لا أريد أن يكون هذا المقال مقالا علميا، ملتزما بخطوات ومناهج البحث العلمي، وإنما أريده أن يكون تقاسما لأفكار راودتني وأنا أتابع كارثة مدينة درنة الليبية، حيث جرفت المياه البشر والحجر في دقائق معدودات. فلماذا هذا الموضوع؟ ببساطة لأن المدن التي توجد في سافلة السدود عبر كل أنحاء العالم، قد تصبح درنة في يوم من الأيام إذا لم يتم استحضار جملة من الإجراءات الاحترازية، وتوفير ما يلزم من الإمكانيات لحماية المجال بكل مكوناته. ربطت ما وقع بدرنة بأطروحة لنيل شهادة الدكتوراه سبق وأن ناقشتها في السنوات الأخيرة حول موضوع " تدبير الملك العمومي المائي بين قانون الماء وقوانين التعمير: مخاطر الفيضانات ونجاعة الحلول. المحمدية وبني يخلف نموذجا"، وهي أطروحة حاولت أن أزاوج فيها بين نظرة الجغرافي ونظرة رجل القانون لقضية تدبير المجالات المائية في علاقة مع الزحف العمراني الجارف بكل من جماعتي المحمدية وبني يخلف، حيث قمت برصد واقع المجالات المائية بالجماعتين وأهم الإجراءات المتخذة لتدبيرها، ثم أبرزت بعض المخاطر المحتملة الوقوع، مع اقتراع حلول عملية لتفاديها، أو على الأقل التخفيف من الخسائر المتوقعة في حالة حدوثها. لقد تمحورت الأطروحة حول مجموعة من التساؤلات من بينها: كيف يدبر المشرع المغربي المجالات المائية؟ إلى أي حد تساهم القوانين في تفادي المخاطر المرتبطة بالمجالات المائية أو الحد من المخاطر؟ ما هي الإجراءات المتخذة للحد من المخاطر أو تفاديها؟ أية علاقة بين قانون الماء وقوانين التعمير؟ وفي محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها، اعتمدت العديد من النصوص القانونية، كالقانون رقم 36.15 المتعلق بالماء، والقانون رقم 90-12 المتعلق بالتعمير، والقانون رقم 90-25 المتعلق بالتجزئات العقارية والمجموعات السكنية وتقسيم العقارات، والظهير الشريف رقم 1.60.063 بشأن توسيع نطاق العمارات القروية ومراسيمها التطبيقية، والقانون رقم 11.03 المتعلق بحماية واستصلاح البيئة، والقوانين التنظيمية الخاصة بالجماعات الترابية، والقانون رقم 66.12 المتعلق بمراقبة وزجر المخالفات في مجال التعمير والبناء، والقانون رقم 110.14 المتعلق بإحداث نظام لتغطية عواقب الوقائع الكارثية، وغير ذلك من المراسيم والقرارات والتقارير ذات الصلة بتدبير المجالات المائية والمخاطر المرتبطة بها. سأقتصر هنا على بعض الملاحظات الأولية المتعلقة بأوجه التشابه بين درنة ومدينة المحمدية، فكلاهما مدينتان ساحليتان، توجدان في سافلة السدود وبالضبط في مصب الواد. فإذا كان لدرنة وادها وسديها، فللمحمدية الواد المالح وثلاثة سدود لحمايتها، وهي سد الواد المالح وسد تامسنا وسد واد حصار، فإذا كان السد الأول أقيم في عشرينيات القرن الماضي، وتم استصلاحه في السنوات الأخيرة، فإن السدين الآخرين ارتبط تشييدهما بالفيضانات التي عرفتها مدينة المحمدية، خاصة فيضانات سنة 2002، وما سببته من خسائر مادية. المدينتان عرفتا ثورة عمرانية فوق المجالات التي تستقبل مياه الفيضانات، حيث أنشأت عمارات من 5 أو 6 طوابق أو أكثر، إضافة إلى المرافق الإدارية والمحلات التجارية، والمؤسسات التعليمية والفنادق، والملاعب الرياضية، وغير ذلك من المرافق، التي قلصت المجالات التي كانت تشكل وعاء يحتضن مياه الفيضانات. لكن هل تم اتخاذ الاحتياطات والإجراءات الاستباقية اللازمة لمواجهة مخاطر الفيضانات؟ على مستوى مدينة درنة، تم الحديث في وسائل الإعلام على أن السدين عرفا بعض الإصلاحات التي لم تكتمل بشكل نهائي، وبالتالي فالصيانة لم تكن بالشكل المطلوب. أما بخصوص مدينة المحمدية، فقد اتخذت مجموعة من الإجراءات المهمة بعد فيضانات سنة 2002، حيث تم إنجاز قناة تربط المجرى القديم للواد المالح بالمحيط الأطلسي على مستوى المنطقة الرطبة بين مصفاة سامير وملاعب الكولف الملكي، وإنجاز مجموعة من الحاجز الوقائية، كالحاجز الموازي لشارع الشفشاوني، وشارع سيدي محمد بن عبد الله، وآخر على مستوى دوار الحاج، وحاجز محاذي لمصفاة سامير، كما تمت إقامة 12 صماما لمنع رجوع مياه الواد المالح إلى قنوات تصريف مياه الأمطار، وإعادة تأهيل القنطرة البرتغالية، كما تم أيضا كحث وتنظيف بعض الأجزاء من المنطقة الرطبة، من أجل توسيع المساحة التي يمكن أن تتدفق فيها مياه فيضانات الواد المالح. وعلى المستوى الإجراءات الإدارية تم إحداث ما يلي: *مصلحة تدبير المخاطر الطبيعية بالعمالات والأقاليم: يدخل إحداث هذه المصلحة في إطار حرص وزارة الداخلية على تفعيل التوجيهات الملكية المتعلقة باعتماد استراتيجية شاملة ومندمجة لتدبير المخاطر الطبيعية، وأيضا في إطار ملاءمة تنظيم المصالح اللاممركزة لوزارة الداخلية مع مضامين المرسوم المتعلق باختصاصات هذه الوزارة. تهدف هذه المصلحة، بتنسيق مع مديرية المخاطر الطبيعية، وبتعاون مع جميع المتدخلين، على تنزيل مقتضيات الاستراتيجية الوطنية لتدبير المخاطر الطبيعية، وكذا تتبع تنفيذ برامجها ومشاريعها على مستوى الجماعات الترابية المهددة بالمخاطر الطبيعية. *برنامج تنظيم الإنقاذ في حالة وقوع الكوارث (ORSEC): تتوفر عمالة المحمدية على برنامج لتنظيم عمليات الإنقاذ في حالة وقوع الكوارث، الذي يرتبط بمضمون دورية وزير الدولة في الداخلية المؤرخة في 25 يناير 1983، المتعلقة بتوفير الوسائل من أجل التدخل لتدبير المخاطر بمختلف أنواعها، وقد تم تطوير هذا البرنامج ليواكب المستجدات على مستوى تدبير المخاطر، من خلال اعتماد إجراءات خاصة تتعلق بمخاطر معروفة ومحددة مسبقا. * نظام الإنذار المبكر: في إطار المجهودات التي تبذلها المصالح المركزية لوزارة الداخلية من أجل مواجهة الكوارث الطبيعية، وفي مقدمتها الفيضانات، عملت الوزارة على إطلاق مشروع رائد لوضع نظام مندمج لمخاطر الفيضانات، حيث تم اختيار أربعة مناطق تتوفر فيها الشروط التي تنطبق على العديد من مناطق المغرب المعرضة للفيضانات، وهي مدينة المحمدية وسهل الغرب ومنطقة أوريكا ومدينة كلميم. لقد اتخذت هذه الإجراءات إثر الفيضانات التي شهدتها مدينة المحمدية بعد فيضانات 2002، لكن هل بإمكانها أن تشكل حلا ناجعا للحد من مخاطر الفيضانات التي يمكن أن يتسبب فيها الواد المالح؟ رغم ما يمكن أن يقال عن أهمية المنشآت المنجزة والإجراءات الإدارية المتخذة، التي تدخل في إطار الإجراءات الاستباقية لحماية مدينة المحمدية من فيضانات الواد المالح، إلا أن هناك بعض الملاحظات التي يمكن تسجيلها حول نجاعة هذه المنشآت، وأيضا حول الوضع في المجالات المستهدفة بالفيضانات. *بخصوص قناة تحويل مجرى الواد المالح، فرغم أهمية هذه المنشأة، إلا أنها تعرف غمرا بالرمال على مستوى الجزء المتصل بالشاطئ، مما سيؤدي إلى إغلاقها، وبالتالي منع المياه المتدفقة في اتجاه البحر، بل قد يتغير اتجاهها نحو المصفاة البترولية وجميع المنشآت الكيماوية والطاقية المجاورة للمصفاة، وكذا ملاعب الكولف والتنس وباقي مكونات المدينة السفلى. *تعرف المنطقة الرطبة عملية ترسب نشيطة بسبب حمولة الواد، إضافة إلى النمو المتزايد للأشجار والأعشاب، مما سيشكل حاجزا يمكن أن يؤثر على انسيابة المياه اتجاه البحر. *تواجد جميع الأجهزة التي من المفروض أن تدبر المخاطر في حالة حدوثها وسط المنطقة المهددة بالفيضانات، خاصة مقر الوقاية المدنية، ومقر عمالة المحمدية، الذي توجد به مصلحة تدبير المخاطر، ومقر الجماعة الترابية للمحمدية، ومصالح الأمن الوطني، ومستشفى الضمان الاجتماعي، إضافة إلى مصالح إدارية أخرى، مما سيعرقل عمليات التدخل في الوقت المناسب في حالة حدوث فيضانات. *عدم تهيئة مدخل ملاعب التنس والكولف والمرافق الموجدة بجوارهما بممرات للإنقاذ، فالمتوفر لحد الآن، مدخل وحيد عبارة عن قنطرة بالكاد تتسع لسيارتين في الاتجاهين. *اختفاء المجالات التي كانت تستقبل فيضانات الواد المالح بفعل الحركة العمرانية السريعة التي عرفتها المدينة السفلى، التي توجد بعض نقطها تحت سطح البحر، مما سيجعل اندفاع المياه عبر الشوارع والأزقة بسرعة كبيرة، في حالة حدوث الفيضانات، مما قد يؤدي إلى حدوث خسائر كبيرة. إن الوضعية بمدينة المحمدية، نتاج لعدم وجود تناسق وانسجام بين قانون الماء وقوانين التعمير، ففي الوقت الذي حرص فيه قانون الماء على أن يضع من أولوياته تحقيق تدبير محكم وحكيم للمجالات المائية، وأشرك في ذلك مجموعة من المتدخلين، خاصة المؤسسات المشرفة على تدبير قطاع التعمير، غيبت قوانين التعمير الإجراءات الواردة في قانون الماء، وأيضا غيبت التنسيق الفعال بين وكالات الأحواض المائية وباقي المؤسسات المشرفة على تدبيرقطاع الماء، فيما يتعلق بوضع وثائق التعمير. وأخلص في الأخير إلى القول إن التنمية المستدامة لا يمكنها أن تتجزأ، فهي كل واحد، يتداخل فيه القانوني بالسياسي بالأخلاقي بالإنساني، وبهذه الرؤية التركيبية المندمجة والتشاركية يمكن الوصول إلى تدبير محكم وحكيم ليس للملك العمومي المائي وحده، ولكن لكل قضايانا المجتمعية، ونتفادى درنة بعلامة مغربية.