بسم الله الرحمن الرحيم ما زلنا في هذه المقالة الرابعة مع "شاهد الذئب". محمد بنيس يشهد لأدونيس الدكتور محمد بنيس، من مواليد مدينة فاس سنة 1948، وهو محسوب على شعراء الحداثة في المغرب، وله تجارب منشورة في هذا الباب، فضلا عن كتابات في النقد والخواطر الأدبية والفكرية. وهو، في رأيي، من تلامذة أدونيس النجباء، وهو يعترف بهذا ويفتخر به ولا يُخفيه، بل يذهب بعيدا في التعبير عن تبعيّته العمياء لأدونيس، بلا أدنى تردد أو تحفظ؛ طبعا، مستوى التلميذ بنيس هو دون مستوى أستاذه بكثير، بل هو في كثير من كتاباته يظل محصورا في دائرة التقليد، بل لا يكاد ينفكّ عن الرجوع إلى هذا أو ذاك من المراجع الأجنبية خاصة، وفي وجهها الحداثي بصفة أخص، ليؤكد لقارئه أنه من أبناء الحداثة "المُعتَبَرين". ويمكن للقارئ المهتم أن يُراجع، مثلا، أطروحَتَه عن "الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها"، التي نال بها شهادة الدكتوراه سنة 1988، والتي كان أدونيس عضوا في اللجنة التي ناقشتها. التلميذُ المتعلِّمُ يتذكّر يتذكّر محمد بنيس كيف جرّه سحرُ أدونيس، وهو ما يزال في سنته الأولى من القسم الأدبي في المستوى الثانوي، إلى أن يتتلمذ له، ويذوبَ في عالمه. ومما يتذكره أنه حينما تصفح القصائدَ الأولى من ديوان أدونيس "كتاب التحولات والهجرة في أقاليم الليل والنهار"، في سنة 1966، لمح جسدَه يضيع منه، "وينزل إلى سراديب لن يغادرها أبدا"(أدونيس ومغامرة "الكتاب"، مجلة "فصول، خريف1997، ص257). ثم يذكر كيف تطورت علاقتُه بأدونيس خلال ثلاثين سنة(من 1966 تاريخ أول لقاء، إلى 1996، وهو التاريخ الذي قرأ فيه الجزء الأول من "الكتاب")، حتى ارتقت إلى علاقة صداقة عميقة، "صداقة الشعر والحياة معا"(نفسه). ثم يذكر أن "كل عمل جديد كان يصدر لأدونيس، عبر الثلاثين سنة بكاملها، بالعربية أو مترجما إلى لغات أخرى، كان دليلي إلى فرح جديد وسعادة تتسع أنحاؤها وأسرارها."(نفسه) ويعترف محمد بنيس بأنه، في أثناء هذه الثلاثين سنة، التي قضاها في صحبة أدونيس، كان يتابع تجربته "منصتا متعلما"(258). ثُم يقول: "وفي أفق معرفيٍّ كريم كهذا، التقيت بحريتي، بقضاياي وأسئلتي. أدونيس علّمني أن طريق الشعر مفقودة، عليّ اكتشافها باستمرار."(نفسه) ويقول، في شهادة أخرى بالمرجع نفسه: "منذ أكثر من ربع قرن وأنا أنصت إلى أدونيس، وأتعلم مصاحبته. تلك هي الفترة التي تفصلني عن مراهقتي."(أدونيس: الشعر وما بعده، ص368) وفضلا عن الاعتراف بالتلمذة والملازمة لأدونيس طيلة ثلاثين سنة، فإن (محمد بنيس)، في كتاباته، لا يني يتحدث عن أدونيس ويصف تجاربه الحداثية بعبارات ترفعه إلى الأعالي، في مبالغات لامعقولة، ينقصها، في اعتقادي، كثيرٌ من الذوق والاتزان. وهذه جملةٌ تلخص العشرات من أمثالها؛ فهو في شهادته، في أدونيس، يصفه، من بين أوصاف أخرى، بأنه "كونيٌّ منذ لحظته الأولى التي انقاد فيها نحو مساءلة الشعر والشاعر…كذلك هو أدونيس, يبدأ دائما ليبدأ. في البعيد والغريب، حرا إلا من مغامرة الكتابة"(371) أقترح على القارئ المستزيد من هذه الأمثلة من كتابات محمد بنيس أن يقرأ، مثلا، ما كتبه عن "أدونيس ومغامرة الكتاب"، و"أدونيس: الشعر وما بعده"، في