كلما دنا أجل الانتخابات في أي من البلاد العربية طرح السؤال حول مشاركة الإسلاميين ومداها، والأهداف التي يمكن أن تتحقق من ورائها، سواء لصالح المشروع الإسلامي أو لصالح البلد، وكأن الأمر يتعلق بأول مشاركة لهذا التيار في العملية السياسية.. ولعل السر وراء الاهتمام الزائد بالمشاركة الإسلامية وملاحقتها بالأسئلة يرجع إلى التحولات النوعية التي تعد بها في حالة تمكنها من السلطة بمراتبها المختلفة، وأيضا لكثرة الخصوم المتربصين بها في الداخل والخارج الذين يحصون خطواتها. "" والانتخابات الجماعية (الجماعات الحضرية والجماعات القروية) التي سيشهدها المغرب في شهر يونيو المقبل لا تقل إثارة – من هذه الزاوية - سياسيا وإعلاميا بالنسبة للباحثين والمهتمين بالشأن الإسلامي عن الانتخابات التشريعية التي عرفها المغرب في 2007م، فهي معبر آخر لاحتلال الغرفة الثانية من البرلمان، كما أنها بوابة أخرى لممارسة السلطة على الصعيد المحلي وتدبير الشأن العام، ومعلوم أن الحركة الإسلامية في هذا المجال لها صيت طيب. إن الانتخابات الجماعية المقبلة من وجهة نظر الإسلاميين تأتي في سياق خاص ومميز، تتوقف عليه صدقية أي تحليل للعملية السياسية في المغرب، ودور الإسلاميين فيها، وبالتالي ما هو متوقع من المشاركة الإسلامية في هذا البلد وإمكانيات الإصلاح المتاحة أمامها يتصل اتصالا وثيقا بالسياق العام لهذه المشاركة، الذي يمكن اختصاره في ثلاث حقائق أساسية: تزايد الضغط على الحركة الإسلامية، وظهور مكون سياسي جديد وقوي يجاهر بالعداء للمشروع الإسلامي، وتصاعد حدة الاستهداف للتجربة السياسية الإسلامية من طرف الدولة المغربية. الضغط على الحركة الإسلامية ففيما يتعلق بتزايد الضغط على الحركة الإسلامية انحسرت التيارات الإسلامية العاملة في التراب المغربي انحسارا واضحا في السنوات الأخيرة، فمنذ تفجيرات الدارالبيضاء في 16 مايو 2003م وقبلها بقليل عند الكشف عما اصطلح عليه آنذاك ب"الخلية النائمة" (2002م) المرتبطة بالقاعدة، والتي كانت تخطط – حسب التقارير الأمنية - لتفجيرات في مضيق جبل طارق، تزايد الاستهداف الأمني والسياسي الرسمي للحركة الإسلامية. وكانت البداية بالجماعات السلفية التي كانت تؤطر من خلال خطبائها قطاعا عريضا من الشعب المغربي، ثم جماعة التبليغ التي اتهمت بإيوائها لبعض الجهاديين أو مرورهم منها، وامتد الاستهداف لينال عددا من دور القرآن في العام الماضي، حيث بادرت الدولة بإغلاق حوالي خمسين دارا، بعد أن أفتى أحد شيوخها، وهو محمد المغراوي المتأثر بالوهابية وشيوخ السعودية، بجواز زواج بنت التسع السنين، وهو ما اعتبرته بعض التيارات النسائية وكذلك الدولة مخالفة واضحة لمدونة الأسرة المغربية وللاجتهاد المالكي الجديد، الذي يؤخر سن الزواج القانونية بالنسبة للفتاة حتى 18 عاما. وبلغ هذا الاستهداف ذروته بعد إقدام الدولة في قرار مفاجئ على حل حزب البديل الحضاري واعتقال أمينه العام، وأيضا اعتقال رئيس الحركة من أجل الأمة التي كانت تناضل من أجل الحصول على الإذن القانوني لإنشاء حزب