يُعد الإنترنت مجالاً حيويا للحكومات والمجتمعات في القرن الحادي والعشرين، وقد عززت جائحة "كوفيد19" هذا التصور، حيث أصبح الاتصال عن بُعد مكوناً لا غنى عنه لمجتمع حديث فعَّال في مجالات التجارة والتعليم والأنشطة الاجتماعية. لكن، يُلاحظ تزايد أنشطة الرقابة الاجتماعية والمعلوماتية من قبل بعض الأنظمة السلطوية (كالصين وروسيا) من أجل إحكام قبضتها على الموارد الطبيعية وسلاسل توريد التكنولوجيا والمعلومات. في المقابل، تسعى الأنظمة الديمقراطية إلى تعزيز حوكمة الاتصالات السلكية واللاسلكية. في هذا السياق، يتساءل كليت جونسون، زميل أول في برنامج التقنيات الاستراتيجية بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية "CSIS" في تقرير بعنوان "الضرورة الاستراتيجية للقيادة الأمريكية في شبكات الجيل القادم" حول مستقبل شبكات الاتصال اللاسلكي، ومدى إمكانية وصولها إلى الحرية والابتكار بدلاً من الاتجاه إلى مزيد من المراقبة والسيطرة. كما يناقش التقرير عدداً من التوصيات ذات الصِلة، والمستمدة إلى حد كبير من التجارب الأمريكية والأوروبية المتباينة مع الجيلين الثالث والرابع من شبكات الاتصال: "3G" و"4G". أما عن الجيل الخامس لشبكات الاتصال اللاسلكي "5G"، فيوفر بدائل مقبولة للتحديات الأكثر إلحاحاً في العالم، بدءاً من معالجة قضايا تغير المناخ وإمدادات الغذاء إلى الذكاء الاصطناعي "AI" والرعاية الصحية. ومن ثم يُمكن لهذه التقنيات أن تجعل العالم أكثر ازدهاراً وسلاماً وصحة. فإمكانات شبكة الجيل الخامس تفوق الشبكات السابقة، ونتج عنها ابتكارات وكفاءات لم تكن متصورة، فضلاً عن أنها أكثر أماناً من الأجيال السابقة من الاتصالات اللاسلكية. ريادة أمريكية لشبكات "5G" يفترض التقرير أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تُعد – في الوقت الحالي- مركز الابتكار الذي يعمل بتقنية "5G" حول العالم، حيث تمتلك واشنطن قاعدة من الطيف الترددي القائم والذي توفره البنية التحتية لشبكات "4G" و"5G" الأكثر انتشاراً. وذلك نتيجة حرص صانعي السياسة الأمريكية على التمويل الهادف إلى سد الفجوة الرقمية، كالاستثمار في الصناعات والتقنيات اللاسلكية من خلال الإطار التنظيمي الوطني للاتصالات اللاسلكية. فسياسات السوق الحرة أسهمت في حصول الولاياتالمتحدة على هذه الريادة، ولاسيما في ظل المنافسة القوية بين شركات الاتصالات الأمريكية، والتي تتبنى مناهج متنوعة للاستفادة من بنى "5G"، من أجل تقديم أفضل الخدمات وجذب المزيد من العملاء. ويحذر التقرير الولاياتالمتحدة من محاولات الصين لإتاحة المزيد من الطيف المرخص ونشر شبكات الجيل الخامس دون اعتبار للحقوق الفردية أو التجارية. فعلى نقيض الولاياتالمتحدة، تعزز الصين وروسيا قوة الاتصال بالإنترنت والصناعات التي يحركها الإنترنت، لكن ليس كأدوات للابتكار والتعبير والمنافسة بل للسيطرة على مجتمعاتها وكذلك للممارسات التجارية المضادة للمنافسة. من ثم، فعلى الولاياتالمتحدة الاستفادة من القيم الديمقراطية للسوق الحرة، كالمنافسة العادلة والقوية وحرية الفكر والتعبير لتعزيز شبكات الجيل الخامس والجيل القادم. وكذلك، الاستفادة من هذه الشبكات لتعزيز القيم الديمقراطية. فمثلما استطاعت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها حماية ديمقراطيات السوق الناشئة في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، عليهم الحفاظ على ذات الالتزام بمبادئ ديناميكية السوق الحرة، والابتكار، والمنافسة العادلة، وحماية حقوق الإنسان في البيئة التكنولوجية الحالية. ويرى التقرير ضرورة الحفاظ على الإطار الوطني الأمريكي القائم على الابتكار، والذي يُعد – وفقاً للتقرير- الطريق إلى المستقبل الذي تسود فيه القيم الديمقراطية والسوق الحرة، حيث تستطيع الولاياتالمتحدة أن تنفذ نموذجاً مقنعاً لكيفية استغلال الإمكانات الكاملة لشبكات الجيل الخامس بطرق تعزز حقوق الإنسان والحريات الفردية والأسواق الحرة التنافسية