كان الأستاذ محمد بنيس دائما حاضرا في ذاكرة الشعبة، وكان اسمه يتوارد باستمرار في البرامج الثقافية التي تسطرها كل سنة ، وذلك لحضوره الفاعل والمتميز في بنياتها المختلفة ، وتقدير الجميع له أستاذا ومبدعا وناقدا ومترجما ورجل مبادئ ومواقف مشرفة، ورمزا وعلامة دالة في صرح الثقافة المغربية الجديدة. وقد حاولنا مرارا الاحتفاء به وجدولة تجربته الإبداعية المتميزة ضمن أنشطتنا الثقافية، لكن انشغالاته الكثيرة، وضغوط النظام التربوي الجامعي الجديد الذي اختزل الدرس الجامعي باسم الجودة في أسابيع معدودة وسويعات محدودة ومراقبات محسوبة وكفايات ومهارات معلومة، فوتت علينا الكثير من فرص لقائه والاحتفاء به، وكنا نكتفي بمتابعة إبداعاته وتنظيم بعض الأنشطة لقراءة بعض أعماله، ونمني النفس بأخذ نصيبنا من انشغالاته، وكانت سعادتنا كبيرة هذه السنة لقبوله استضافتنا في هذه الجلسة العلمية التي اختارت لها اللجنة التنظيمية التي أشرفت على هذا النشاط الثقافي عنوان" محمد بنيس مسار شاعر"، وهي جلسة في اعتقادي لا تكفي للإحاطة بتجربة هذه القامة الشامخة التي ميزت تاريخ الشعرية المغربية والعربية أكثر من أربعة عقود،ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جله،ورب صيب نافع خير من وابل حاصب ، ولعل هذا اللقاء العلمي الذي حاولنا أن ننأى به عن التكريم الاحتفالي بإلحاح من الأستاذ محمد بنيس سيكون مقدمة للقاءات أخرى تتناول باقي الجانب الإبداعية في عطاءات هذا الرجل الذي يعد مفخرة لشعبة اللغة العربية وكلية الآداب والعلوم الإنسانية والجامعة المغربية بصفة عامة. إن كل حديث عن الشعر، ونحن نخصص هذه الجلسة لمسار الشاعر محمد بنيس إنما هو حديث عن شعراء مُفْلقين كانوا علامة فارقة في لحظات أدبية مميزة. ومن ضمن هذه اللحظات، ما اصطلح عليه ب "الحداثة الشعرية" التي تعود جذورها إلى الزمن الأول من صدر الإسلام (عصرالرسول والخلفاء) والعصر العباسي باعتبارهما محطتين كبيرتين خلخلتا بنية الفكر العربي بما في ذلك الإبداع الشعري؛ لتجد لها في زمننا المجال الخصب لإحداث ثورة جذرية تجاوزت الخلخلة إلى الهدم وإعادة البناء. وكلما ذُكِرت الحداثة الإبداعية الشعرية العربية ذُكِر أعلام مُبَرزون غَيَّروا مسار وخريطة وشكل ومضمون القصيدة العربية، ويكفي ذكر السياب ونازك الملائكة وأحمد باكثير، وغيرهم في المشرق العربي ومن وَلِيَهُمْ وسار سيرهم وجدد في ضوء ما بَشَّرَوا به؛ أمثال المرحوميْن أحمد المعداوي (المجاطي) ومحمد الخمار الكنوني والأستاذ محمد السرغيني أطال الله بقاءه، وبعدهم ثلة من الشعراء الذين التقطوا الإشارات الإيجابية للتحديث الشعري فأضاؤوا طريق الكتابة على هدى نموذج شعري لم تكتمل ملامحه، ليتجاوزوه بعد ذلك. والأكيد أن كل حديث عن الحداثة الشعرية في المغرب، يكون مُوجِبا لذكر روادها بقدر ما يكون مُوجبا لذكر النُّبهاء من الجيل اللاحق لهؤلاء الرواد، وفي مقدمتهم الأستاذ الشاعر والناقد والمترجم محمد بنيس الذي ارتبطت به الحداثة الشعرية في المغرب أكثر من غيره، وذلك لإلمامه الكبير بخبايا وأصول التحديث، وتجسيده لتجلياته الكبرى والدقيقة. وبعبارة أكثر تدقيقا، فالأستاذ محمد بنيس واكب التحديث الشعري وهو مبدع من خلال التراكم الشعري الغزير الذي خلفه، والبقية تأتي؛ وواكبه وهو ناقد يُنَظِّرُ للكتابة الشعرية العربية