تعرض القنوات التلفزية المغربية خلال شهر رمضان العديد من الإنتاجات والبرامج المتنوعة، من سيتكومات ومسلسلات وأفلام ، وذلك بغية جدب المشاهد الذي عادة ما يقبل خلال هذا الشهر الفضيل ، بشكل متزايد، على استهلاك هذا المنتوج التلفزي الرمضاني. وإذا كان هذا الإنتاج التلفزي، وخاصة خلال رمضان، قد عرف خلال العقد الأخير، نموا مطردا على المستوى الكمي، بارتفاع عدد المسلسلات والأفلام والسيتكومات الوطنية المقدمة ضمن مختلف برامج القنوات الوطنية، مع تزايد شركات الإنتاج وظهور نخبة جديدة معتبرة من المخرجين والممثلين المغاربة الشباب الذين يؤثثون المشهد رفقة أسماء فنية مخضرمة، فإن سؤال الجودة والقيمة الفنية ما يزال مطروحا وقائما، بالنظر إلى الطبيعة والمستوى الجمالي والإبداعي "المتواضع" لهذه الأعمال التلفزيونية.. وقد دأبت الصحافة بمختلف أنواعها، خلال كل موسم رمضاني أساسا، على تخصيص حيز كبير من مقالاتها وتقاريرها واستطلاعاتها الصحفية، لتوجيه نقد قوي للمستوى الفني لهذه الأعمال، التي "تفتقد إلى الجرأة في التناول ، والرؤية الفنية وضعف الحبكة والحوار والتنامي السردي، والسلاسة والانسجام بين عناصر ومقومات العمل الفني الناجح، من قصة وحوار وسيناريو وإخراج..."، بالرغم من وجود مواهب في مجالي التمثيل والإخراج على وجه الخصوص.. وحسبنا في هذه الإطلالة القصيرة، الوقوف على بعد آخر لم يتم التطرق إليه على ما يبدو إلا لماما، يهم أحد مقومات العمل الفني الناجح، والمتمثل في تحقيقه لرهان الجمع بين المتعة والفائدة، من خلال تمثل إبداعي وجمالي للواقع والتاريخ والعصر..وهو العنصر الغائب في المشهد الدرامي التلفزي الوطني. فإذا كان نجاح أي عمل فني ينهض على التوليفة التي تجمع بين فرادة الحكاية وحبكة السيناريو ومهنية الإخراج وسحر الأداء والتمثيل، فإن براعة هذا العمل لا تكتمل إلا بمستوى قدرته على ترجمة وتصوير وتجسيد واستشراف تطلعات وآمال وخيبات ورهانات فترة زمنية أو حضارية أو تاريخية معينة ، وملامسة قضايا الإنسان وهمومه ، بعيدا عن النقل الآلي والكاريكاتوري البخس...وتلك المقومات الجمالية هي ما يجعل من بعض الأعمال الفنية المتفردة تحفة فنية ووثيقة خالدة، يمكن من خلالها التعرف على خصوصيات مرحلة من المراحل التاريخية وحضارة وثقافة أمة من الأمم.. لقد تربعت مصر على عرش الدراما التليفزيونية في الوطن العربي منذ ستينيات القرن الماضي وإلى حدود عقد الثمانينيات، قبل صعود الدراما السورية منذ منتصف التسعينيات، وكلاهما ، مع اختلاف التجارب ورهاناتها الفنية والجمالية، انفتحتا على الواقع والتاريخ والتراث والأسطورة والحكايات الشعبية والسير الذاتية ، وشكلتا بذلك وثيقة وشهادة على العصر ، ومرآة عاكسة لأهم الأحداث والمراحل التاريخية الانعطافية التي ميزت الوطن العربي. وفي هذا المنحى أنتجت الدراما المصرية الكثير من الأعمال الفنية الشهيرة التي تصور تحولات الواقع، وترصد معالم التاريخ المصري القديم والمعاصر ، وتنفتح على قضايا المجتمع والناس، من قبيل "ليالي الحلمية" للمؤلف أسامة أنور عكاشة، و"بوابة الحلواني" و"سرايا عابدين" و"حارة اليهود" و"ليلة سقوط غرناطة" و"نابليون والمحروسة" و"موسى بن نصير" و"هوانم غاردن سيتي" و"الأيام" و"أم كلثوم" و"العندليب-حكاية شعب"، وقبل ذلك العديد من الأعمال الدرامية التاريخية والدينية كمسلسل "محمد رسول الله" و"فجر الإسلام" و"على هامش السيرة". قبل أن تقتحم هذا الميدان الدراما السورية بطريقة جديدة في الإخراج لم يعتد عليها المشاهد العربي الذي تربت ذائقته التليفزيونية على المسلسلات المصرية، وذلك من خلال تحويل التاريخ إلى مادة درامية معاصرة تماما في إشكالياتها الراهنة وإسقاطاتها السياسية على الواقع العربي في مشهده الحديث، أو الدراما الشامية التي تنقل تفاصيل الحارات والأحياء الشعبية القديمة إلى الشاشة، حيث شكل مسلسل "باب الحارة" باجزائه المتعددة المثال الأبرز في هذا المجال. وتميزت هذه الدراما بارتباط الفن بالمعاصرة والاشتغال على هموم الإنسان والقضايا الوطنية، وحضور ذلك الثراء اللوني المدهش