، وأنا أسرد علاقتي بالمشي والحركة والرقص، وما صاحب ذلك من تداعيات في موضوع الشطح والذكر الصوفيين، الموصولين بدورهما بتحريك الرأس والوقوف، ثم المشي والتمايل؟ إن الجمع بين فعل الرقص والمشي في الحركات الراقصة، وفي طرق مشي كل من مستربين وشارلي شابلن، هما جانب آخر من تداعيات فعل التفكير في الجواب عن السؤال الذي طرحته رجلي. وقد شجعني الموقف الذي تحدثت عنه، بأن أغامر بالحديث عن رجلي، وتطلعاتي القديمة والمستجدة لإتقان الفعل الراقص. فهل وفقت في ذلك؟ أتطلع وأنا أفكر اليوم في طبيعة حركة سيري، إلى أن تصبح طريقة سيري مثل الآخرين، فرصة للرقص المقنَّع والدائم، بحكم أن قواعد تسمية الحركات في الأجسام، تعلن أن المشي مشي، وأن الرقص رقص .. لقد مزقت القناع، ولم يعد خافيا اليوم في تصوري، أن الذين يمشون أمامي يرقصون، وأن الشوارع مليئة بحركات رقصٍ جماعي لا تتوقف ولا تنقطع، وان موج البحر يمارس بدوره فعلا راقصاً، يماثل في رقته وأناقته فعل تمايل الأزهار والفراشات في الحقول.. فمتى أَلْتحق راقصاً بالسائرين والعابرين في الساحات العمومية؟ وهل سيتحقق المراد، وأستعيد طريقة مشيي الأول، لأنخرط مجددا بسخاء في ملحمة الرقص التي تنتظرني؟