عبر عصورها المختلفة في كتابه التأسيسي "الشعر العربي الحديث: بنياته وإبدالاتها"، و ما سبقه وما جاء بعده من كتب اتجهت رأسا إلى معالجة قضايا الشعرية في القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة. فقد ساهم الرجل بوعي ومعرفة في بلورة المشروع الحداثي العربي على امتداد أربعين سنة من الإبداع والتنظير للشعرية العربية الحداثية، وهو أمر تنبه له العرب قبل المغاربة معترفين بالدور التأسيسي لمحمد بنيس في هذا المجال. ويجدر بنا في هذا المقام العلمي أن نورد بعضا مما قيل في حق كتاباته ؛ يقول الشاعر الفرنسي برنار نويل متحدثا عن تجربته ،واضعا إياه مع قامات شعرية عربية معروفة: " أنشأ محمد بنيس إلى جانب أدونيس ومحمود درويش عملاً لا يدين فيه إلا للبحث الصبور عن أصالته الخاصة ليصبح نموذجاً داخل اللغة العربية، وقد أصبح الآن يحمل مستقبلا هو ما يجعل منه عملاً تأسيسياً"1. ويقول الناقد التونسي المميز محمد لطفي اليوسفي محددا روافد الكتابة عنده بعد نظرات عميقة ومتأنية في كتاباته "إن الناظر في تجربة الكتابة عند بنيس سرعان ما يدرك أن الشاعر لا يكتفي بإنتاج النص الشعري، بل ينخرط على نحو جريء، في التنظير للشعر ونقده فيصبح الشعر والتنظير له ونقده رافدين لحدث الكتابة".2 وفي الإطار نفسه يقول عبده وازن واصفا طبيعة وتأصيل الكتابة عنده: "يكتب محمد بنيس بحرية تامة تُجيزُ له مزج الأنواع، وتكسير البنى التقليدية، ويضع النثر في النظام الإيقاعي الحر. فالقصيدة كما تتبدى لديه حقل اختبار مفعم بالعناصر الشعرية وغير الشعرية والتعابير والمفردات المختلفة النابعة من غير ذاكرة ومن غير مرجع.وهي لا تخضع لسياق ضيق ونظام محدد، لأنها تجسد غاية الشعر نفسه في فوضاه الجميلة وهدفه واحتمالاته الكثيرة. وإذا بدا محمد بنيس حديثاً، شديد الحداثة، طريفاً موغلا في طرافته إلى حد "الفانتازيا"، فهو لا يتخلى عن ذلك الطابع التراثي المتواري الذي يسم شعره ومفرداته وتراكيبه وقاموسه الخاص. إنه قادر على نسج العناصرغير المتآلفة أصلاً في سياق شعري واحد،ينفتح على المعاصرة بمقدار ما يلتصق بخلفيته التراثية3". إن الحديث عن الأستاذ محمد بنيس يظل مبتورا إن لم يمتد ليشمل تجربة الكتابة عنده في اتجاهاتها المختلفة والمتكاملة في الآن نفسه، فعلى مر أكثر من أربعة عقود راكم الأستاذ أكثر من ثلاثين عملا موزعا بين الإبداع الشعري الذي جُمع مؤخرا في أعمال كاملة تتكون من مجلدين، وأعمال نقدية تحليلية وتنظيرية فاقت السبعة عشر عملا، قاسَتْ درجة التحولات في بنية القصيدة العربية الحديثة والمعاصرة شكلا ومضونا. وقد قادت هذه الأعمال الرائدة الأستاذ بنيس البحث إلى فتح آفاق رحبة لم يكن الدارس المغربي متعودا على ارتيادها وفق تصور علمي دقيق بآليات منهجية محكمة. ومن يتتبع كتابات الرجل سيدرك أي سند علمي تستند إليه كتاباته؛ سند يمتح من ثقافته العالية التي ترتد إلى عمق الثقافة العربية القديمة باتجاهاتها الكبرى (التقليدية والرومانسية...)