مجلة "فصول"، خريف1997، وما كتبه في سياق تعليقه على تجربة "هذا هو اسمي"، لأدونيس، في كتابه عن "الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدلاتها"، الجزء3(الشعر المعاصر)، ص191 وما بعدها. منْ سيّئاتِ التابعِ المقلّد محمد بنيس، في رأيي، نسخةٌ رديئة ومشوهة عن الأصل الأدونيسي، إلى درجة أني أراه، في بعض الأحيان، يصلح مثالا لنماذج المثقفين اللادينِيّين المُغرَّبِين، الذين شَهَرتْهم الدعايةُ الإديولوجية، والإعلامُ الحداثي الصائح الصادح، صباحَ مساءَ، يَصنعُ "النجوم"، ويلمّعُ الأسماءَ، ويرفع الخاملين، وينفخ في الرداءة، فإذا القبحُ جَمالٌ في أبهى صور الإبداع!! ومن السيئات التي قلَّدَ فيها بنيس مثالَه أدونيس، وصار على نهجه حذْوَ القُذَّة بالقُذّة، سيئةُ انتهاكِ المقدسات الدينية، والاجتراءِ على الإسلام ورموزه وحرماته بالطعن والتشكيك والعبارةِ المتطاولة؛ وأقول "السيّئة"، لأن التطاولَ على الدين وانتهاك مقدساته، في ثقافتنا الإسلامية، لا يمكن أن يصنف إلا في السيئات والضلالاتِ، ولكلٍّ ثقافتُه ومرجعيّتُه وقاموسُه؛ وسأكون من المُداهِنين إن أنا خاطبتُ إبليس، مثلا، بلقب "أستاذ"، أو "مفكر"، أو "باحث"، أو"ناشط حقوقي"، أو ما شابه هذا من الصفات والألقاب. أنا مسلمٌ، وهذه هي مرجعيتي، لا أفرضُها على أحد: إبليسُ هو إبليسُ، وكفى. قلت من أمثلة سيئاتِ بنيس، قولُه، في سياق حديثه عن بعض خصائص التجربة الشعرية لبدر شاكر السياب: "وفي الاحتماء بالماء يكون السياب متجاوبا مع بطولته ونبوّته التي لم تعد بحاجة لإله…"، وقوله، في موضع آخر، بصيغة التأكيد: "…إن مفاهيم النبوة والحقيقة والخيال(التخييل) تتفاعل مع مفهوم التقدم في نسج نسق تصور الحداثة…"، وقوله في سياق الفقرة السابقة، وبالعبارة الخبرية التأكيدية نفسها: "…الشعر قولٌ مداره الحقيقة، لا كذب فيه، ما دام الشاعر النبيُّ البطل هو من كتبه…"، وقوله عن الشعر الحداثي عامة: "لقد جاء الشعري، في العصر الحديث، ليعلن عن أحقيته في الكلام باسم حقيقة أخرى للإنسان والأشياء والكون، تختلف عن حقيقة السياسي(والديني الخاضع للسياسي)، تقوده نبوّتُه نحو ما يراه تقدما في ضوء خياله(أو تخييله)". الشعر الحداثيُّ مدارُه على الحقيقة، وهو مطلقٌ له نبوته وحقيقته، كيف؟ ومن قرَّر هذا؟ وبأي حجة ومنطق؟ وفي أيّ تاريخ؟ وبأيّ مسوّغ، من أدب أو فكر، أو فلسفة؟ ويقول عن الشاعر الحداثي: "…والشاعر نبيٌّ له مسؤوليّته التاريخية في ممارسة "الواجب" الذي يلتقي فيه الشاعر العربي المعاصر مع غيره من كبار الشعراء في العالم." ويقول، في السياق نفسه: "…والشاعر الخالق للغة هو النبيُّ." ويصر محمد بنيس إصرارا على تكرار المقولات الفلسفية الإلحادية المحفوظة عن فلاسفة الغرب الملحدين، كمقولة "موت الله" أو "اختفائه"-تعالى الله عما يقول الملحدون. فهو مثلا، يصف الشعر المعاصر بأنه "يواجه الموتَ بعد أن اختفى اللهُ عن الشاعر والعالم العربي واعتقلَه الزمن…".(هذه الأقوال كلّها منقولة من كتابه: الشعر العربي الحديث، بنياته وإبدالاتها) ماذا في مثل هذه الأقوال غير الإسفاف والتطاول والتجديف؟ أين هو الإبداع؟ أين هو النقد الأدبي؟ أين هو جمال الفن عموما؟ أين هي اللغة الشعرية؟ عبارة ساقطةٌ سقوطَ المضمونِ القائم على الوقيعة في ذات الله، تعالى الله وتقدس. الشعر الحداثيٌّ مطلقٌ له نبوّته وحقيقتُه! ماذا يتحصل من مثل هذا الكلام في ميزان النقد والتقويم؟ ملْمَحٌ من حداثةِ بنيس المعطوبةِ لقد بلغت كراهيةُ محمد بنيس للدّين والمتديِّنِين، درجةً جعلته لا يحتمل أن يرى مسلما ملتزما بإسلامه يستفيد من مخترعات العصر ويستمتع بنتاج التكنولوجيا؛ فهو، مثلا، يستنكر رؤية "أصوليِّ يتقن التقنيات المعلوماتية، أو محجّبة تحمل نقالا[يقصد هاتفا محمولا] وتسوق سيارة"(الحداثة المعطوبة، 133) فالمسلم الملتزم بدينه-طبعا، أنا لا أقصد هنا المتنطّعين ، ولا المتشددين، ولا الغالين في دينهم، ولا الذين يبيحون سفكَ الدماء باسم الإسلام، والإسلامُ من أفعالهم براء، وإنما أقصد المسلمَ الذي يجتهد أن يكون عند السمع والطاعة، في الأمر والنهي، على شرعة ربه وهدْي نبينه، صلى الله عليه وسلم-هذا المسلمُ المجتهدُ في طاعة ربه، عند محمد بنيس، ليس من حقّه أن يستفيد من مخترعات العصر، وكذلك المسلمة المتحجّبة، ليس من حقها أن تستمتع بما فتح الله به على عباده، مؤمنين وغير مؤمنين، حتى يتخليا عن إسلامهم، أي أصوليتهم، حسب وصف الدكتور اللاديني محمد بنيس. ونعتُه باللادينيّ فيه، من عندي، لطف وتجاوز، وإلا فموقفُه من الإسلاميين، عموما، وما يرميهم به من نعوت مجرِّحة بغير حق ولا حجة، وما يلصقه بهم من تهم باطلة، وما يختلقه عليهم من جرائم وأفعال شائنة، بلا تمييز، كلُّ ذلك يجعله مسلوكا، بامتياز، في الاستبداديّين الإقصائيّين، ويهبط به إلى حضيض الخصوم السياسيين الذي ليس عندهم، لخصومهم، إلا السب والتجريح والعبارة الفاجرة. وهذا مثالٌ من عباراته، في حداثتِه المعطوبة، في حقّ الإسلاميين؛ يقول عن الجامعات: "...جامعاتنا اليوم عبارة عن مرسْتانات[تأمل عبارة هذا الأديب!]. على المداخل أشرطةٌ تردد كلُّها الدعوةَ إلى التوبة من كل فكر وإبداع[لاحظ إطلاقَ التهم بلا دليل، إلا الإشاعات والموقف المُبيَّت]. على مداخل الجامعات صفوفٌ من المجلدات[يقصد الكتب الإسلامية] التي هي نقيض المعرفة الحديثة. كتب الدعوات الدينية الجاهرة بعذاب القبر وبمنطق التكفير. هذه الجامعات، التي كان الحديثون[من يقصد بالحديثين؟] أنشأوها لتهبّ عاصفةُ العقل والنقد السؤال، تتحول إلى أقبية فيها يتباهى الجاهلون بالجهل[هذا هو الإبداع، وإلا فلا]. طوائف متلاحقة تمنع الجامعةَ عن الجامعة، تمنع الفكر عن الفكر، تمنع الإبداع عن الإبداع. وفي وسط ساحات الجامعات ومدرجاتها مقاصلُ تقطع الرؤوس كلّ ثانية ليرتفع التهليل بالجهل وحده".انتهى من (الحداثة المعطوبة، ص131). وفي حداثته المعطوبة دائما(أقصد كتابَه "الحداثة المعطوبة")، نجده، في مقالة بعنوان "أولياء بدون ولاية"، يصف الاتجاه الأدبي الإسلاميّ بأنه "ردّ فعل جاهل بالأدب، وبالأدب العربي، وبالثقافة العربية..."(126)، وأن أنصار هذا الاتجاه إنما هم من "أهل اللاأدب". وينتهي، في آخر المقالة، إلى أن "الذي يجعل من نفسه الأديب الإسلامي في العالم العربي ليس صديق الأدب، ولا صاحبه، ولا قريبه، ولا حليفه، ولا ناصحه. إنه من خارج الأدب يتكلم، جاهلا بأسس ومعرفة، ونحن ساكتون."