تندرج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ضمن سياق الإصلاحات الحيوية، التي أطلقها جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، الممتدة في الزمان والمكان، والمنوط بها احتواء ومعالجة معضلات التنمية البشرية ببلادنا، والتي تعكسها التصنيفات غير المشرفة للدولة المغربية في مؤشر التنمية البشرية العالمي. لذلك، وانسجاما مع تطلعات الرؤية الملكية، عمدت مصالح وزارة الداخلية، وبشراكة مع باقي القطاعات الوزارية المعنية، إلى تنزيل برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وفق مقاربة متعددة الأبعاد، تشمل على الخصوص، تدارك الخصاص المسجل في باب البنيات التحتية والتجهيزات الأساسية بالوسط القروي؛ من قبيل الماء الصالح للشرب والكهرباء والمسالك والطرق والتعليم والصحة، ومحاربة الفقر والهشاشة التي تطال الأشخاص في وضعية هشة؛ كالأشخاص المسنين، ومرضى القصور الكلوي والإيدز والمشردين والمتسولين وأطفال الشوارع، والنساء ضحايا العنف والسجناء المفرج عنهم.....أو تحسين الدخل والإدماج الاقتصادي للشباب من خلال تحسين قابلية التشغيل، وتشجيع المبادرة الفردية المؤدية إلى خلق مشاريع مدرة للدخل، أو الدفع بالتنمية البشرية للأجيال الصاعدة في مجالات التعليم الأولي والدعم المدرسي والنهوض بصحة الأم والطفل إلى غير ذلك من المحاور الكبرى، التي أطرت و تؤطر عمل المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، خصوصا في مرحلتها الثالثة. ولعل المستجد في هذه الأخيرة، إيلاء عناية خاصة واستثنائية للعنصر البشري كرافعة أساسية لتنمية بشرية شاملة، تمكن من حسن الاستجابة لحاجيات كل الفئات الاجتماعية وبالتالي تقليص الفوارق المجالية والاجتماعية بين الحواضر والقرى. ومنذ دخولها حيز التنفيذ، دأبت التنسيقية الوطنية للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية على إحياء ذكرى انطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في 18 ماي من كل سنة، للوقوف عند مخرجاتها على صعيد كل عمالة وإقليم. وهي ذكرى تتفاعل فيها التجارب والأفكار لملامسة المعالم المرتبطة بهذا الورش الحيوي، وما يقتضيه من نظر استراتيجي، ورصانة تدبيرية وكفاءة تقنية متعددة المنابع، من أجل بلوغ هدف تحسين مؤشرات التنمية البشرية، بوصفها أحد دعامات التنمية المستدامة ببلادنا. ونظرا لتزامن ذكرى هذه السنة مع نهاية المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، فقد اختير لها شعار: "حصيلة إنجازات ومكتسبات المرحلة الثالثة من المبادرة الوطنية للتنمية البشرية"، وفي هذا الإطار، و وفق تقييم أولي، تعد حصيلة هذه المرحلة جد إيجابية تبعث على التفاؤل، فخلال الفترة الممتدة ما بين 2019 و2022 جرى إنجاز ما عدده 25 ألف و500 مشروع ونشاط، بغلاف مالي تجاوز 10.5 مليار درهم، علاوة على هذه الأرقام، عززت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية خلال السنوات الماضية، حضورها على المستوى الترابي، وتموقعها كفاعل مجتمعي أساسي، ومتجدر، موحد ومحفز، وأيضا حاضن للأفكار والمشاريع المبتكرة ذات التأثير الكبير على الفئات المستهدفة، في ميادين توسيع عرض العلاجات الأولية وخدمات صحة الأم والطفل، وتطوير شبكة من وحدات التعليم الأولي بالوسط القروي، والتي تتيح تقديم خدمات مجانية و ذات جودة من أجل إعداد ناجع للأطفال، يسمج بإنجاح اندماجهم و مواصلة تعليمهم في المسالك اللاحقة. وهي نفس الفلسفة التي شملت احتواء كل العوامل الرئيسية للهدر المدرسي، من خلال تجربة بيداغوجيةتقويمية تنبني على المستوى الحقيقي للتلاميذ والتعلمات الأساسية، وإيواء التلاميذ في دور الطالب والطالبة والنقل المدرسي. كما اشتغلت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية خلال هذه المرحلة على تنفيذ عدة برامج تهم ريادة الاعمال والتشغيل والاقتصاد الاجتماعي والتضامني، ومشاريع أخرى، تخص مواكبة الأشخاص في وضعية هشة؛ كالأشخاص المسنين والأشخاص دوي الاحتياجات الخاصة والنساء في وضعية صعبة ومرضى القصور الكلوي والمتشردين والمتسولين ومدمني المخدرات والشباب بدون مأوى والأطفال المتخلى عنهم.... وقد خلفت هذه المشاريع مجموعة من الآثار الايجابية على الفئات المستهدفة، في مقدمتها ارتفاع منسوب الثقة في برامج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ذلك أن جميع المشاريع التي تحمل شارة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية مفعلة، وتقدم خدماتها للفئات الاجتماعية المستفيدة. وثانيا، تقريب الخدمات المنبثقة عن المشاريع الممولة في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من الساكنة المستهدفة، من قبيل دور الرعاية الاجتماعية و التعليم الأولي والنقل المدرسي والخدمات الصحية ...