يحكي الكاتب الأرجنتيني خورخي بورخيس، في مقدمة أحد كتبه، عن رجل أخذ على عاتقه مهمة رسم العالم، فانكفأ لسنوات يصور الجبال والبحار والوديان والسفن والمدن والأشخاص والكواكب والخيول... وعندما أحس بالموت يزحف نحوه، وقف يتأمل العمل الذي أفنى عمره في رسمه فاكتشف أن مجموع الأشكال والألوان والخطوط والرسوم، التي عكف سنوات على تصويرها، ليست سوى ملامح وجهه. بالقياس إلى هذا المجاز البورخيسي، تساءلت، وأنا أرى أحرضان يقفز، بقصدية منهجية، عن 21 سنة الأولى من سيرة حياته، ويبدأ الكلام من سنة 1941: هل نجح هذا الرسام في تصوير ملامح وجهه كاملة، حتى نراه كما ألفناه، بالمعنى الذي يقصده سقراط ب: "تكلم حتى أراك"؟ ألم يتسبب أحرضان، وهو يقفز على فصول من سيرته ويقف عند أخرى، في إتلاف آثار خطواته، والنتيجة أننا أضعنا الطريق في آثار خطواته، وفي الأخير قبضنا على شخص غريب لا يشبه أحرضان الذي عرفناه لعشرات السنين بتلقائيته و"بوجاديته" في الكلام والسياسة والرسم؟ (بوجادي، نسبة إلى Poujade، العسكري، صديق أحرضان، الذي أسس "الحزب الشعبي الفرنسي"، ومن اسمه اشتق المغاربة كلمة "بوجادي" التي تعني قليل الخبرة). لنحاول، إذن، النبش حيث سكت أحرضان، عسانا نعثر عن الأجزاء المفقودة من صورته المشوشة في كتابه :"مذكراتي 1942_1961". 1- هل أحرضان أمازيغي.. حرٌّ؟ لم يُفلت أحرضان، طيلة مساره الطويل، فرصة تقديم نفسه بأنه "الرجل الحر" المدافع الأول عن الأمازيغ وثقافتهم.. ولو تطلب منه ذلك أن يسبح، أحيانا، ضد تيار الملك والشعب، كما فعل عندما أشاد بالظهير البربري، ووصف مناهضيه، من رجالات الحركة الوطنية، بالأفاعي. لكن، هل أحرضان أمازيغي في الأصل؟ يحكي عبد الكريم الفيلالي، المؤرخ الذي رحل عنا قبل بضعة أشهر، في الجزء 12 من كتابه "التاريخ السياسي للمغرب العربي الكبير" أن "المحجوبي أحرطان (يكتبها هكذا بالطاء) هو أصلا من الحرّاثين بقصر تلوين بوادي غريس، أسرته كانت من خدم أيت بنقدور.. (الذين) نقلهم السلطان محمد بن عبد الله غضبا عليهم.. (إلى)عين سبيت من أرض زعير ومعهم خدمهم الذين هم أسرة أحرطان أي الحرطاني.. ولما وقعت أسرة أحرطان في قتل نفسٍ رحلت إلى ولماس، مستجيرة، حيث تبربرت ثم ابيضت بالمصاهرة". لا يهمني كثيرا ما ذهب إليه الفيلالي وغيره عن أصول أحرضان، فمنطلقي هو تحديد سارتر، القائم على أسبقية الوجود على الماهية، أي أن وجود أحرضان ومنجزه (أقواله وأفعاله) أهم وأسبق على ماهيته (أصوله وفصوله). لكن إذا كان أحرضان نفسه قد أسس، طيلة تسعين سنة، وضعه الوجودي: العسكري والسياسي والثقافي... على أساس أصوله الأمازيغية بما هو "رجل حر" و "زايغ".. فسيكون من حقنا، على الأقل، أن نتساءل: لماذا قفز أحرضان في "مذكراتي 1942_1961" على الحديث عن أصوله وتنشئته "الأمازيغية"، و"الحرة"، ؟ لماذا - عندما انبرى في مذكراته لتكذيب الزعماء السياسيين- لم يُفرد فصلا لتكذيب المؤرخين الذين نبشوا في الأصول المتأخرة لعائلته وتفاصيل انتقالها وارتباطها بعائلة أخرى، بل وحتى في سبب انتقالها إلى ولماس التي يبدأ التاريخ عند أحرضان منها وينتهي فيها؟ 2- ما علاقة أحرضان بالبادية؟ باستثناء استفادته، عندما كان العنصر وزيرا للفلاحة، من 328 هكتارا من أراضي صوديا بوالماس .. وباستثناء تصريحاته المتكررة: "أنا لست سياسيا.. أنا لست رساما. أنا فلاح".. ارتبط تأسيس "الحركة الشعبية" بالبادية، حتى أن اليوسي "ممثل البربر في الحكومة" قال، سنة 1957، خلال حملة تقديم أحرضان كزعيم للحزب الذي يتخذ اليوم من السنبلة شعارا له: "ليس من مصلحة الشعب أن توكل جميع المسؤوليات السياسية والاجتماعية والاقتصادية لنفر من الرجال يتجاهلون القبائل والبادية" أي الاستقلاليين. وحتى تكتمل صورة حزب القبائل الأمازيغية والبادية، تم تعيين أحرضان وزيرا للفلاحة في واحدة من الحكومات التي ترأسها الحسن الثاني في بداية الستينيات. فما الذي أنجزه أحرضان للفلاحين في هذه الوزارة؟ "اختلس الملايير.. حيث تكونت لجنة من محمد بن عبد الله، ومحمد ابا حنيني، ومحمد أوفقير، ثم خرجت بتقرير مخيف جدا جدا"، يقول الفيلالي. ألا يؤكد هذا ما قاله عبد الله القادري عن أن أحرضان كان ضد تنمية وتأهيل العالم القروي، وأنه كان يواجه من يسعون لذلك بالقول:" واش باغيين تنوضو علينا النحل.. نعطيو للعالم القروي الماء والكهربا ما غيبقى يتحكم فيه حتى واحد". ألم يكن الغرض من خلق "الحركة الشعبية"، كما ذهب إلى ذلك المهدي بنبركة وعلال الفاسي.. هو وضع البادية تحت يد المخزن، والقطع بينها وبين أي خطاب إصلاحي؟ إذا كان الجواب: نعم، أحرضان لا علاقة له بمُرتكزيه: العرقي(الامازيغي) والايديولوجي(الدفاع عن البادية) وأنه فقط كان يَستعمل الأمازيغ والفلاحين لدور وغاية أُسندا إليه ممن "ظلمه يوم أخرجه" من "تاقياديت" إلى السياسة، فكل تصريحاته المشوهة عن زعماء المغرب وقضاياه الكبرى، تجوز، لأن أحرضان سيصبح مجرد إشاعة.