والحكومات الديمقراطية التمثيلية. وتُجدر الإشارة إلى أن التنافس مع الصين وروسيا وغيرها في مجالات الابتكار التكنولوجي ومواجهة التحديات العالمية الرئيسية يعكس استمرار الولاياتالمتحدة، وليس تهديدها. إذ يدفع ذلك التنافس المبتكرين والشركاء في الولاياتالمتحدة إلى إثبات قدراتهم والتفوق على أولئك الذين يسعون إلى تعزيز السلطوية من خلال الاستفادة من التقنيات والخدمات التكنولوجية. ويفترض التقرير أن العالم يشهد منافسة تاريخية بين النموذج الديمقراطي للسوق الحرة للولايات المتحدة وحلفائها والنموذج السلطوي للقيادة والسيطرة للصين وروسيا. حيث يعتمد الفريق الأول على قيم الابتكار والمنافسة وحرية التعبير ذات المنفعة المتبادلة. وفي المقابل، يعتمد الفريق الثاني على "الأبطال الوطنيين" – ممن تهيمن عليهم الدولة – والاقتصاد العالمي التجاري، والسيطرة الاجتماعية القائمة على الذكاء الاصطناعي. وفي سياق متصل، وبالرغم من أن أوروبا استطاعت أن تقود شبكات "2G" حول العالم إلا أن مكانتها تراجعت إلى حدٍ كبير فيما يتعلق بشبكات "3G" و"4G"؛ بسبب المتطلبات التنظيمية المنقسمة والتي فرضت قيوداً على التقنيات المتطورة بأوروبا. بالتالي، فاستمرار ريادة دولة ما في أي جيل للشبكات اللاسلكية هو أمر غير حتمي. وبناءً عليه، بالرغم من قدرة الصين الحالية على نشر "5G"، إلا أنه ما تزال هناك فرصة أمام الولاياتالمتحدة وحلفائها لقيادة الجيل الخامس، عن طريق الاستفادة من تجارب تعثر أوروبا في "3G" و"4G" وأوائل "5G". سد الفجوة الرقمية تزامناً مع ظهور جائحة "كوفيد19" في بداية عام 2020، ارتفعت شبكات الولاياتالمتحدة وحافظت على مرونتها إلى حدٍ كبير، نتيجة زيادة الاستثمارات الخاصة، حيث اعتبرت "اللجنة الاستشارية للاتصالات الأمنية الوطنية "NSTAC" أن الاستثمارات في البنية التحتية لتكنولوجيا المعلومات وخدماتها مكنت شركات التكنولوجيا من استيعاب ضخامة حجم المستخدمين نتيجة زيادة الاعتماد على الفضاء الإلكتروني خلال الشهور الأولى من الجائحة. فوفقاً لمركز أبحاث "بيو" " the Pew Research Center"، يرى 90% من الأمريكيين أن الإنترنت كان ضرورياً أو مهماً أثناء الجائحة، فيما يتعلق بالعمل والدراسة والرعاية الصحية وغيرها. الجدير بالذكر، أن الولاياتالمتحدة لديها استثمارات فدرالية تاريخية هادفة إلى معالجة الفجوة الرقمية وتلبية احتياجات الاتصال للأمريكيين. ففي عام 2020، أنشأت لجنة الاتصالات الفدرالية "FCC" صندوق الفرص الرقمية الريفية بقيمة 20.4 مليار دولار لتحسين الاتصال ونوعية الحياة في المجتمعات الريفية. كما تشرف اللجنة على البرنامج التجريبي للرعاية المتصلة، وهو عبارة عن إعانة قدرها 100 مليون دولار مستمدة من صندوق الخدمة الشاملة لتغطية تكاليف معدات الشبكة وخدمات المعلومات اللازمة لتوفير خدمات الرعاية الصحية المتصلة للمرضى. علاوة على ذلك، خصص الكونغرس أكثر من 65 مليار دولار لتمويل نشر البنية التحتية للنطاق العريض والوصول إليها. وبلغ إجمالي الاستثمارات الخاصة في صناعة الاتصالات اللاسلكية في الولاياتالمتحدة أكثر من 130 مليار دولار على مدى السنوات الخمس الماضية. وفي عام 2020 فقط، استحوذت واشنطن على 18% من إجمالي الاستثمار اللاسلكي العالمي. بل وتُعد الولاياتالمتحدة أول دولة تنشر "5G" تجارياً على نطاق واسع بفضل سياسات السوق الحرة في صناعة الاتصالات اللاسلكية. ومع ذلك، لا يمكن للولايات المتحدة أن تأخذ هذه القيادة كأمر مسلم به. التجربة الأوروبية كانت هناك ريادة أوروبية واضحة وقت شبكات الجيل الثاني، فاستفاد كل المستهلكين والشركات التي تتخذ من أوروبا مقراً لها من هذه الريادة. لكن مع نهاية حقبة الجيل الثاني، تراجع الاستثمار التجاري في شبكات الجيل الثالث الأوروبية المحلية بسبب التكاليف العالية لأسعار تراخيص الأطياف الجديدة، فذهبت الريادة في مجال الاتصالات اللاسلكية إلى اليابان. مع ظهور الجيلين الثالث والرابع، تسبب الهيكل التنظيمي والسياسي المعقد في