جدّي المحترم.. أكتب لك من فوق جبل بوكافر، هنا حيث السماء قريبة تُلمس باليدين. أنا الآن يا عزيزي آكل الشواء. فخد طري لجَدْيٍ صغير، كان يتخيّر بنفسه الأعشاب الطبية العطرة في براري إِمسَاعْدْن، قبل أن يدبحه رجل من صاغرو بيدين خشنتين ويضعه فوق نار هادئة... ولا يُنغّص علي مُتعتي سوى أنني كلما قضمت من الشواء إلا وأتذكر أنك كنت في هذا المكان بالضبط في فبراير 1933 جائعا محاصرا 42 يوما. وأنت جائع و زملاؤك من المجاهدين يتسللون ليلا ليجمعوا ما فَضُلَ عن دواب المستعمر من قمح وشعير ليسدّوا الرمق. أشلاء الجثت تستحوذ على مجالك البصري، ورائحة الدواب التي نفقت بفعل شظايا القذائف ( لَانْسَارْ نْ لاَنفاضْ) تزكم الأنوف. أنت أدرى مني بهذا المكان.. جُبتُ صباحا منخفض إِمساعدن، وصَعدتُ إلى جبل بُويتبِرْنْ ( على فكرة يا جدّي، ما يزال الحمام يحط فوق هذا الجبل). وزوالا زرت المكان الذّي قُتل فيه الجنيرال بُورنازيل، و تتطلّعت إلى قمة أُولْ نْ أُسِيرْ. و لم يهنأ لي بال حتى جلستُ في الشّعبة حيثُ قُتلت عدجو موح، و المْرْس نْ أبُوعْلي.. فَقَدْتَ أهلك وأصدقاءك في هذه الشعاب، وأنا مُحاط بهم في نفس المكان. شاب يحكي لنا جميعا نُكتَ ممتعة فنضحك، وآخر يقدم لنا الشاي وآخر يطوف بيننا بقضبان من لحم وسلة خبز. أقضم من قطعة اللحم ، لكنني لأني كلما تذكرت معاناتك أنت والمجاهدين في هذي الربوع إلا وأتجنب النظر في المرآة! أخشى أن أنظر وتظهر لي أنياب ذئب، ويُغّلف وجهي بشعر مصاص دماء.. أنت كُنت تشرب ماءً مختلطا بدماء الدواب والبشر فقط لتحافظ على حياتك فوق الجبل المحاصر، وأزيز الطائرات يقض مضجعك، لا تنام ولا رغبة لك في النوم، وأنا في نفس المكان أشرب ماءً معدنيا. أنت وَصلتَ إلى هذا الجبل كحل أخير، على دابة متعبة، خائفا أن تتصيدك طلقة طائشة ولو من "صديق".. تحمل على دابتك زوجتك وطفلك الصغير ذو السّنة ( والدي) وزادك، قمحك وتمرك و كرموسك المجفف، وبضع عنزات ضامرات تجرهن خلفك، استجابة لنداء الجبل، الملاذ الأخير، كما يسميه جورج سپيلمان. وأنا وصلت هذا المكان على سيارة فارهة مُكيفة، كل ما أحمله آلة تصوير والكثير من الماء المعدني، وخلفي رجال كُثر بسيارات كثيرة سيتكلفون بكل شيء. مع ذلك يا جدي، كلما شعرت بالتعب، وأنا لا أحمل أي شيء أقتنع أنك كُنت رجلا بمعنى الكلمة، وأن الرجال والنساء الذين يقاتلون فرنسا المسلّحة في هذه الشعاب كانوا أبطالا حقيقيين.. أزداد شعورا بالفخر بأنني من صلبك، لقد كنت هنا تجوب هذه الربوع على قدميك، والطائرات تتربصك من كل جانب. ولا مكان تختبؤ فيه سوى أَسْكَّاوْرْ ( مخبأ).. ما كُنتَ تدافع عنه غدا بالنسبة لي تافها بلا قيمة، لكني أقدّر تضحياتك، ولا أعتبرها ملكا لي وحدي، بل لكل المغاربة، تماما كما أنسب لنفسي تضحيات الخطابي والحنصالي ومربيه ربّو وزايد أوحماد النڭادي وغيرهم.. الدنيا حظوظ يا سيد جدّي.. عدوك في 1933 هو صديقي الآن ! الشيطان صار ملاكا ! لعبة الأدوار يا جدّي. والرجال الذين يدفعونكم للقرطاس والبارود صاروا بعد استشهادكم قُيادًا يجالسون الفرنسيس ويأثمرون بأمره، وأرسلوا أبناءهم للدراسة في فرنسا و تقلدوا بعدها المناصب الحساسة المهمة في الدولة، وأنت تُدفَنُ في مقبرة منسية، لا أحد يتذكرك سواي، وأحفادك ما يزالون يضربون الكُرفي.. السيد جدّي المحترم انت هناك في دار البقاء، ولا أعرف إن كانت مبادؤك قد ضمنت لك مقعدا مما كُنت تعتقده هنا ودافعتَ عنه أم لا، لكني سأخبرك أن " الخونة هنا هم من ظفر بالمناصب والمراكز، وأن النياشين والمداليات تلمع في صدور الأوغاد وأكتافهم، ولا ذكر لتضحيات الأبطال ".