هذا المقال محاولة لنقد الأستاذ محمد بوديك في اليوم ال 20 من يناير2014، نشرت هسبريس مقالا للأستاذ محمد بوديك يشتكي فيه ندرة أمثاله ويصور معاناة ومكابدة وتمزق المثقف الحر بالبلدان الإسلامية وكثرة الناس المنقادين وراء الفقهاء والمتحدثين باسم الدين. أعتقد أن نمط السيد بوديك في التفكير والكتابة مشهور ومتفشي بالأوساط المغربية والعربية كما كانت مشهورة كتب ومقالات المرحوم محمد عابد الجابري المليئة بدعوات للتعقل ولإعادة النظر في التراث دون التخلص من القيود الداخلية العريقة في القدم التي يقبع تحت سلطتها كل مفكر عربي مسلم. يدور مثل هذا الفكر في حلقة مفرغة منذ ما يسمى عصر النهضة وما تلاها من فكر يصف نفسه بالتقدمي بينما هو طواف مع الطوافين منذ أربعة عشر قرنا أو يزيد، إذ الطواف -كما نعلم من- طقوس العرب قبل الهجرة. فمطلع مقال السيد بوديك رائع للغاية إذ يقدم لنا جملة للمعري نفهم منها أن الشرائع (اليهودية أو الإسلامية مثلا) صبت الحقد في قلوبنا وعلمتنا العداوة. وقد يكون من المفيد ملاحظة أن الفرق المختلفة تضيف بغضاء داخلية لبغضاء سببها الشرائع. وتوخيا للنزاهة الفكرية ننبه إلى أن الشرائع السماوية ليست الوحيدة التي من شأنها أن تربي على الحقد وأن تؤجج الكراهية بين البشر حيث لا تقل الإيديولوجيات عنها عنفا وصداما ودموية. لكن مقال السيد بوديك لا يسائل المشرع الأول وإنما يكرر لعبة المثقفين الذين ينهالون، عوض ذلك، على المفتين وعلى الفقهاء ويأسفون لانخراط الشعوب وراء أهل الحل والعقد المتحدثين باسم السموات. وكأنما لا يفرق مفكرنا (ومفكرونا التقدميون) بين بني البشر من جهة وبين القرآن والتوراة والأناجيل من جهة ثانية. هذا هو مكمن الخطأ الفادح الذي يكرره التقدميون، خطأ لربما غير متعمد، لكنه يشكل منطلقا لخصومات ولعداوات لا حاجة للشعوب العربآمازيغية والمسلمة إليها. تناطحات وصدامات يمكن تجاوزها بسهولة إن تحلينا بالصدق وتخلينا عن التقليد للسلف، الديني والتقدمي على حد سواء. فالتقدميون، كخصومهم، مستعدون لتقديم فدية من بني جلدتنا لكي لا يسائلوا الشرائع ومشرعها. فطقوس التقدميين هذه أصبحت اليوم تقليدا يردد على مدى السنين والصفحات، طقوس لا تختلف عن تقديم الأضحيات الإسلامية، واليهودية قديما، تضرعا بآلهتهم المتعالية واتقاء ل... ؟ اتقاء لماذا يا ترى ؟ كلنا نعرف الجواب ولكن لا نريد تسميته باسمه المرهب : اتقاء للعنف ولزبانيته، ذلكم القهار، الجبار، المهيمن، المسيطر والمتكبر على بني البشر، المسالمين منهم والمشاغبين على حد سواء. وما نعاينه أو نعايشه اليوم بالشرق الأوسط يجبرنا على الاعتراف بأن العنف (بزبانيته) على كل شيء قدير : يحيى من لم يصبه ويميت من لم يواته الحظ وتواجد بالطريق أثناء غضبه وتخبطه الأعمى. والطقوس التقدمية تبدأ دائما بقصيدة المدح للأخلاق الإسلامية، كما يفعل ذلك السيد بوديك بمقاله وكما فعل ذلك الأستاذ الجابري بكتاب ضخم خصصه لإنقاد وليس لنقد الفكر الأخلاقي العربي. إلا أن كل إنسان عاقل وصادق، يعلم أن ذلك المدح تملق ونفاق وتكرار لمراوغة أنفسنا وإخواننا المسلمين، مراوغة لم تعد ذات فائدة سوى اتقاء مواجهة العنف الذي تربينا عليه ورضعناه مع حليب أمهاتنا المسلمات منذ أن انتهكت حرمة ضمائرنا جميعا بأمر مشهور كان المؤسس لتوسعنا ولنفوذنا التاريخي : “كتب عليكم القتال وهو كره لكم”. نعلم إذن أن أخلاقنا القويمة والفطرية تكره العنف وقتل