السلفيون والانتخابات إن الحديث عن موضوع السلفيين والانتخابات صعب جدا؛ لسبب بسيط وهو أن مفهوم الانتخابات وغيره من المفاهيم السياسية غير موجود في قاموس الحركات السلفية، بحيث لا تولي هذه الحركات أي أهمية مقارنة مع ما يظل يشغل اهتمامها وهو الدعوة، بما هو عمل نضالي يتوخى إصلاح العقائد الدينية للعامة وممارساتها الشعائرية بشكل بعيد عن التأهيل والإعداد السياسيين. "" هذا الحديث صعب أيضا؛ لأنه على الرغم من رفض الانتخابات فقد عثرنا مع ذلك على بعض السلفيين الذين ترشحوا في الانتخابات باسم حزب العدالة والتنمية في مدينة مراكش المغربية، ويكمن وجه الصعوبة هنا في أن تلك الحالات كانت معزولة جدا، ولا تسمح بقول الشيء الكثير حول هذا الموضوع. سنتحدث في البداية عن تمثل السلفيين للسياسة وما يدور في فلكها من مفاهيم مثل الانتخابات، أي كيف يعي السلفيون عبر كتاباتهم أو عبر ممارساتهم الفعل السياسي؟ وهل هناك رفض أو قبول للسياسة؟ وهل تساير الممارسة السياسية للسلفيين ما تصرح به أيديولوجيتهم؟وفي مجال آخر، ستتم متابعة بعض الحالات التي ترشح فيها السلفيون في مدينة مراكش؛ لمعرفة الشروط التي حكمت هذه المشاركة والظروف التي مرت من خلالها. تمثل السلفيين للسياسة يستغرق الإصلاح الديني جميع نواحي الخطاب السلفي؛ بحيث تعتبر الدعوة الدينية مدخلا لكل إصلاح في هذا الخطاب، ومن شعاراتهم المختصرة لهذا المبدأ شعار "التصفية والتربية" ويعني بها السلفيون تصفية العقيدة الإسلامية من كل ما هو غريب عنها، وتصفية الفقه الإسلامي من الاجتهادات الخاطئة، وتصفية كتب التفسير والفقه من الأحاديث الضعيفة والمكذوبة، ثم تربية الناس على العقيدة الصحيحة الموافقة لعقائد السلف الصالح، وهجْر غيرها من العقائد التي ابتُدعت بعد مرحلة الصحابة. إن استغراق الخطاب السلفي في المكون العقائدي لا يجعل منه خطابا سياسيا بامتياز؛ حيث يعتبر هذا الخطاب أن التحرك السياسي في أي مجتمع إسلامي لا يحكم بالشرع ستكون له آثار سيئة قبل تحقيق هاتين القضيتين المهمتين: "التصفية، والتربية". إن السلفيين لا ينكرون الاشتغال بالعمل السياسي، إلا أنهم يؤمنون بالتسلسل الذي يعتبرونه شرعيا ومنطقيا في آنٍ واحد، يقول أحد السلفيين: "نبدأ بالعقيدة، ثم بالعبادة، ثم بالسلوك تصحيحًا وتربية، ثم لابد أن يأتي يوم ندخل السياسة بمفهومها الشرعي؛ لأن السياسة معناها إدارة شئون الأمة"؛ ليبقى العمل السياسي عند السلفيين من اختصاص أهل الحل والعقد، "أما أن يشتغل من ليس بيدهم حل ولا عقد، ويشغلوا جمهور الناس بالمهم عن الأهم ففي ذلك صرف لهم عن المعرفة الصحيحة". لكن إذا كان من المستحيل الحديث عن خطاب سياسي لدى الاتجاهات السلفية، فإن الامتثالية السياسية لدى السلفيين تشكل مبدأ ناظما لفعلهم السياسي؛ إذ تختصر السلفية فعلها السياسي في هذا المبدأ، وتبعد من خلاله كل حديث مفصل عن السياسة بكل ما يتفرع عنه من قضايا من اهتمامها النظري. تظهر هذه الامتثالية تجاه السلطة بوضوح في خطاب محمد المغراوي، رئيس جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة، من خلال رفضه لأشكال الاحتجاج الاجتماعي المناوئ للسلطة، مثل الإضرابات، والمظاهرات، وكل من شأنه أن يحدث أي خلل بأمن الوطن، مرددا أن منهج الدعوة السلفية هو الاستماع الدائم لولي الأمر، فجهادنا -يقول المغراوي- ليس بالإضراب، ولكن بالتقرب إلى الله. وحتى يضمن تحقق مبدأ الامتثالية يرفض المغراوي اشتغال أتباعه بالسياسة في جميع مستوياتها، مبررًا رفضه هذه المرة بما يحدثه ذلك من إخلال بالأصول السلفية، يقول: «الاشتغال بالسياسة باب للفتنة، ويجر إلى التنازلات غير المقبولة، التي هي بمنطق المذهب السلفي خيانة للأصول، فأصحاب الجماعات الأخرى كان لهم استعداد مبدئي للاشتغال