، ومن انفتاحه الواعي على الثقافة الغربية بروافدها المتنوعة (قديمها وحديثها)، ومن ذائقته وخبرته ورهافة إحساسه؛ ليبلور كل ذلك إبداعا ونقدا شَكَّلا أرضية صلبة لبحوث عربية ومغربية، سواء ذات الطابع التنظيري للكتابة أو ذات التوجه التحليلي للنصوص. فمنذ "بيان الكتابة" الصادر سنة 1980 الذي عُدَّ محاكمةً للشعرية العربية السابقة عن الحداثة، وإطارا يرسم حدود الكتابة الشعرية الحديثة والمعاصرة والمستقبلية؛ والرجل يجتهد في تنزيل مضامين هذا البيان إن بِتَحقُّقات نصية إبداعية تخترق وجه المسكوك من الكتابة، أو بدراسات وتنظيرات مواكبة للعملية الإبداعية، هادفة إلى تحصين التجربة ومدها بالتماسك اللازم لتقف في وجه الهزات العنيفة التي أصابتها من خصومها بِتَجاسُرِهم عليها؛ ومن مناصريها بعدم امتلاكهم رؤية واضحة وواعية بحدود وآفاق هذه الحداثة، وهو أحد المسوغات التي جعلت الأستاذ بنيس يصف هذه الحداثة في لحظة من اللحظات بأنها معطوبة، لا في ذاتها، ولكن في سياقها وفي بعض رجالاتها الذين لم يتمثلوها التمثل الدقيق، فسوَّغوا للخصوم انتقاداتهم عليها. إن احتضان الأستاذ محمد بنيس للحداثة الشعرية وتمثله لها التمثل الدقيق، جعله خبيرا بتفاصيل العملية الإبداعية والنقدية المرافقة لها، شديد الحساسية من كل تصور أو تحقق نصي إبداعي يَروغ عما بَشَّرتْ به الحداثة لنفسها؛ ولذلك لم يتردد في انتقاد الحداثة المُنْجزَة التي شوهت المشروع التحديثي الكبير؛ وكتابه "الحداثة المعطوبة" أكبر تَجلٍّ لهذا الانتقاد المرير الذي يفصح عن خيبة الشاعر المثقف من انكسارات المشروع الحداثي الذي آمن به واحتضنه ودافع عنه. لقد تحول الحديث في هذا الكتاب من التبشير إلى الإنذار بانهيار كامل للمشروع لأسباب ترتبط بحجم وطبيعة التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها العالم المعاصر؛ وأخرى ترتبط ب "حماة الحداثة" أنفسهم. إن النتيجة التي خلص إليها الأستاذ بنيس في كتابه الذي صور عطب الحداثة تحيلنا على مدى وعي الرجل بالمشروع؛ فهو لم يكن مدفوعا بِفُيُوض عاطفية خالية من المعرفة والتَّبَصُّرِ، بل برصيد علمي يعرف حدود التحرك، ويضبط طبيعة هذه الحداثة التي وعى، في زمن مبكر، أنها حداثات بروافد متنوعة؛ وهو ما يُستفاد من قوله: "نحن جميعا متورطون في الحداثة وقد أصبحت أثرا من آثار جسدنا... وحتى لا نتيه في المفارقات والمطابقات نثبت أن الحداثة حداثات، والمشترك بينها هو أرضية الغرب تقنيةً وفكرا وإبداعا"4. إن كتابات الأستاذ محمد بنيس الشعرية والنقدية بقدر ما خلقت خصوما وأعداء، بقدر ما وطَّنتْ تقاليد البحث العلمي المنفلت من سطوة الاجترار والمطمئن لنتائج محسومة لم يكن من المتاح خلخلتها لولا هذه الجرأة النقدية والإبداعية التي امتلكها الرجل، وأصَّلَها في جيل كبير من طلبته الذين وسعوا من دائرة البحث في ضوء ما رسمه أستاذهم بوعي ومعرفة. كما أن هذه الكتابات عمقت التواصل مع الشرق العربي من جهة، وفتحت زاوية معرفية يُنْظر إليها بإجلال؛ وامتدت غربا في تَواشُجٍ مع التجارب العالمية الكبرى، لأنها تقدم معرفة مسؤولة وحَقيقَةً بأن يُلتَفَت إليها باعتبارها إضافة معتبرة تُغني البحث العلمي، وتُنَمِّي التراكم الإبداعي. وهذا يحيلنا على جانب آخر، لا يقل أهمية في الشخصية العلمية للأستاذ بنيس، وهو تمكنه من ثقافة الآخر المخالف أو المغاير للثقافة العربية. وهو أمر لا يُنازَع فيه نظرا لما قدمه من ترجمات مفيدة تنقل وجه العالم إلى الأديب العربي، تماما كما نقلت أشعارُهُ وجهَ الشاعر العربي المغربي إلى هذا العالَم. فبقدر ما ترجم العديد من الأشعار والدراسات إغناءً للذائقة الشعرية والرؤية النقدية العربيتين، بقدر ما اعتنى