من قال إن الظلم حكم القوي على الضعيف؟.. نعم الظلم ظلام وبسط يد، وقتل للإرادة ووضع حد للطموح والحياة.. وهو مر كالصبر (بكسر الصاد)، ونربط الظلم بالصبر (بفتح الصاد)، وهما من شجرة العائلة ذاتها، يشتركان في المرارة تزيد الظلم اشتعالا كمن يصب الزيت على النار لإطفائها. وشتان بين الفعل وما تريد.. الله سبحانه رخَّص للمظلوم بل قل قبل سبحانه من المظلوم زلة سوء الأدب في الدفاع عن نفسه وإظهار مظلوميته: "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول الا من ظلم".. والله سبحانه وتعالى يدفع عن المظلوم، ويحضنه ليجبُر كسر أضلاعه في صدره المكلوم.. دفاعا منه سبحانه ورفع همة : "وعزتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين"... كلمات قوية تجعلنا نطرح السؤال الصريح المليح: من الأضعف؟ الظالم أم المظلوم؟ نعم حسب الظاهر الظالم أقوى.. السلطة قوة.. والقوة دائما إن جانبت الصواب تكسر الجبال على قوتها، وتكسر العزائم وتخرب الإرادات وتحرق دماء بريئة في عروقها، وما أصعبها من لحظات!! دم يغلي فيخرج عرقا ملتهبا يكوي به جسم المفجوع فتتداعى أسرته وأقاربه ومن حوله له بالسهر والحسرة والدعاء: "اللهم اخرج مفجوعنا من هذه القرية الظالم أهلها .. اللهم كن لمفجوعنا سندا ونحن ننتظر ذاك الحين .. قلنا حسب الظاهر فقط.. قوة الظالم في هزيمة مظلومه صاحب النفس الضعيفة القابلة للانكسار التي تربَّتْ على الخوف والصبر في معناه المنحرف، أي السكون والسكوت والخنوع و الخضوع ، والرضى بالقضاء والقدر، لتصير هذه النفس تحت حكم القوي للضعيف .. أما في الأصل والعمق.. فقوة المظلوم في ضبط نفسه ودفعها نحو القمة والتحضر وتفويض أمرها لصاحبها رب القوة والعزة والجبروت.. وهنا تكمن قوتها في هذا التفويض والسند والشعور الفعلي بحضن رب العامين ويد الحنو والرعاية والتمحيص والابتلاء.. فهو القادر سبحانه على نزع ثوب جسد القضية ورياشه، لتبدو للعيان سوءة عارية تُخجل صاحبها ولكن هيهات أن تغطيها أوراق أشجار محكومٌ عليها عبر الزمان أنها تتحثث وتصبح هشيما تذروه رياح التغيير .. والله تعالى "لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".. التغيير سنة كونية واجتماعية ونفسية، وتاريخ الإنسانية يوحي لنا بأن الحاجة إلى التغيير قضية ملحة وذات أهمية لاستمرار الحياة. والتغيير فعل اجتماعي تقوم به الإنسانية، ولاسيما الفئات التي تعاني الظلم والحرمان، من أجل تبديل ظروف حياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية نحو الأفضل، ولأن من أبرز صفات الإنسان أنه كائن متغير.. تغيير عميق وكُلّي ينتشل الإنسان الغارق في شهواته السادر في غَيّه وعبودية نفسه وأهوائه والغافل عن مصيره ومآله. الظلم إن لم يُكسر.. ولن يكسر.. يزيد ثباتا وعلوا وجمالا .. جمال النفس العالية التي عبر عنها ابن ادم المظلوم من قبل أخيه .. والأخوة في أصلها محبة وتقدير رغم ما كان وما يكون، ورحم طينية أو إنسانية.. فقد تستغرب وأنت تقرأ الآية وهي تجمع بين نقيضين: قتل وإخوة "وسولت له نفسه قتل أخيه فقتله".. شيء صعب التحمل والتقبل عند ذوي العقول السليمة.. لذا فالفاجعة تكون أشد وأغلظ فظلم القريب أشد مرارة: وظلم ذوي القربى اشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند ابن ادم الذي حكم عليه أخوه بالقتل في الآية الكريمة التي يعبر فيها "لئن بسطت يدك إلي لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين"... اتهم نفسه بالخوف والخشية من الله، لأن موقف أخيه المُصر على القتل يعبر على أن حبال التواصل والاصغاء عنده مقطوعة، والأمر يحتاج إلى التعريض لكي لا يزيد نار الظلم عنده اشتعالا.. قمة الذوق والأدب في ضبط النفس وكظم الغيظ، وبيان جمالها وقوتها وشدة حرصها على أدب التواصل والحوار مع المخالف المعارض في أحرج اللحظات.. عوض الاستنصار للنفس والدفاع عنها، إنما تدافع بالتي هي أحسن .. قمة الإحسان في كل شيء.. في حوار أخيه الذي انحرف عن جادة الصواب.. وفي استحضار الرقابة الإلهية خوفا ورجاءا وتفويضا لرب ومالك العالمين.. " إني أخاف الله رب العالمين ".. وتفويض إلى الله رب العزة والقوة رب العالمين..