في السياسة، والانخراط في التوفيق العلمي؛ نظرا لمرجعياتهم المتعددة، والتي أحدثت لهم خللا في المنهج والعمل، ولذلك غاب عندهم المبدأ الموجه». وقد سرد لنا المغراوي عددا من المواقف التي تبين امتثاليته للسلطة، ومن ذلك عدم تقديم أي أحد من رواد دور القرآن إلى المحكمة بملف جنائي طوال تاريخ الدعوة السلفية حتى في عز أحداث 16 مايو 2003، ومن ذلك أيضا عدم مشاركة المغراوي في أي انتخابات، وعدم ورود اسمه في أي سجل انتخابي. إن القيادة الصارمة التي يمارسها المغراوي على تنظيمه مكنته من درء أي نتوء عن مبدأ الامتثالية، بحيث يتم طرد كل فرد يظهر عليه بعض النزوع السياسي غير الامتثالي، بل أكثر من ذلك يتكلف المغراوي شخصيًّا بإبلاغ دوائر الشرطة عن أي تابع خرج عن خط دار القرآن الامتثالية والتي يختصرها في ضمان الأمن والحفاظ عليه داخل جمعيته، وفي وسط الشرائح الاجتماعية التي تتبع له. ومن خلال الخدمات التي ظل المغراوي يقدمها للسلطة وجد هذا الأخير في السلطة حليفا إستراتيجيا، كما تعلم من خلال هذا التحالف كيف يفاوض السلطة على مطالب جزئية تتمثل في السماح لجمعية الدعوة التي يترأسها بالنشاط الديني المعزول. لقد كان أهم شرط تطلبته السلطة من السلفيين هو تلافي الحيز السياسي وكل ما من شأنه الدخول في علاقات مع أطراف سياسية أخرى خصوصا مع الإسلاميين، وبالمقابل وضع المغراوي أهدافا سياسية صغيرة ومطالب تواتي جمعيته السلفية، ففي مقابل امتثاليته للسلطة، وعدم التعامل مع الحساسيات السياسية الأخرى، طالب بحيز ضيق تمارس فيه جمعيته أنشطتها الدعوية. هكذا يتضح إذن أن من وراء مبدأ الامتثالية مارس المغراوي السياسة في مجال غير مرئي وغير مصرح به في الخطاب، فهناك تحالفات مستترة نسجها المغراوي مع المسئولين المحليين في مراكش ومع مختلف تراتبيات السلطة بحث من خلالها الحفاظ على الوجود المادي لتنظيمه، إنها أهداف سياسية لا يفصح عنها الخطاب ولا يظهرها، لكنها موجودة بكثافة على صعيد الفعل اليومي. ومن ضمن الخدمات السياسية التي قدمها المغراوي للسلطة نظير السماح له بالدعوة: تبخيسه الدائم لقيمة الشركاء داخل الحقل الديني، إلى حد أنه يؤسس وجود تنظيمه (جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة) على خلفية محاربة هذه الجماعات، واعتبارها امتدادا للفرق التي عرفها التاريخ الإسلامي، إن لم تكن أشد خطرا، لذلك فالجمعية تعتمد في إذكاء عدائها لهذه الجماعات على نفس المعجم الفقهي التقليدي؛ مما يضفي على موقفها هذا رمزية فائقة. ومن أهم تنظيمات الحقل الديني التي تحظى بهجوم السلفيين: الإسلام الحركي متمثلا في الحركات الإسلامية؛ لما قامت عليه من "انحرافات عقدية ومخالفات لمنهج الدعوة القائم على أولوية مهمة الإصلاح العقائدي والتربوي وهامشية الإصلاح السياسي مقارنة مع هذه المهمة العبادية". نستنتج إذن أن قوة التيارات السلفية بالمقارنة مع الإسلاميين المشاركين سياسيا هي قدرتها على التعبير عن آراء الأغلبية من الناس غير النشطين سياسيا، إنها تتحرك في مجال منفصل عن ذلك الذي يتحرك فيه الإسلاميون؛ وذلك لصالح شعارات دينية خالية من كل مدلول سياسي؛ بحيث تتلاقى الدعاية السلفية المنفرة من السياسة مع تمثلاث الجمهور حول الممارسة السياسية والتي تقترن في أذهان الطبقات الشعبية بالغش والإفلاس والفساد؛ مما يدفع السلفيين إلى عدم الاهتمام بالانتخابات وعدم التصويت أو الترشح، سواء باسم أو لصالح الإسلاميين أو غيرهم. السلفيون والانتخابات سنتحدث هنا عن السلفية ليس باعتبارها حركة اجتماعية منظمة، ولكن كأفراد فاعلين تقدموا للمشاركة في الانتخابات، سواء بالترشح أو من خلال التصويت بصفتهم الشخصية، لكن تجدر الإشارة إلى أن المرشحين الذين وقفنا عليهم من خلال هذا البحث لم يترشحوا