وهذه الوضعية المريحة لم تكن وليدة الصدفة، بل ساهمت فيها عوامل عديدة من بينها الالتقائية بين عمل اللجنة الإقليمية للتنمية البشرية وكل القطاعات الوزارية المتدخلة، والواقعية في برمجة المشاريع، انطلاقا من تشخيص تشاركي ترابي تلعب فيه اللجان المحلية للتنمية البشرية الدور الأساس، وختاما، مراعاة النجاعة من خلال التوفيق بين الأهداف والإمكانيات. وبناء عليه، لا مناص من القول، أن ما جاءت به المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في مرحلتها الثالثة من برامج ومحاور، يندرج في صميم حاجيات وانشغالات التنمية البشرية بالمغرب، بدلالة النجاحات المتتالية التي حققتها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وبدلالة التصنيفات التي وضعتها في مراتب متقدمة على الصعيدين الوطني والدولي، أخرها تقرير النموذج التنموي الجديد، الذي أدرجها ضمن خانة الإصلاحات الحيوية التي انخرط فيها المغرب مع بدايات القرن 21، حيث مكنت إلى جانب برامج أخرى كنظام المساعدة الطبية، وتعميم التعليم، وفك العزلة عن العالم القروي وربطه بالشبكة الكهربائية، وكذا محاربة السكن غير اللائق، من تقليص العجز في المجال الاجتماعي وتسجيل انخفاض ملموس في معدل الفقر. وعلى هذا الأساس، واستنادا إلى مضامين النموذج التنموي الجديد، تندرج المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ضمن إطار تعزيز ما هو قائم على الأقل فيما يخص الفلسفة العامة، والتصورات الكبرى التي تؤطر مراميها في الجوانب المتصلة بتأهيل الرأسمال البشري. فهي تعد من بين الخيارات الاستراتيجية التي يجب أن تستمر على مستوى التصور والطموح بالنظر إلى مزاياها التي راكمتها منذ انطلاقتها في 18 ماي 2005، والتي أكسبتها مناعة حقيقية في مواجهة كل التحديات التي رفعتها في مجالات اشتغالها. وفي إطار هذا الضوء المبدئي العام، يمكن القول، إن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية ستلعب أدوارا حاسمة في تسريع تنزيل الطموحات التي سطرها النموذج التنموي الجديد وفق ما يلي: مغرب الازدهار: تستطيع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية أن تساهم في تعزيز التحول الهيكلي للاقتصاد الوطني من بوابة الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، انطلاقا من برنامج تحسين الدخل والإدماج الاقتصادي، دون أن يقتصر ذلك فقط على الشباب، حيث يجب أن يشمل جميع الفئات الاجتماعية، و أن يتجاوز المنظور الضيق لهذا النوع من الاقتصاد، والذي يتمثل في تعاونيات بسيطة أو مقاول ذاتي، باتجاه مشاريع تعاونية كبرى قادرة على استيعاب فرص شغل كبيرة، مع الحرص على توسيع وتنويع هوامش التمويل المتاحة، وهي تدابير ضرورية لتمكين المبادرة الوطنية للتنمية البشرية من المساهمة في جعل هذا النوع من الاقتصاد دعامة للتنمية، ومصدرا لخلق فرص الشغل داخل المجالات الترابية. ولابد من التأكيد على دور المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في تحسين القابلية للتشغيل، وهو دور أساسي يحتاج إلى المزيد من العناية والابتكار والتنسيق بينها وبين مراكز التأهيل المهني والوكالات الإقليمية والجهوية للتشغيل وإنعاش الكفاءات ضمن منظور استراتيجي شامل، وتوجه التقائي منسجم يوفق بين مخرجاتها وحاجات الاقتصاد الترابي من جهة والاقتصاد الوطني من جهة ثانية. مغرب الكفاءات: مما لا شك فيه أن من بين المجالات التي تشتغل عليها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، تلك التي تتعلق بتحسين مؤشرات التنمية البشرية في مجالات الصحة والتعليم، للارتقاء بترتيب المغرب ضمن التصنيفات العالمية ذات الصلة. ومن ثمة، فإن مساحة الاشتغال ستتسع أمام المبادرة الوطنية للتنمية البشرية للاضطلاع بدور هام في تجويد الرأسمال البشري، وتحديدا في مجالي التعليم والصحة باعتبارهما ركائز هامة لبلورة هذا الأخير. ولأن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية شريك، وتشتغل في الوقت الحالي على بلورة مجموعة من المشاريع البناءة، التي تشمل أساسا التعليم الأولي والدعم المدرسي والمراكز الصحية ودور الأمومة واقتناء معدات طبية متطورة لفائدة المؤسسات الصحية العمومية وتنظيم العديد من القوافل الطبية....ومراعاة لكل هذه المكتسبات، فإن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية تتمتع بجاذبية كبيرة على مستوى تعزيز المجهود العمومي في تحريك آليات الارتقاء الاجتماعي المبنية على تجويد أداء ونجاعة المرافق العمومية التعليمية والصحية. مغرب الادماج: ظهرت المبادرة الوطنية للتنمية البشرية كرد فعل اتجاه مظاهر الإقصاء والتهميش والحرمان التي عرفتها مجموعة من الفئات الاجتماعية كالمرأة والمسنين وأطفال الشوارع ومرضى القصور الكلوي والنساء ضحايا العنف والمتسولين والمشردين، والمختلين عقليا.... وهي نفس الأولويات التي أرساها النموذج التنموي الجديد، والتي ينبغي أن تشكل القاعدة المستقبلية لاشتغال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على أساس الدفع بصفة إرادية ومقصودة نحو استقلالية ومشاركة المرأة، ودعم إدماج وتنمية الشباب انسجاما مع قيم المشاركة المدنية والثقافية والرياضية، وضمان قاعدة صلبة للحماية الاجتماعية، تعزز القدرات والإدماج لفائدة الفئات المحرومة، وتجسد التضامن بين المواطنين وفق مبادئ المساهمات المنصفة. مغرب الاستدامة: يجب تعزيز دور المبادرة الوطنية للتنمية البشرية باعتبارها أحد المداخل الأساسية للتنمية الترابية في بعدها الإنساني والتضامني والاجتماعي، والمساهمة في بناء إطار للعيش الكريم يسمح بتوفير غالبية الخدمات الاجتماعية التي تحفز وتساعد العنصر البشري على الانخراط بدينامية في الحياة العامة سواء كمستفيد أو كفاعل في بناء لبنات العملية التنموية الموجهة إلى جيله أو إلى الأجيال القادمة. علاوة على السعي وراء النمو الأخضر، وذلك في سبيل تحقيق التنمية المستدامة، وضمان الحفاظ على البيئة والهبات الطبيعية. مغرب الجرأة: إذا كان النموذج التنموي الجديد لا يتصور مستقبل المغرب إلا من خلال الارتقاء به إلى مصاف الأقطاب الإقليمية الأكثر دينامية وجاذبية في المجال الاقتصادي والمعرفي، فإن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية توجد في قلب هذا التحدي، ومطلوب منها مواكبة دينامية هذا التحول، والمساهمة بحكامة عالية في الزيادة في سرعة التقدم والرفاه، لأن المجالات التي تشتغل عليها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية هي حوافز موضوعية ووظيفية لانسجام عناصر التحول. ومن هذا المنطلق، وحتى تستطيع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، أن تساهم بفعالية ودينامية ايجابية في تنزيل طموحات النموذج التنموي الجديد، فإنها مدعوة إلى تحديث جهاز اشتغالها فيما يخص الكفاءات وطرق العمل والاعتماد الكبير على الرقميات بالنظر إلى آثارها من حيث تحقيق التحول السريع. كما أن تحسين أدائها يقتضي تبسيط مساطر إعداد وتنزيل المشاريع، ومراعاة الكفاءة والخبرة والفاعلية في تكوين أجهزة الحكامة، وخاصة اللجان الإقليمية والجهوية للتنمية البشرية. مع استحضار ضرورة الارتقاء بأقسام العمل الاجتماعي إلى مستوى مراكز جهوية وإقليمية للتنمية البشرية تدبر – تحت إشراف السادة الولاة والعمال-من طرف كفاءات بشرية تكرس ثقافة الأداء والنتائج. مستفيدة من مزايا الشخصية الاعتبارية التي تضمن لها الاستقلالية القانونية في اكتساب الحقوق والتحمل بالواجبات، وهي قفزة قانونية ستساهم في تجويد وتسريع وتيرة اشتغال المبادرة الوطنية للتنمية البشرية على الصعيد الترابي. وفي الختام، ينبغي التأكيد على أهمية المبادرة الوطنية للتنمية في مسلسل تأهيل الرأسمال البشري، والنهوض بالجوانب الاجتماعية للمواطنين والمواطنات. ذلك أن جائحة "كوفيد19" أبانت عن محدودية القطاع الخاص في احتواء المشاكل ذات المنبع الاجتماعي، وبالتالي نهاية فرضية الحد الأدنى من الدولة الاجتماعية. ولعل هذا ما طرحه النموذج التنموي الجديد، الذي أكد على محورية الدولة في قيادة دينامية التغيير الأساسية. وفي هذا السياق، تعتبر المبادرة الوطنية للتنمية البشرية نموذج مثالي للسياسات العمومية الحيوية، التي يمكن التعويل عليها في مجال النهوض بالرأسمال البشري، شريطة مراعاة المتطلبات المشار إليها سابقا. (*) دكتور في القانون العام/إطار بوزارة الداخلية