(128). لاحظْ، أولا، هذه الجرأةَ في الحكم على الآخر، وهذا التعالمَ والأستاذية المزيّفةَ في النظر إلى مخالفيه ممّن اختاروا غير اختياره، واجتهدوا في غير سبيله، واستندوا إلى غير مرجعيّته وهواه. ولاحظْ، ثانيا، مستوى هذه اللغة والتعابير التي يصوغ بها ضغائنه وسخائم صدره، التي تنزل، في أحيان كثيرة، إلى مستوى الكلام الركيك. سُئل مرة عن الأدب الإسلامي فأجاب بأنه "دعوة إيديولوجية عمياء ومتعارضة مع جوهر الأدب"(من حوار أجرته معه "طنجة الأدبية"، ابريل2010). "رمتني بدائها وانسلّتْ"، مثلٌ عربيّ يُضرب لمَنْ يسبق إلى تعْيير خصمِه بعيْب هو أولى بأن يُعَيَّرٍ به. هل يُعقل أن يصدرَ مثلُ هذا الجواب من رجل يزعم أنه "شاعر"، وأنه "منفتح"، وأنه من أهل العاطفة والذوق والوجدان؟ "شاعر حداثيّ"، عند نفسه، وفي الأبواق الحداثيّة الصاخبة الهائجة المائجة، لسانُه حديدٌ ونارٌ على الإسلاميين من أهل المسجد، وقلبُه حنانٌ ورقةٌ و"شاعريةٌ" ناعمةٌ فياضةٌ للخمر، أمِّ الخبائث، وبالطبع، لشرّابها من روّاد الحانات، بالليل والنهار؛ اقرأوا ما كتبه مؤخرا في مقالة بعنوان "الشعرُ والحبّ والنبيذ"(أبريل2013). نقدٌ فارغٌ إلا من المدح والتبجيل شهادةُ محمد بنيس لأدونيس إنما هي شهادةُ تابعٍ لمتبوعه، وفرعٍ لأصله، وتلميذٍ مَدين لأستاذه ووليّ نعمته "الحداثيّة"، ليس فيها إلا التنزيه والتعظيم، في لغة تسِفّ أحيانا، وأحيانا ينقصها الذوق والعقل والعدل، فإذا هي لغةٌ بينها وبين الاعتدال والحكم المتزن والنقد الموضوعيّ ما بين السماء والأرض. كلّ ما قرأتُه لمحمد بنيس في حقّ "مثله الأعلى" أدونيس، يشبه، في كثير من جوانبه، كلاما صادرا من نرجسيّ يتغزّل في ذاته إلى حدّ السَّرَف والابتذال، فعيُنه لا ترى إلا البهاء والجمال والكمال والتناسق والتناسب وغيرها من صفات المدح والغرور والإعجاب. وهذا مثالٌ مما قاله محمد بنيس عن الكلامِ الذي نشرَه أدونيس بعنوان "هذا هو اسمي"، والذي يبتدئه بقوله: " ماحيا كل حكمةٍ / هذه ناريَ / لم تبقَ آيةٌ – دميَ الآيةُ / هذا بدئي / دخلتُ إلى حوضكِ / أرضٌ تدور حوليَ أعضاؤكِ نيلٌ يجري / طَفَوْنا ترسّبْنا /تقاطعتِ في دمي قطعَتْ صدركِ أمواجيَ انصهرت لِنبْدأْ: نسيَ الحبُّ شفرَةَ الليلِ / هل أصرخُ أنّ الطوفان يأتي؟ / لِنبْدأ: صرخةٌ تعرج المدينةَ والناسُ مرايا تمشي / إذا عبَر الملحُ التقينا هل أنتِ؟ /" انتهى كلام أدونيس. قال محمد بنيس: "هذا هو اسمي ذو صلة مباشرة وفورية بالقرآن[تأمل هذه الجراءة على مقدسات المسلمين، ومعها هذه التمحّلات في النقد والفهم والتفسير والتأويل] وخاصة "أسماء الله الحسنى". تتحول الأسماء إلى اسم. وهو تحوّل يتدخل فيه قانونُ الحوار الذي أساسُه القلبُ والنفيُ والتعارض، أو المحوُ، كما تعلن عنه السلسلةُ الأولى من النص "ماحيا كل حكمة". يتصدى المحوُ للحكمة فتتغير الآيةُ عن دلالتها الدينية. وفي نهاية المقطع الأول تنضاف القدرة إلى المحو، والقدرة هنا مرتبطة بالتغيير، فلم تعد من أسماء الله الحسنى، "قادر أن أغير"."