في عامه الثالث والتسعين بدنيا الناس، عادَ الشاعر والناقد السوري البارز أدونيس السعودية مجددا، بعد زيارة، في السنة الحالية 2023، كانت لحظة مفصلية في علاقته مع دولة وأيديولوجيا رافقَتها لعقود، قبل أن يقبل دعوتها بعد مرور مياه ومياه تحت جسر المنطقة، أرست قناعات وأولويات ونفَسا آخَر. أدونيس، الذي حلّ ضيف شرف الدورة الثامنة من برنامج إثراء القراءة "أقرأ"، متمّ ماي الجاري، بالظهران في المملكة العربية السعودية، حضر متحدّثا، ومحاوَرا، وعلَما تحلّق حوله المناقشون، والمريدون، وطالِبوا التوقيعات والصور، كما سُلّط الضوء على كُتُبه في مكتبة مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي، التي تضمّ أزيد من 300 ألف مؤلَّف. في هذه الظروف، وعلى خشبة سُعودية، تلا أدونيس رسالته التي تمسك فيها بكون "القراءة والكتابة مسؤولية معرفية وأخلاقية في المقام الأول"، ونبه إلى أن القراءة ليست دائما منتصرة للإنسان وعيشه، قائلا: "منذ نشأت الكتابة أشعلت القراءة أنواعا كثيرة من الحروب"، وتابع: "الكلمة هي أيضا أم للشقاق، كما هي أم للاتفاق. وبينَ أسوأ الحروب التي سببتها القراءة الحروب الدينية (...) ونعرف جيدا أن التباين في قراءة الكتب المقدسة على الأخص نوعٌ من الحروب المتواصلة ثقافيا واجتماعيا، مثل قراءة الواقع سياسيا واقتصاديا". ونبه الشاعر ذاته إلى كون "الواقع مثل الكتاب؛ عالم اتفاق وانشقاق"، قبل أن يصدح بما يبغي تبليغه: "لو كان يعرف الإنسان كيف يقرأ حقّا الأرضَ التي جاء منها ويعود إليها لما كانت عرفَت هي نفسها غير السلام والحرية"، ثم زاد: "اقرأ كلمة مفتاح في الرؤية القرآنية للإنسان والحياة والكون، وباسم هذه الكلمة أشكر أصحاب هذه الدعوة الكريمة، وأحيي الحضور، وأهنئ الأخوة الفائزين"، في مسابقة "قارئ العام" بالعالم العربي. ويرى أدونيس أن القراءة "بطبيعتها فعل خلّاق، والكون كتاب يقرأ ويكتب بلا نهاية"، وفي هذا الإطار يفهم حكمة "قل لي ماذا تقرأ أقل لك من أنت"، وعجُز بيت المتنبي "وخير جليس في الأنام كتاب"؛ إنها "القراءة الخلّاقة؛ قراءة ما يقوله المكتوب، وما يقوله إيماء وإشارة وتلميحا". وواصل صاحب "الثابت والمتحول" شارحا: "المعرفة سلطة لا تتحقق في جانب أساسي منها إلا بالقراءة. الإنسان يحيى ويفكر قارئا، وفي سيرورته هو قارئ في المقام الأول (...) والقراءة في عمقها سؤال أكثر مما هي جواب، والسؤال امتياز الإنسان بين الكائنات، ولهذا ابتكر الأبجدية، ووضع اللغة فنا وعلما، وابتكر هويته وهاويته معا". "تنبه أسلافنا الكبار إلى هذا كله، وأجمعوا على أن الكتاب الذي نقدسه جميعا (القرآن) حمال أوجه، ولا تستفزه القراءة"، وفق أدونيس الذي أضاف أن "القراءة مسؤولية إنسانية ضخمة، معرفيا وأخلاقيا، في مستوى الوجود نفسه، وفن وعلم في آن، فهي فن لمعرفة أشكال التعبير وطرائقه، واقتناء العلاقة بين الكلمات والأشياء والإنسان والعالم". "لكن أخطر ما تكشف عنه القراءة يتمثل في أنها مكان قد يحتضن الصدق كما قد يحتضن الكذب، وقد يكون مكانا لتمجيد الباطل أو الحق"، يورد أدونيس، ولهذا رفض "الكتابة الإيديولوجية التي قد تلغي مفهوم الحقيقة ذاتها، والحاجة إلى الحقيقة"، مذكرا بما مارسته، وتمارسه، من ادعاء "قولها الحقيقة التي لا حقيقة بعدها". اللغة، أيضا، يمكن أن تكون، وفق المتحدث، "مكانا لأبشع أنواع التزوير والتضليل والتحريف"؛ ويمكن "أن تحول الحياة إلى محيط من الظلمات"، و"كم هو خطير فعلُ القراءة، وكم هو خطيرٌ عدمُ القراءة". ورغم كون القراءة "اكتشافا لما يجهله الإنسان"، إلا أن "معظم القراء العرب"، حسب استقراء أدونيس، "لهم نزوع إلى عدم قراءة ما يظنون أنه يخالف قناعاتهم"، وهو ميلٌ "يدفع إلى القراءة من مسبّقات متنوعة إيديولوجية وسياسية، تحرف الكلم عن مواضعه؛ بقراءة كاتب النص انتماء واتجاها سياسيا وفكريا ومذهبيا قبل قراءة النص ذاته"، وهكذا "مهما كان النص عظيما يبدو للعقول الصغيرة، مثلَها، صغيرا أيضا". واسترسل الشاعر ذاته: "نعد بين أقل الشعوب قراءة، ولا يعود ذلك للنسبة العالية للأمية وحدها، وهي خطيرة، بل أيضا إلى أوضاع سياسية من رقابة، وهيمنة سياسية، وانقسامات، وتشرذمات... وضعف القدرة الشرائية عند أصحاب القدرة القرائية، والتخبط والضياع في الترجمة والنشر والتوزيع، تمثيلا لا حصرا". كما ذكر أدونيس، في الإطار نفسه، أن "لكل منا نحن المسلمين العرب، في طفولته وفتوته وشبابه، من ينصحه بقراءة هذا..."، وزاد: "في كل منا يعيش رقيب مسبَّق، لا فرديا فقط، بل على الصعيد الجَمْعي". ومع دفاعه عن "الثقافة الخلّاقة" التي هي "حركة مزدوجة كتابةً وقراءة"، شخّص الشاعر أصول ما نشكو منه ويسمّى "أزمة في الإبداع الثقافي العربي"، قائلا إنها "ليست أزمة ناشئة عن قلة المواهب الخلّاقة، بل ناشئةٌ من ضعف القراءة الخلّاقة، قليلا أو كثيرا". وفي ظل هذا الواقع، تساءل أدونيس مع جمهور الظهران الذي جمع جنسيات دول عربية متعددة: "كيف نكتشف المجهول؟ وكيف نرى اللامرئي؟"، مع تشديده على أن "الإبداع اسم آخر للانفتاح على الآخر المختلف... أليس علينا أن نقول بصدد القراءة على المستوى الكوني: آه أيتها الحرية كم من الجرائم ترتكب باسمك؟!"، ثم ختم كلمته قائلا: "آه يا أيتها القراءة كم من الجرائم ارتُكبت وتُرتَكب باسمك!".