أو بتر أو جلد أو تعذيب بشر مثلنا، ونعلم كذلك أن مقاصد الشريعة كانت وما زالت تهدف إلى إجبار أجدادنا (وإخواننا المسلمين المجاهدين اليوم) على الدخول في معاملات تمج له أخلاقنا الإنسانية. رغم هاته المعرفة البديهية لما هو أساسي ولا أخلاقي في تكوين هويتنا وعقليتنا، ما فتئ التقدميون يتشدقون بالمقاصد ويتوارون لتحمل مسؤولياتهم وراء السلف من أمثال الشاطبي. وكأنما لا يعلمون أن الخلق الطيب هو ألا نتقاتل وألا نقاتل إخواننا في البشرية مهما كان اعتداءهم، علينا إذ الجواب الصائب والمصيب هو أن نلجأ ونجنح للسلم والمسالمة كما فعل ذلك رجال أقوياء العزيمة من أمثال غاندي ومانديلا. أما الشعوب الإسلامية فإنها للأسف الشديد لم تتبرأ بعد من الأمر بالقتال وما نصت علية شريعة اليهود الأولية : "السن بالسن والعين بالعين" ... والموتى بالموتى إلى أن يفنى آل إبراهيم وموسى. فمتى سننتقد المشرع الأول يا إخوة عوض تقديم فقهاء وأئمة وحكام ووعاظ ومفتين من بني جلدتنا كأكباش، فدية لجبننا الفكري واتقاء للعنف المؤسس لهوينا جميعا؟ متى سنغير يا ترى ما بأنفسنا ليستجيب القدر لتطلعاتنا ؟ متى سنتعقل لنفرق بين البشر من جهة والأفكار والعقائد والإيديولوجيات من جهة ثانية ؟ وليفهم القارئ أن هاته المغالطة الفكرية عتيقة ومتكررة، أود التذكير بقولة مشهورة لمحمد عبده : "ذهبت للغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، ولما عدت للشرق وجدت مسلمين ولم أجد إسلاما". فهذا المفكر يقدم إذن مديحا للإسلام وينتقد معتنقيه فيمدح المسيحيين، أو الغربيين إن شئنا، دون أن يذكر المسيحية أو التخلص من قبضة الدين لدى الأوروبيين. مراوغة فكرية رائعة ووجيزة لا ينتبه لسحرها المفكرون العرب. وكأنما ليس للإسلام وحرمان المسلمين من انتقاده أي تأثير على معاملات المسلمين ! بات إذن من اللازم علينا تسمية الأشياء بأسمائها وأن نضحي بالعقائد والإيديولوجيات وأنماط التفكير وألا نمس أبدا بأعناق أو بكرامة إخواننا من البشر، خاصة منهم المعتنقين للإسلام. عندها سنؤسس لأخلاق تستحق أن نسميها أخلاقا. في انتظار ذلك يجب أن يعلم الجميع أن لا أخلاق لنا بل لنا محرمات تأسيسية تقيدت وتتقيد بها كل المجموعات البشرية، المتدينة منها وغير المتدينة، من أهل التوحيد ومن أهل الحرية والتعددية في الاعتقاد. فكل دارس لعلم الإنسان يعرف أن تلك المحرمات تقيم طابوهات تدور كلها حول قضية القرابة والنسل : “من يتناكح مع من ؟”. أما الدولة بالمعنى الحديث للكلمة فهي تلك التي تبدأ أولا بالتخلص من تحريم التناسل فيما بين الطوائف المختلفة عقائدها والقضاء على الطائفية الدينية داخل الأسر والعائلات. أما ما يعتبره الإسلام غلطا كانتهاك للأخلاق الطيبة ليس أكثر من خجل مرضي أمام التعري وأمام جمال الأجساد. جمال رسمته ونحتته وصورته شعوب عديدة بكل براعة واعتبرته فنا بينما لم يتح الإسلام الفرصة لمعتنقيه كي يميزوا بين رسم ونحت للجمال من جهة وإبراز للعورات وتصوير للفحشاء من جهة ثانية. فالفرنسيون مثلا يفرقون بين العراء الجميل والعراء الفاحش (ٍٍbeau et porno) إذ يسمون عورة ما نسميه نحن الأعضاء التناسلية ومخرج البراز ولا يعتبرون باقي الأجساد كعورة. إن المعضلة الفكرية العربية الإسلامية تتلخص إذن في قصة تمييز آدم للأسماء كلها كي يحرم توها من حقه في تمعن الأمور ومتابعة التمييز بقوة عقله وبالتالي مساءلة المعلم والمشرع والمميز الأول.