(الشعر العربي الحديث، ج4، ص191) وأتوقف هنا توقفا اضطراريا لأسأل، في دهشة وامتعاض، أين هي رائحةُ الإبداع في عبارة "'قادر أن أغير"، التي تكررت ثلاث مرات في كلام أدونيس، وفي اللازمة التي بعدها: "لغم الحضارة- هذا هو اسمي"، حتى تستحقَ كل هذه الفلسفة من التأويلات والتفسيرات التي تفيض مِنَ الوقيعة في المقدسات؟ بل لست أراها، بالمقاييس اللغوية والأدبية المتعارف عليها منذ عدة قرون، وحسب المعايير المصطلح عليها في نقد فنون القول، إلا شذرة من نثر بارد لا حياةَ فيه من أدب أو إبداع، وإلا فإلى أيِّ معيار، من تعبير مثلا، أو تصوير، أو تخييل، أو معجم، أو وزن، يستند الدكتور محمد بنيس وأمثالُه من النقاد والأدباء المعجبين، في إثبات شاعرية مثلِ هذه العبارات النثرية الباردة، في رأيي وذوقي وحكمي، غير الكلام الإنشائي المدافع عن مقولات الحداثية العنفية الهدمية؟؟ وأسأل، حسب رأيي وذوقي ومكتسباتي الأدبية، وكذلك حسب ما انطبع في نفسي من شعور من جرّاء قراءة كلام أدونيس، الذي احتفى به الحداثيّون أيّما احتفاء-أسأل: أين يمكن أن تكون الشعريةُ في مثل قوله-لاحظْ أنه كلامٌ خال من علامات الترقيم، وقد جعل بعضُهم هذا الخلوَّ فتحا من فتوحات أدونيس الحداثيّة: "أغني لغة النصل أصرخ انثقب الدهر وطاحت جدرانه بين أحشائي تقيأت لم يعد تاريخ ولا حاضر…" وقوله: "سيجيء الرافضون ويجيء الضوء في ميعاده…" وقوله: "لم يعد غير الجنون"، الذي ولّد منه النقادُ الحداثيّون المعجبون فلسفاتٍ وفلسفات؟؟ أين هو الشعر في هذه العبارات؟ وإني لأجد خطابية فاقعةً ممزوجة بمعجم عاميٍّ نابيٍّ تفوح منه روائح الكراهة والنتانة في مثل قوله: "عدْ إلى كهفك التواريخُ أسرابُ جرادٍ، هذا التاريخُ يسكن حضن بغي. يجتر في جوف أتان ويشتهر عفن الأرض ويمشي في دودة عد إلى كهفك واخفض عينيك/". بغيّ، أتان، عفن، دودة،… !!أليس في العربية غيرُ مثل هذه الكلمات للتعبير عن مشاعر الغضب والثورة والرفض إزاء واقع وتاريخ وتراث مسخوط عليه؟ وقوله: "تقدموا فقراء الأرض غطّوا هذا الزمان بأسمال ودمع غطّوه بالجسد الباحث عن دفئه." أليس يذكرنا بعبارة ماركس الحماسية الثورية الشهيرة: "يا عمال العالم، اتحدوا."؟ نثر عادي، وخطاب مباشر يخلو من أي تصوير أو تخييل ذي قيمة في ميزان الإبداع الجميل. وأين هو حق المتلقي من الحد الأدنى من الفهم في مثلِ قوله: "إذا عبر الملح التقينا هل أنتِ"؟ ويستطرد محمد بنيس في تأويلاتِه البعيدة الحَاطّة على المقدس الديني، ابتذالا وتجريحا وامتهانا، إلى أن يقول: "في المقطع الخامس يُصعّد قانون الحوار صرخة تريد (رؤية ما لا يرى)، ليستمر فعلُ المحو "لأمحو ما يجمع بيني وبينه"، ولا يتوانى التحويلُ عن الفعل، فيكون الكتابُ كفنا ويكون الله[أقول تعالى الله وتنزه عن ابتذالات الغافلين وتدنيساتهم] كالشحاذ مآلُه السقوطُ في "تابوته"."(ص192) أين هي معالم النقد أو القراءة المتذوقة في مثل هذا الكلام؟ كل ما هناك دفاعٌ غير مشروط عن الأطروحات الأدونيسية الحداثية في صورتيها النظرية والتطبيقية. تبعيّةٌ عمياء، وخطابٌ حداثيٌّ لادينيّ متطرفٌ حتى النخاع. وبعد، فهل استوعَبْتَ، أيها القارئ الكريم، مقصودي من "شاهد الذئب"؟ في الجزء الخامس القادم، إن شاء الله، خلاصاتٌ أختم بها مقالة "القرد الفنان ونقّاد آخر الزمان". وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.