سياسي، بدعوى انتمائهما لخلية بلعيرج الإسلامية، وتورطهما في مؤامرة لزعزعة استقرار البلاد وتغيير نظام الحكم بالقوة. فلم يتبق من الحركة الإسلامية وروافدها السياسية في الواقع المغربي بعد هذه الحملة المنظمة والمنسقة سوى تيارين أساسيين هما حركة التوحيد والإصلاح التي تشارك في الحياة السياسية من خلال شريكها الإستراتيجي حزب العدالة والتنمية، وجماعة العدل والإحسان التي تقاطع العملية السياسية نظرا لغياب الشروط. وتعززت هذه الإستراتيجية بمساعي الدولة الحثيثة من أجل تأميم الحقل الديني وإعادة هيكلته بصورة تقطع الطريق على الحركة الإسلامية، وتجسدت هذه المساعي في تأسيس الرابطة المحمدية لعلماء المغرب (فبراير 2006)، ودفعها لاستقطاب علماء المغرب وتأطيرهم وضبطهم، حتى لا يقعوا في أحضان الحركة الإسلامية، وتجسدت أيضا في إعادة هيكلة المجالس العلمية وتوسيع اختصاصاتها، بحيث أصبحت تحاكي في الكثير من أعمالها الحركة الإسلامية وتحاول منافستها. وفي السياق نفسه اجتهدت الدولة المغربية في إحياء الدور الاجتماعي والتوجيهي لبعض الجماعات الصوفية، وفي مقدمتها الزاوية البوتشيشية، ورعاية بعض المواسم الصوفية، وإحياء ما اندثر منها مثل موسم "سيدي شيكر" المعروف تاريخيا برباط شاكر الذي يوجد في نواحي مراكش. إن إستراتيجية الدولة المغربية في محاصرة "المد الإسلامي" الهادئ في المغرب ببعديها الأمني والسياسي، والتنظيمي والتوجيهي، نجحت إلى حد ما في الحد من تأثير الحركة الإسلامية في المجتمع المغربي في بداية الألفية الثالثة، وحصرها في محاضنها التقليدية (البيوت، والمقرات، وبعض القاعات العمومية). فاعل سياسي جديد تأسس في الأشهر القليلة الماضية حزب "الأصالة والمعاصرة" الذي يعتبر نفسه الترجمة السياسية لأفكار وطموحات "حركة لكل الديمقراطيين" التي ظهرت سنة2008م، بزعامة الوزير السابق المنتدب في الداخلية وصديق الملك فؤاد عالي الهمة، والتي جمعت بين فلول اليسار "المتطرف" الذي لم يدخل غمار السياسة من قبل، وبعض العناصر المنسحبة من الاتحاد الاشتراكي، وبين خمسة أحزاب إدارية ظهرت في سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بهدف إحداث نوع من التوازن مع المعارضة الوطنية. هذه الحركة والحزب الذي تمخض عنها لا يخفيان عداؤهما للحركة الإسلامية، وخاصة لممثلها السياسي في المشهد الحزبي المغربي حزب العدالة والتنمية، ويستشف هذا من عدة مواقف وتصريحات لقادة "الأصالة والمعاصرة"، وفي مقدمتهم الزعيم صديق الملك فؤاد عالي الهمة، كما يستشف أيضا من الوثائق التأسيسية لهذا الحزب. فحزب الأصالة والمعاصرة في وثائقه الرسمية يعتبر التيار الإسلامي عموما وحزب العدالة والتنمية خصوصا عائقا أمام الديمقراطية والتحديث في المغرب، ويتهمه باستغلال الدين "والاستقواء به من أجل كسب مواقع في مجال السلطة والتدبير السياسي"، وبالتالي لا يتردد في مواجهته ومطالبة القوى الحداثية الأخرى بالتحالف معه ضده. إن هذا المولود السياسي الجديد أضاف تحديات سياسية جديدة للحركة الإسلامية المغربية؛ فهو من جهة خصم جديد إلى جانب خصوم سياسيين آخرين للمشروع الإسلامي، كما أنه من جهة ثانية يسعى لتكوين تحالف واسع ضد المكون الإسلامي، ويجتهد في استقطاب بعض قوى الوسط السياسي التي يمكن أن تتقارب مع الإسلاميين لصفوفه ومواقفه، كما أن صداقة زعيمه للملك أعطت هذا الحزب ميزة تفضيلية، جعلته متقدما على غيره في مخاطبة النخب واستقطابها لاعتبارات مصلحية ونفسية، الشيء الذي يحد من إمكانيات الإسلاميين في هذا الباب. استهداف التجربة السياسية الإسلامية استطاع حزب العدالة والتنمية المغربي في الانتخابات الجماعية السابقة أن يفوز ببعض الجماعات المحلية (الجماعات الحضرية) في المغرب، والتمكن من تسيير شئونها، ورغم قلة عدد هذه الجماعات فقد كان طموحه كبيرا في أن يجعلها نماذج تنموية مقنعة للدولة والمجتمع على أهليته السياسية في مجال التدبير وكفاءة أطره، وقد استطاع أن يحقق شيئا من هذا في معظم الجماعات التي استقل بتسييرها، لكن المفاجأة كانت كبيرة عندما أقدمت السلطة الوصية على الجماعات المحلية وهي وزارة الداخلية في بداية العام الجاري على إقالة عمدة مدينة مكناس، إحدى كبرى المدن المغربية، المنتمي للعدالة والتنمية بتهم الفساد ومخالفة القوانين المعمول بها في مجال التعمير وغيره، وأيضا تدمير أحد المشاريع البيئية النموذجية في مدينة تمارة المجاورة للعاصمة الرباط، التي يسيرها حزب العدالة، والتي تعد من إنجازاته النوعية في هذه المدينة، وبقرار من نفس السلطة، ودون معرفة الأسباب الحقيقية وراء ذلك.
إن هذه القرارات وغيرها من تصرفات الدولة تجاه حزب العدالة والتنمية بالنظر إلى مضمونها، وفي هذا الظرف القريب من تاريخ الانتخابات الجماعية، لا يمكن تفسيرها إلا بإرادة جهات نافذة في البلد حرمان هذا الحزب من أحد الأوراق الرئيسية في الانتخابات المقبلة؛ وهي إنجازات مستشاريه الجماعيين ورؤسائه في البلديات السالفة، وبالتالي القول بالكفاءة الأخلاقية والسياسية لأطره ومناضليه، حتى لا يتمكن من العودة مجددا لهذه البلديات، أو على الأقل التخفيف من حدة الاتجاه نحوه في هذه الاستحقاقات في مناطق المملكة الأخرى، وتوجيه السلوك الانتخابي للمواطن المغربي. آفاق المشاركة السياسية إن تصرفات الدولة وقراراتها فيما يتعلق بالشأن الإسلامي في المغرب ليست تصرفات معزولة ومرتجلة، بل هي خطوات محسوبة ومحكمة التنسيق، تتوخى تحقيق أهداف واضحة ودقيقة، عنوانها الأساسي التحكم في حجم القوى الإسلامية وامتداداتها، والمغرب من خلال سياسته في معالجة "الظاهرة الإسلامية" التي يتكامل فيها الأمني مع السياسي مع الثقافي والتوجيهي يؤسس لنموذج جديد في ضبط العلاقة مع الحركة الإسلامية، التي تعتبر الوجه الآخر للخصوصية المغربية في هذا الموضوع. إن الطرف المشارك من الحركة الإسلامية قدم كل الأدلة السياسية والثقافية على وفائه لأسس الدولة المغربية، وبالرغم من ذلك فإن السلوك الرسمي تجاهه وسياسة التحجيم التي تمارس عليه تشي بعدم ثقة النظام به، فما هو السر وراء هذا الحذر؟ لا يوجد جواب واضح ودقيق عن هذا السؤال، ولا يستطيع التحليل في هذا المستوى إلا أن يلج لعبة التخمينات التي تتأرجح بين الصواب والخطأ بحسب حجم المعلومات التي تتوفر للباحث، ومادام الحق في المعلومة لا زال بعيد المنال في العالم العربي، وخاصة عندما يتعلق الأمر بالشأن العام والسياسي، فإننا حتما سنكون أمام عدة فرضيات لتفسير هذا الحذر، وهو ما لا نحبذ الدخول فيه في هذه المناسبة. ومهما يكن، فإن هذا السياق بأبعاده السياسية والثقافية والأمنية لن يسمح للتيار الإسلامي الذي يجسده حزب العدالة والتنمية بتحقيق فوز عريض في الانتخابات الجماعية المقبلة، يصل درجة الاكتساح كما حصل في عدد من التجارب العربية، ولكنه يتيح له فرص التقدم في العديد من الدوائر الحضرية دون أن يصبح القوة السياسية الأولى، وبالتالي ما قد يكون جديدا في هذه الاستحقاقات بالنسبة للإسلاميين المغاربة هو تقاسمهم السلطة البلدية أو الجماعية مع عدد من القوى السياسية، ومشاركتهم في تسيير العديد من الدوائر (المحافظات) بنسبة أكبر من المرحلة السابقة. سياق الاستهداف إن الاستهداف الممنهج للحركة الإسلامية المغربية بكل أطيافها وبمداخله المختلفة ينطلق من خلفية سياسية وفكرية واضحة العناوين ومنسجمة، تكثفها وتعبر عنها مقولة "المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي"، التي أصبحت على كل لسان في النقاش السياسي والإعلامي في المغرب، ويلاحظ في هذا المقام تجاوب واضح بين المؤسسة الملكية وأطراف أساسية من النخبة السياسية المغربية سواء الموجودة في الحكومة أو خارجها، بما في ذلك "الوافد الجديد" (حزب الأصالة والمعاصرة)، وفي هذا المشروع يحتل الشأن الديني مكانة محددة ومضبوطة، فهو من جهة من اختصاصات إمارة المؤمنين ومؤسساتها، ومن جهة ثانية لا يُعترف له بدور سياسي واجتماعي كبير. ومن ثم حرج موقف الإسلاميين في المغرب ينبع من هذا السياق، فمن ناحية ينظر إليهم على أنهم نقيض المشروع الحداثي الديمقراطي وعائقا أمامه، ومن ناحية ثانية مجال عملهم هو من اختصاصات إمارة المؤمنين التي لا ترغب في أن يشاركها أحد في تنفيذ أجندتها، الشيء الذي يجعل تيار المشاركة في مواجهة شبه مباشرة مع المؤسسة الملكية التي كافح نظريا وعمليا من أجل التطبيع معها، والقبول بمشروعيتها. انطلاقا من هذا الفهم، فإن من المهام الإستراتيجية العاجلة للحركة الإسلامية في المغرب الدفاع عن الحق في وجود أكثر من مشروع مجتمعي في الساحة السياسية، والحق في المبادرة المدنية في المجال الديني، وبالتالي الاعتراض على تأميمه بالشكل الذي يحد من هذه المبادرة ويقصيها، لكن هذه المهام يُشك في قدرة الحركة الإسلامية على تحقيقها؛ فالخلاصات المستقاة من التاريخ القريب للمغرب تفيد بأن أي مواجهة مع المؤسسة الملكية عادة ما تكون لصالح هذه الأخيرة، وفي أسوأ الحالات تنتهي بلا غالب ولا مغلوب من الناحية السياسية، وتفوت فرص التنمية والنهضة، وبالتالي هل يمكن أن تتبنى الحركة الإسلامية المشاركة "المشروع المجتمعي الحداثي الديمقراطي"، وتناضل من داخله من أجل توسيع نفوذ الدين في الحياة العامة؟ إسلام أونلاين.نت