لهذه الانتخابات بصفة إرادية، بل تم استقطابهم من طرف فرع حزب العدالة والتنمية بمراكش قبيل الانتخابات بقليل، فنظرًا لمعرفة حزب العدالة والتنمية المسبقة بالمواقف المبدئية للتنظيمات السلفية الرسمية للعمل السياسي بشكل عام، ورفضهم للانتخابات كآلية سياسية بشكل خاص، وعدم تسجلهم أصلا في اللوائح الانتخابية، لم يتجه فرع حزب العدالة والتنمية بمدينة مراكش في حملته الانتخابية بمناسبة الانتخابات التشريعية 2007 بفعلة الدعائي نحو التيارات السلفية المتواجدة في هذه المدينة، فلم تكن هناك حوارات مع هذه التيارات، ولم يعول عليها لمده بقاعدة انتخابية، لكنه يمكن القول إن بعض مناضلي الحزب نجحوا في استقطاب العديد من الأشخاص ذوي التوجهات السلفية ليكونوا جزءا من الهيئة الناخبة المتعاطفة مع مرشحي الحزب، فقد طور المناضلون الإسلاميون علاقات جيدة مع هؤلاء وغيرهم بفضل إستراتيجية الحزب القائمة على التواصل مع المواطنين وأدائهم داخل المجالس المحلية المنتخبة، وما نتج عن ذلك من إشعاع أقنع بعض السلفيين بالمشاركة في التصويت بصفتهم الشخصية، كما وجد السلفيون المستقطبون في المعتقد السلفي الذي يعتنقه الإسلاميون، والذي يمثل -للإشارة- معتقد معظم الجماعات والتنظيمات التي تتنازع الساحة الدعوية في المغرب، وجدوا فيه عاملا مشجعا على تأييد الحزب في سباقه الانتخابي. وعلى صعيد الترشح لم يسجل الحزب إقبالا من طرف الحساسيات السلفية على الترشح؛ إذ لم نقف سوى على حالة واحدة، بحيث تشرح أحد السلفيين كنائب أول ثم كيل لائحة حزب العدالة والتنمية في الدائرة الانتخابية الأولى (المدينة- سيدي يوسف بن علي)، وقد زكاه الحزب اعتبارًا لأخلاقه الحسنة، ولشعبيته في تلك الدائرة، وإيمانه بالعمل السياسي، على عكس ما هو معروف عن التيارات السلفية من معاداة مبدئية للنشاط السياسي، كما عول عليه وكيل اللائحة المعنية لزيادة حظوظ لائحته في الفوز بمقعد انتخابي، علما أن هذا المرشح السلفي غير منخرط في أي من هذه التيارات، بل اتخذ السلفية معتقدا بناء على قناعاته الشخصية، ومن خلال كثرة اطلاعه على الكتب والأشرطة المرئية والمسموعة الحاملة للمذهب السلفي. إن إعراض التيارات السلفية العاملة في ساحة الدعوة بمراكش قد يفسر بشكل كبير فشل مرشحي حزب العدالة والتنمية في المدينة في الفوز بأي من المقاعد الثلاثة المخصصة للمدينة؛ إذ إنه ساهم في حرمان الحزب من قاعدة انتخابية مهمة كان من الممكن أن تساهم في ولوج هؤلاء المرشحين إلى البرلمان، خصوصا وسط الطبقات الشعبية التي تعتبر سوقا استقطابية سلفية بامتياز. لقد كان بإمكان أتباع التيارات السلفية -في حالة مشاركتهم- تذليل الفارق القليل من الأصوات التي فصلت بين مرشحي الحزب الثلاثة ومرشحي الأحزاب الأخرى الفائزين؛ حيث كان مرشحوه يردون مباشرة بعد المرشحين الفائزين وبفارق قليل من الأصوات في ترتيب اللوائح. الدائرة الانتخابية الأولى: المدينة- سيدي يوسف بن علي إن إحجام التيارات السلفية عن التصويت لفائدة مرشحي فرع حزب العدالة والتنمية بمدينة مراكش لا يفسر وحده فشل هؤلاء المرشحين في الحصول على أي مقعد برلماني، فلا يعدو ذلك أن يكون عنصرًا من ضمن عناصر أخرى أسهمت في الفشل الذريع للحزب في المدينة، ومنها ما ذكرته بيانات الحزب عقب الإعلان عن النتائج الانتخابية (استعمال المال- شراء الأصوات- الحياد السلبي للإدارة- التلاعب بالبطائق الانتخابية)، ومنها ما يتعلق بالتقطيع الانتخابي الذي أدمج عدة جماعات قروية ضمن الجماعات الحضرية داخل الدوائر الانتخابية الثلاث لمدينة مراكش؛ وهو ما قلص من حظوظ الحزب في الفوز باعتباره حزبا حضريا بامتياز، كما بينت ذلك النتائج الانتخابية العامة. * باحث فيجامعة الحسن الثاني، الدارالبيضاء، المغرب. إسلام أونلاين.نت