الآخرون بإبداعاته فنقلوها إلى الفرنسية والإسبانية والإيطالية والتركية. وبذلك فمحمد بنيس بإبداعاته وتنظيراته النقدية وجه عابر لقارات الأدب بدون تحديد زمني أو مكاني. ويكفي أن نذكر هنا بأن الدراسات والأبحاث التي أُنْجزت حول أعمال الأستاذ بنيس (إبداعا ونقدا) لا يمكن حصرها أو ضبطها، سواء من قِبَل المغاربة أو العرب أو الأجانب. يقول الشاعر الإسباني أنطونيو غامونيدا وهو يقدم ديوان هبة الفراغ في ترجمته الإسبانية، بكلمة فيها من الحميمية والنفَس الشعري نظير ما فيها من حصافة: "محمد، محمد بنيس، أيها الملاك المدهش الذي يدخل شراييني، يجري ك "جمرة اللحظات" ويوقد "صداقة الأضواء": قُدْني بصحبتك إلى "حدائق الأموات"، إلى أماكن النخيل هاته، التي نراها بين "هاويتين هاربتين". ادخُلْ "حفرة صدري" ودلّني على "هبة الفراغ" التي تتهجّج وعلى حدقات عيون الحيوانات وقد كوّنتْها الدموع، تلك الحيوانات التي تتجه صوب أبواب السُّكْر لتطعّمنا بشغف الضوء، هذا الجوهر الذي تعْبره تلك الطيور المؤدية بنا إلى الجنون السعيد، حيث بتؤدة تتأمل الموت"5. إن الإحاطة بشخصية الأستاذ محمد بنيس في مقام كهذا مستحيلة، إذ لم تحط بها الدراسات والأبحاث التي اشتغلت على كتاباته لعقود، لذلك نود أن نختم بالعودة إلى جانب آخر من شخصية الأستاذ، وهي شخصية المكون الذي علم جيلا كاملا أبجديات البحث العلمي بعدما علمهم أدبيات القراءة الفاحصة، وإذ لا يمكن عد ما أشرف عليه الأستاذ من بحوث ورسائل وأطاريح ولقاءات ثقافية، يمكن أن نستحضر الدور الريادي الذي اضطلع به وهو يشرف على وحدات البحث والتكوين في الدراسات العليا، التي خرجت مئات الطلبة الذين صاروا منظرين للشعرية، ومنهم شعراء بارزون أيضا في الساحة الشعرية المغربية والعربية. إن الأستاذ محمد بنيس بما ذكرنا وما لم نذكر (وهو كثير جدا) منارة علمية وإبداعية في الثقافة المغربية والعربية والعالمية. ولا يسعني في نهاية هذه الكلمة المتواضعة التي حاولت فيها لملمة بعض مايسمح به المقام من أفكار في حق الأستاذ محمد بنيس إلا أن أتوجه بالشكر إلى كل من ساهم في هذا النشاط العلمي دعما وتنظيما ومشاركة وحضورا ، وأخص بالذكر السيد العميد الذي سهر على وضع الترتيبات الأولى لهذه الجلسة وتوفير الدعم المادي والمعنوي لنجاحها وعلى افتتاحه أشغالها، والأستاذة يمينة القيراط نائبة السيد العميد على ترحيبها بهذا النشاط العلمي وسعيها إلى توفير الشروط المناسبة لنجاحه ،والسادة الأساتذة المشاركين في هذه الجلسة العلمية على ما بذلوه من جهد في إضاءة الجوانب التي اختاروها في المسار الشعري للأستاذ محمد بنيس، والزميلين محمد اللوزي ومحمود عبد الغني وكافة أعضاء اللجنة التنظيمية على ما تكبدوه من مشاق تنظيمية في الإعداد لهذه الجلسة، ووسائل الإعلام السمعية والبصرية التي هبت لتغطية هذا النشاط العلمي المتميز والحضور الكريم على تلبية الدعوة ومشاطرتنا متعة هذه اللحظة. م. س.، ص. 44.- مجلة الشعراء1 2 - الكتابة في مدار الجحيم، مجلة الشعراء ( رام الله)، ص. 262. 3 - محمد بنيس يكتب الشعر خارج وظيفته التاريخية، جريدة الحياة، بيروت، 29 يونيو 1989. 4 - مجلة الكرمل - قبرص، العدد 12 لعام 1984م. 5 - El Don del Vacío , Traducción de Luis Miguel Cañada ediciones del oriente y del mediterráneo, Madrid, 2006 p.5.