راكم المغرب تقدما ملموسا في الحد من الفقر المدقع أو ما يسمى بالفقر الغذائي، الذي يعبر عن "حالة من الجوع" ناتجة عن عدم توفر الحد الأدنى من الحاجات الغذائية الضرورية للأفراد، التي تمكنهم من الاستمرار في الحياة ومزاولة الأنشطة اليومية الاعتيادية. وحسب إحصاء 2014، لم تتعد نسبة الفقر المدقع (الغذائي) بالمغرب حوالي 1.3% سنة 2014، 0.3% حضريا و2.9% قرويا، هذا ما يجعل هذا النوع من الفقر غير ذي أهمية من الناحية الإحصائية. لكن في ظل الظروف الحالية المتسمة بلهيب متصاعد للأسعار، وانهيار مستمر للقدرة الشرائية لفئات عريضة من المجتمع، ربما سيصبح مؤشر الفقر الغذائي معيارا أوليا وأساسيا لتقييم حالة الفقر بالمغرب، وستزداد بلا شك أهميته في الدراسات سواء الإحصائية الكمية أو الاجتماعية الكيفية، هذا ما يشكل نكسة تنموية حقيقية، تجعل من السعي الجاد لتحقيق أهداف الألفية وخاصة الحد من الفقر، مجرد سراب لا يدرك. يرتبط واقع الفقر الغذائي بحالة الأمن الغذائي، علاقة متضادة ومتناقضة، فغياب الأول يعد بلا شك مؤشرا على حضور الثاني، بينما يؤكد غياب الثاني حضور الأول، هذا ما يعبر عنه تعريف الأمن الغذائي والذي يمكن اختزاله في قدرة كل رب أسرة على ضمان الغذاء اليومي لأفراد أسرته بعيدا عن هواجس وتخوفات الحرمان من الغذاء الضروري (بغض النظر عن نوعيته) والوقوع في حالة الجوع القهري. يدفعنا الحديث عن جدلية الفقر – الأمن الغذائي، إلى النظر في حجم الدخل والإنفاق للطبقات الفقيرة والطبقات المهددة بالفقر، فإذا تأملنا واقع الدخل سنجده بلا شك ثابتا لا يتغير، فعلى سبيل المثال لم يطرأ أي تغيير على أجر المياومة في البناء أو الزراعة مثلا، إذ يتراوح في الغالب ما بين 70 و100 درهم، يتفاوت طبعا حسب المجال، نفس حالة الاستقرار تطبع أجور الطبقات الوسطى على اختلافها. إلا أن جمود الدخل تقابله مطاطية الإنفاق الغذائي خصوصا، إذ شهد هذا الأخير خلال فترة 2022 – 2023، تمددا واضحا على حساب باقي النفقات غير الغذائية، جراء موجة التضخم وارتفاع الأسعار، وخصوصا أسعار الخضروات الأساسية ذات الاستهلاك الواسع، فعلى سبيل المثال تراوحت أثمنة هذه المنتجات خلال شهر مارس الموافق لرمضان المعروف بطابعه الاستهلاكي، ما بين 13 و20 درهما بالنسبة للبصل، وما بين 8 و13 درهما بالنسبة للبطاطس، وما بين 7 و12 درهما بالنسبة للطماطم، وبالنسبة للحوم الحمراء فقد تراوحت ما بين 75 و100 درهم وما بين 16 و22 درهما بالنسبة للحوم البيضاء. توضح الأرقام التي تم استحضارها مدى استفحال الأزمة الغذائية -الاجتماعية بالمغرب، خصوصا بالنسبة للطبقات الهشة وكذلك للطبقة الوسطى الدنيا، فكيف يمكن لأجير يتقاضى 80 درهما يوميا مثلا، أن يؤمن حاجياته الغذائية وغير الغذائية؟ في هذه الحالة يصبح رهان رب الأسرة هو ضمان "الخبز" فقط والإفلات من الجوع القهري، هذا ما عبر عنه الكثير من الباعة والمياومين بعفوية في حديثهم عن التطور السلبي لمستوى المعيشة. في ظل هذا الواقع يصبح الإنفاق على التعليم أو الصحة أو السكن أو حتى الادخار ترفا مبالغا فيه وضربا من الخيال. اتسعت قاعدة هذه الأزمة لتشمل الطبقة الوسطى الدنيا التي يقل دخلها الشهري عما يناهز 5500 درهم، فحتى هذه الفئة لن تسلم من لهيب الأسعار، حيث ستضطر إلى ضخ أموال إضافية في ميزانية التغذية، على حساب باقي النفقات غير الغذائية، ولا شك أن هذا التحول أثر على الرواج الاقتصادي العام، إذ قلص من الإقبال على الخدمات والسلع غير الغذائية، خصوصا وأن هذه الفئة تضم قاعدة عريضة من الأسر، مما يجعل من أزمة الهشاشة والفقر، بمثابة كرة ثلج تتدحرج بسرعة لتضم فئات جديدة إلى طبقاتها الفقيرة-المفقرة. وبالتالي فثورة الأسعار هذه ستؤدي في نهاية المطاف إلى حرمان الكثير من الأسر من أدنى الحاجيات الغذائية الضرورية، مما يدفع بها إلى أسفل عتبة الفقر الغذائي (المدقع)، وهي التسمية العلمية المتداولة لحالة الجوع وما يرتبط بها من سوء التغذية، لذلك سيكون المغرب على موعد مع التراجع في القدرة على مواجهة أشد أنواع الفقر وأكثرها فتكا بالمجتمعات، لأن حالة الجوع تقتل التفكير والإبداع وتغيب البعد الثقافي للإنسان، ليصبح كائنا حيا فقط. إن استمرار ارتفاع الأسعار بالمغرب هو في الآن نفسه استمرار لاتساع دائرة الفقر ومعاناة الفقراء في سبيل الانفلات من الجوع، ومما لا شك فيه أن لهيب الأسعار هذا سيزيد من حدة الاحتقان الشعبي الذي يعد بدوره تهديدا حقيقيا للسلم الاجتماعي. وسيشكل أيضا نقطة سوداء في المسار التطوري الذي يطبعه المغرب على المستوى الدولي، نقطة ستظهر ظلالها القاتمة بلا شك في نتائج الإحصاء القادم للسكان والسكنى لسنة 2024.