لا نبالغ إن وصفنا قطاع الصيدلة أو قل بالأحرى سوق الصيدلة، لتواجد أكبر سماسرة المغرب و بْزْنَازَتِهْ في هذا الميدان، بالخرب و العشوائي و الفوضوي على الرغم من وجود قوانين يتساوى، لعتاقتها و عدم مسايرتها للوضع المعيش، وجودها مع عدمه، و حتى القانون الجديد لن يزيد بدوره الطين إلا بلة فعلاوة على أنه جاء متأخرا عن موعده عشرات السنين و عدم تلائمه مع الخصوصية المغربية شأنه في ذلك شأن جميع القوانين المستعارة، هذا القانون برمته لا يصب في نهاية الأمر إلا في مصلحة خزينة الدولة أولا، لكثرة الغرامات الردعية في حالة المخالفات، و ثانيا في مصلحة الصيادلة المزاولين سلفا بينما يحرم فعليا الطلبة الذين لا زالوا على كراسي الدراسة من أية إمكانية لخلق صيدلياتهم مستقبلا. "" إذن يكمن أصل الأزمة و مربط دائها في غياب، و لفترة طويلة جدا و لا زال، أية تشريعات تنظيمية وطنية و عقلانية خاصة تنظم و تسيره هذا القطاع الحيوي و تلائم حاجة القطاع الى الصيادلة مع أعداد الطلبة في الداخل و الخارج، فتُرك حبل الصيدلة على غاربها حتى قبل افتتاح دراسة الصيدلة في كلية وحيدة يتيمة هي كلية الطب و الصيدلة بالرباط في منتصف الثمانينات، و أخليت الساحة بذلك ليغتني أباطرة المتاجرة بصحة المواطنين إغتناءهم القاروني. و كان من جراء غياب تشريعات كهذه سفر الآلاف من الشباب المغاربة (لدراسة) الصيدلة بأوربا الشرقية و تجدر الإشارة إلى أن معظم هؤلاء من الذين لم يتوفقوا في اجتياز مباراة الولوج الى كلية الطب و الصيدلة بالرباط، و الكثير منهم ذهب بباكلوريا أدبية و البعض الآخر ذهب حتى بدون باكلوريا أدبية كانت أو علمية. ونُحسن الظن بالقول أنهم ذهبوا لدراسة الصيدلة في بلدان تباع فيها الرؤوس النووية و تشترى فما بالك بالشواهد الجامعية. و يشهد القاصي و الداني على تدني، إن لم نقل إنعدام، المستوى المعرفي و الكفاءة المهنية لخريجي هذه الدول، و لعل رفضهم إجتياز إمتحان المعادلة لمرتين متتاليتين حتى الآن، رغم وعود الإدارة لهم بشكلية الإمتحان و بأن الكل سيجتازه بنجاح، لأكبر دليل على هذا. و للعلم فقط، تدوم مدة دراسة هؤلاء من 3 إلى 5 سنوات لا أكثر بينما يبقى طلبة الرباط حبيسي كراسيهم الدراسية لسبع سنوات نافذة. عند عودتهم إلى المغرب، و هم يعودون بالمئات بينما لا تُخرج كلية الرباط أكثر من 90 دكتورا صيدليا على أقصى تقدير، كانوا يُعفوْن و بطريقة تلقائية من الخدمة العسكرية بينما تْفرض فرضا على البعض من خريجي الرباط، بعدها لا يبقى أمامهم إلا إختيار أفضل المواقع لخلق صيدلياتهم لأن الدولة لا تطالبهم، كباقي الدول التي تحترم نفسها، بمعادلة شواهدهم بالدبلوم الوطني. إذن 90 خريج من الرباط مقابل 800 إلى 1000 من شرق أوربا و هو أمر يجعل حتى مجرد التفكير في التغيير شبه مستحيل خصوصا إذا علمنا أنهم يتقلدون أقوى المواقع التنظيمية و التمثيلية، و لكم أن تتصوروا ماذا يمكن أن يفعل بهذا القطاع من إشترى شهادته أو من هو بدون كفاءة مهنية و معرفية تُخول له العمل كصيدلي فضلا عن أن يمثل و ينظم المهنة، و أبني على منوال بيتين للشاعر الكبير أحمد مطر يُبكي فيهما وطنه فأقول: الصيدلة يا أيتها الرمداء ترعاك السما أصبح الرْوَاسَة هم الكحّالة فأبشري بالعما إضافة إلى التفوق العددي هناك التفوق المادي و حتى السياسي و لعل أدل على ذلك أن قانون المعادلة صُودق عليه سنة 2002 و لم يطبق أو بعبارة أصح لم يعلن عن بداية تطبيقه إلا سنة 2005. للإشارة فقط حصل 3500 طالب من أوربا الشرقية على رخص مزاولة مهنة الصيدلة بالمغرب في غضون هذه المدة الوجيزة بالضبط (2002-2005) ! وهي أرقام رغم هولها صحيحة و من مصادر مطلعة، بينما المغرب لم يُخَرج منذ بداية تدريس الصيدلة بالرباط سنة 1986 إلا 1200 و بضعة عشرات من الصيادلة! و من المضحكات المبكيات التي يتذرع بها هؤلاء لتبرير رفضهم المعادلة أن ذلك مناف لنص الدستور الذي ينص على أن جميع المغاربة سواسية لذا لا يجب، في زعمهم اللامنطقي و السفيه، فرضها على بعض دون بعض و حملوا صور الملك محمد السادس و صدحوا بالنشيد الوطني و كأننا إتهمناهم بالخيانة أو بالعمالة، وزعم الآباء أنهم نابوا على الدولة في تدريس أبناءهم و أنهم لا يطالبون بوظائف عمومية فهم في غنى عنها بل و سيوفرون فرص عمل أيضا، وكل ذلك مردود عليه : -1الملك ملك للكل، و بنص الدستور الذي يتشدقون به، هو شخص مقدس لا يجب إقحام إسمه في مواضيع خلافية كهذه و إلا كان الأمر تحايلا و مكرا سياسيا لترجيح كفتهم على كفة المخالفين. -2المساواة هو ما ندندن حوله أيضا فنحن نطالب بالمساواة في عدد سنوات الدراسة، و في الخدمة العسكرية، و في الإمتحانات (على الأقل فليجتازوا إمتحان نهاية الدراسة الذي نجتازه نحن)... -3 لا يغرد المغرب وحيدا خارج السرب عندما يفرض معادلة كل الشواهد الأجنبية بالشواهد الوطنية بل إن حتى البلدان التي نتهمها بالبلادة مثل دول الخليج تفرضها وكل البلدان التي تحترم نفسها و مواطنيها تفرضها. -4 ربما ناب الآباء عن الدولة في تعليم أبناءهم و ربما أيضا في شراء دبلومات لفلذات أكبادهم لكن في الحقيقة بأثمان زهيدة جدا فرخص المعيشة في دول أوربا الشرقية ليس بالأمر الخافي كما لا تخفى سهولة الحصول على أي شهادة من هناك لزهادة ثمنها من جهة و لتدني المستوى التعليمي من جهة أخرى و إلا لماذا لم يرسلوهم للدراسة في فرنسا أو بريطانيا أو الولايات المتحدة؟ -5 عندما تستثنى و لو إفتراضا الشواهد الفرنسية مثلا من المعادلة، و هو أمر غير حاصل، يبقى الأمر مستساغا و مقبولا فكعب فرنسا عال جدا في التعليم و مناهجه و المغرب ليس إلا تلميذ بليد في مدرستها. و المقارنة بين شواهد فرنسا، على سبيل المثال لا الحصر، و شواهد أوربا الشرقية لا تصح أصلا لأنه لا مقارنة مع وجود الفارق كما يقول النبهاء وإلا كنت كمن يريد إلحاق الثرى بالثريا. -6 هم فعلا يوفرون مناصب للشغل لكنهم بالمقابل يبقون بلا شغل لأنهم في أغلب الأحيان يبحثون عن عامل ذو تجربة كبيرة ليسير الصيدلية و يخلون بعدها المكان لأنه ليس مكانهم الطبيعي. و لإعطاء كل ذي حق حقه نذكر محاولة البعض من خريجي الرباط التكتل في جمعية أخذت على نفسها عهد تغيير ما يمكن تغييره و الدفاع عن خريجي و طلبة الرباط و مساعدتهم، إلا أنها كانت في واقع الحال مطية للقيّمين عليها للوثب على بعض المراكز الرفيعة في بعض الهيئات التنظيمية ومن ثم، بعد توسيع دائرة المعارف و النفوذ، للإنطلاق في عالم البزنس. لا أحمل هنا مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع لجهة دون أخرى فالمسؤولية مشتركة و يبقى النصيب الأوفر و الأعظم منها ملقى على عاتق الدولة فهي صاحبة الأمر و النهي في أول و آخر المطاف و عليها إيجاد حلول سريعة و عقلانية للوضع، و في سياق الحديث عن الدولة و مسؤوليتها عن هذا التسيب تبقى صرخة المالكي تحت قبة البرلمان، بأن صحة المواطنين خط أحمر لا يُتجاوز، صرخة متأخرة جدا و صرخة في وادي فصحة المواطنين أغتصبت و انتهك عرضها و ”ما لجرح بميت إيلام“ كما يقال فنم قرير العين يا سيادة الوزير. لن أكتفي هناعلى وصف هذا الواقع المرير بل لن يسعني كغيور و متلظي بنار هذا الواقع إلا إقتراح بعض الحلول لتجاوز الأزمة و إن كنت أظن في الصميم أن الوقت قد فات لكن عملا بالقول القائل ” ما ضاع جله ما ضاع كله “ : -1 ملائمة حاجة قطاع الصيدلة بأعداد دارسي الصيدلة في الداخل و الخارج لتجنب أي فائض من الصيادلة مستقبلا. -2 و عوض السماح للمغاربة بالسفر إلى الخارج يجب تدريس الصيدلة في كل كليات الطب بالمغرب بدل الإكتفاء بكلية الرباط وحدها. -3 إن تعذر ذلك يجب وضع شروط دنيا للراغبين في دراسة الصيدلة في الخارج : سنة ثانية تخصص بيولوجي-جيولوجي أو على الأقل باكلوريا علمية...لأن إمتحان المعادلة وحده غير كافي لأنه يعالج النتائج و يتغاضى عن المسببات. -4 ملء الخصاص الكبير في الصيادلة الحاصل بوزارة الصحة و الذي تتذرع في عدم ملئه بضعف الميزانية المخصصة، و ذلك بالزيادة في عدد المناصب المخصصة للصيادلة في إمتحان الإلتحاق بالوظيفة العمومية الذي يتوجب تنظيمه كل سنة عوض كل 3 سنوات أو أكثر. -5 عقد شراكات بين وزارة الصحة العمومية من جهة و بعض الوزارات من جهة أخرى كوزارة الفلاحة و الصيد البحري و الداخلية والخارجية و الجمارك قصد لخلق فرص عمل لخريجي الرباط فكفائتهم العلمية تخول لهم العمل في كل هذه الميادين. بدون تدارك الأمر و مع إزدياد أعداد الصيادلة المعطلين سينفجر الوضع لا محالة و سيصبح من العسير جدا تكهن ما ستؤول إليه الأوضاع، فهل المغرب ياترى مستعد لرؤية أصحاب الوزر البيضاء ينضافون لأفواج المعتصمين أمام البرلمان؟ و هل نحن على مشارف قيام حرب صيدلانية أهلية بين الصيادلة خريجي المغرب و بين خريجي دول أوربا الشرقية؟