الاتحاد الأوروبي في إبطاء نمو الاستثمار للشبكات الخلوية. فعلى سبيل المثال، هناك 27 جهة تنظيمية محلية منفصلة في دول الاتحاد الأوروبي، مما يعني وجود "خليط من اللوائح المختلفة" التي قللت من الابتكار وأخرت الوصول إلى المزيد من الطيف المرخص. وفي سياق متصل، خلص تحليل أجرته "GSMA Europe" إلى أن السياسات التي تركز على الإدارة المباشرة للأسعار بدلاً من الترويج والاستثمار والابتكار أدت إلى تفاقم أوجه القصور في توافر الطيف المرخص في أوروبا. بالمثل، فشلت أوروبا أيضاً في تمويل نشر "5G"، حيث أدى الإطار التنظيمي المجزأ في الاتحاد الأوروبي واللوائح التنظيمية المعقدة ونقص الاستثمار في الجيل الخامس إلى تراجع القارة مقارنة بالولاياتالمتحدة على سبيل المثال، حيث يتوقع "GSMA" أنه بحلول عام 2025 سيكون 2% فقط من سكان الولاياتالمتحدة لا يمتلكون إمكانية الوصول إلى تغطية "5G" في مقابل أن ما يقرب من ثلث سكان أوروبا سيفتقرون إلى التغطية. على جانب آخر، تتمتع الولاياتالمتحدة بوجود سوق قاري وتنافسي ومنظم على المستوى الفدرالي، مع توافر العشرات من شركات النقل الإقليمية والمحلية التنافسية نتيجة الجهود التشريعية والتنظيمية المنسقة وتبني نهج مرن لاستخدام الطيف. فعلى النقيض من النموذج الأوروبي، استفادت الولاياتالمتحدة من وجود إطار تنظيمي وطني متناسق مؤيد للابتكار وداعم للاستثمار الخاص. متطلبات استمرار القيادة حتى تتمكن الولاياتالمتحدة من الحفاظ على قيادة "5G"، يجب عليها الاستمرار في دعم الابتكار القائم على السوق الحرة، والإطار التنظيمي والسياسات الداعمة للاستثمار؛ للتغلب على هياكل القيادة والسيطرة المقيدة للحكومات السلطوية. لتحقيق هذه الغاية، توصي هذه الورقة بالحلول التالية: أولاً، يجب على الولاياتالمتحدة تعزيز النشر السريع لشبكات الجيل الخامس من خلال الاستمرار في توفير طيف النطاق المنخفض والمتوسط والعالي، وتعظيم تأثير قانون الاستثمار والوظائف في البنية التحتية "IIJA". ثانياً، يجب على الولاياتالمتحدة أن تمهد الطريق للابتكار المستقبلي عن طريق إعادة تأسيس لجنة الاتصالات الفدرالية "FCC"، وتعزيز الاستخدام الفعال للطيف الترددي، ومواءمة أفضل الممارسات لنقل البيانات عبر الحدود، واستمرار الإنفاق الفدرالي لدعم نشر "5G". ثالثاً، أن تعمل الولاياتالمتحدة مع حلفائها لإثبات أن ديمقراطيات السوق الحرة التنافسية أفضل وسيلة لتعزيز تقنيات الاتصالات المبتكرة والموثوق بها عن طريق تعزيز الثقة في شبكات الاتصالات وسلاسل التوريد، ودعم الشراكات مع الدول ذات التفكير المماثل، والعمل على وضع معايير دولية للابتكار التقني في القطاع الخاص علاوة على حماية حقوق الملكية الفكرية. ومن أجل دمج القيم الديمقراطية في نسيج تكنولوجيا الجيل القادم، تحتاج الولاياتالمتحدة إلى أن تكون في طليعة تطوير هذه التكنولوجيا وتوفيرها، خاصة وأن الصين تركز على نشر المزيد من الطيف المرخص له وتنمية قطاع "5G" الخاص بها للتصدير. وكما استطاع الحلفاء حماية ديمقراطيات السوق بعد الحرب العالمية الثانية، يجب عليهم الآن تطبيق نفس الالتزام بمبادئ السوق الحرة، والابتكار، والمنافسة العادلة، وحماية حقوق الإنسان في التكنولوجيا الحالية. ونظراً لقدرة "5G" على مواجهة التحديات المعاصرة الرئيسية، من الضروري أن تواصل الولاياتالمتحدة ريادتها في هذا المجال في السوق العالمية التنافسية. فبالفعل، تقود الولاياتالمتحدة حالياً الاقتصاد العالمي الناشئ "5G"، بفضل الاستثمار الخاص الضخم، والمنافسة القوية في السوق الحرة، والإطار التنظيمي المرن المؤيد للابتكار. لكن في المقابل، تسعى الصين إلى اللحاق بالولاياتالمتحدة. بالتالي، يجب على واشنطن تبني الخطوات المقترحة لتعزيز النشر السريع لشبكات الجيل الخامس، وتمهيد الطريق للابتكار المستقبلي، وإثبات أن ديمقراطيات السوق الحرة تعزز تقنيات الاتصالات المبتكرة والموثوقة بشكل أفضل. (*) مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة