ليلةَ تنفيذِ حكم الإعدام على الفيلسوف سقراط، تسلَّلَ تلامذتُه ومن ضمنهم أفلاطون إلى محبسه، حاملين إليه خطَّةً للهروب. غير أنَّهُ وللغرابة (والغرابة هنا من منظور العوامِّ أمثالي) رفض! وحين سُئِلَ عن السّبب أجاب: "لقد أدرتُ ظهري لِهذا العالم الدَّنيء". قال ذلك هو الَّذي عاش الحياة الَّتي أراد.. يُجادِل وينتقد ويناقش.. يُنفِقُ وقته في سبيل عِشقه: تعلُّم /تعليم الحكمة. ولو لم يعدموه.. لعاد إلى ما كان عليه، وقد ألقاها كلمة في وجه القُضاة: "أيُّها القضاة، إنَّكم إن أخليتم سبيلي في هذه السَّاعة، فإنِّي سأعود من فوري إلى ما كنتُ عليه من تعليم الحكمة". سقراط.. الَّذي لم يتشبَّث بحياةٍ أنفقها في ما يحبّ. فما بالنا نحن الَّذينَ بلا رسالة.. ولا وجهة.. ولا غاية في الحياة.. نستهلك دون أن ننتج.. ما بالنا نتشبَّثُ بما لا يليقُ التشبُّثَ به! نتشبَّثُ ب"حياة".. أيَّة حياة.. حياةٌ غير معرَّفة.. منزوعة الألف واللام.. منزوعة الهدف.. حيوانية بلا وجهة. !!!" ولتجدنَّهم أحرص النّاس على حياة" وفكرة أنَّنا سنموت ونترك خلفنا كلُّ شيء فكرة مرعبة.. مرعبة فعلا رغم دناءة الحياة، وزوالها ولو بعد حين. رغم المرض والفقر والشر والشيخوخة.. رغم كلِّ مآسيها ودناءاتها.. فإنَّنا نُريدها على عِلَّاتِها، ونخشى الموت ونحن مُلاقوهُ حتما.. مسألة وقت وتوقيت.. فقط! "فلِماذا التَّمادي في التّمسُّكِ بالحياة، إذا لم أكن سأعيش بها إلى الأبد؟!" يتساءل سقراط، قبل أن يترجَّل عنها بفروسيَّة، ويتجرَّع السُّمَّ ليُنهي وجودا عاشه.. كما أراد. في حُمَّى الحياة، نادرا ما نتوقَّفُ لِنُلقي نظرة عمَّا مضى.. لماذا أنا هنا؟!! نحن نجري.. فقط نجري.. حكمنا على أنفسنا بالجري إلى أجل لا ندريه.. وغالبا مكان لا ندريه. ثمَّ.. على شفا النّهاية.. يمرّ أمامنا شريط من العمرِ.. طويل. ويا لتفاهة الجري وراء أشياء تبدو الآن بلا قيمة! يا للعالم الّذي عشنا فيه نصارع طواحين الهواء... لأجل أن نأكل ونشرب ونتزاوج.. وتخرج من أصلابنا ذريّة تستنسخ تفاهتنا... فنحن والحيوان سواء! ما أرخصها من حياة.. إذا عشناها غُثاءً.. وقطيع. دخلناها من باب.. وخرجنا من آخر، دون أن نترك خلفنا حرفا ولا فاصلة. فنحن والعدم.. سواء! "ولتجدنَّهم أحرصَ النَّاسِ على حياة" كأنَّني أقرؤها.. لأوَّل مرَّة.