في المشهد ، وتلك اللغة البصرية المشبعة فنيا، حيث كانت البداية بمسلسل "نهاية رجل شجاع" الذي أخرجه نجدة إسماعيل أنزور، الذي يعتبر دراما تاريخية بملامح معاصرة، تتناول حقبة الاستقلال في سوريا، مرورا بالأعمال التليفزيونية الفانتازية حيث يختلط التاريخ بالأسطورة، ويبدو الراهن مجسدا على الشاشة عبر إسقاطات واضحة رغم أنها تلبس لبوس الماضي (الفوارس-البواسل-الكواسر) و"عبابيد" و"أبو زيد الهلالي" و"الحجاج" و"الظاهر بيبرس" علاوة على الدراما التاريخية ، ومن بين أعمالها الآسرة، رباعية الأندلس ، التي اعتبرها النقاد ، السلسلة الأضخم "فكرياً وتاريخياً وأدبياً" في تاريخ الدراما والسينما العربية بالمجمل، والتي تتضمن "صقر قريش-ربيع قرطبة-ملوك الطوائف-سقوط غرناطة" علاوة على أعمال أخرى من قبيل "المرابطون والأندلس" " و"صلاح الدين" و"الظاهر بيبرس"، و"خالد بن الوليد" و"القعقاع بن عمرو التميمي" و"عمر".. وإذا كان هذا هو الحال في مصر وسوريا، فإن الدراما التليفزيونية المغربية تخلفت عن الركب، ولم تتحول بعد إلى ذلك الأفق الإبداعي الذي يشكل صورة فعلية وحقيقية للمجتمع المغربي والتطورات والتحولات التي يعيشها المغاربة، وظلت مجرد تجارب فنية "هشة "، تهيمن عليها موضوعات ومجزوءات اجتماعية نمطية تفتقد ، إلى جانب الرؤية والجودة الجمالية، القدرة على التوظيف الفني والجمالي للتاريخ والواقع بكل حمولاته في أعمال درامية جديرة بالمتابعة خاصة خلال شهر رمضان. لذلك جاءت هذه الأعمال بكماء خرساء مقعرة، لا لون لها ولا مذاق فني، كأنها تنمو في مقابر لا حياة فيها، وليست داخل بيئة مجتمعية تتفاعل مع محيطها المحلي والإقليمي والدولي، وكأن المغرب لا تاريخ ولا حاضر ولا مستقبل له، وكأن هذه البلاد لا حضارة ولا ثقافة ولا هوية لها، ولم تشهد أحداثا ولا وقائع تاريخية ولا سياسية ولا إنسانية، وكأنها تعدم وجود شخصيات وقادة في كل الميادين..وبذلك ظل التاريخ المعاصر والوسيط والقديم للمغرب مجهولا فنيا، وغير متناول من قبل هذه الدراما الهجينة. والمؤسف أن المنتوج الدرامي التليفزيوني الوطني يكاد يتشابه في ملامحه الفنية المبتذلة، حيث غالبا ما يأتي مفككا، يفتقد إلى الرؤية الفنية المتكاملة، وتهيمن عليه الثرثرة والسخرية التافهة والابتذالية في التناول والمعالجة، والأدهى افتقاره إلى الخلفية الإبداعية والثقافية والفكرية التي تمكنه من فهم واستيعاب متطلبات العمل الفني الناجح، ومن مقدمتها الانفتاح، من منظور جمالي راق، على العصر وقضايا الإنسان والبيئة التي يحيا داخلها ويتطور فيها..من منطلق كون الحقيقة الفنية هي حقيقة إنسانية.. هذا الواقع الدرامي التلفزي لم يتمكن بعد من التأسيس لهوية فنية وجمالية مغربية توظف الوسائل الفنية والتعبيرية والتقنية الحديثة، وتشتغل على التاريخ والتراث والواقع السياسي والاجتماعي المعاش، والمؤسف أن يكون جمهور الأعمال "الغثة" أكثر حضورا وتفوقا على جمهور الأعمال "الجيدة".. لكل ذلك ، لم تتحول الثقافة والفن بعد إلى صناعة ثقافية، بل يتواصل نفس المشهد اعتمادا على صناديق الدعم والمال العمومي دون استراتيجية واضحة ورؤية ناظمة تجعل من الثقافة أداة حاسمة ومحركا للتنمية الكتكاملة، وتطوير بنيات المجتمع وثقافته ووعيه الحضاري...والمحرج أن نشاهد الآخرين هم من يتناولون تاريخنا وحضارتنا دون أن يرف لنا جفن،كما حدث حين أبدع المخرج حاتم علي، من خلال أعماله المتفردة، تاريخ الأندلس، وهو ما أعطى للمغرب إشعاعا واسعا، بل ودعاية سياحية مجانية. وأذكر أنه بعد فترة عرض هذه الأعمال، زرت ضريح المعتمد بن عباد بقرية أغمات المغمورة، وقد ورد إسم هذا الأمير والشاعر ضمن أحداث هذا المسلسل كشخصية محورية، ولم يكن مدفنه حينها معروفا سوى عند خاصة الخاصة، وأفادني محافظ الضريح بأن المنطقة شهدت إقبالا متزايدا بعد بت حلقات هذا المسلسل الشيق.لكن للأسف كانت المنطقة ، وربما ما تزال، تفتقد لمؤهلات وبنيات تحتية للاستثمار في السياحة الثقافية..فتصورت حينها لو كان هذا المزار في إسبانيا التي تولي أهمية كبرى للتراث الحضاري العربي والإسلامي ، وتخصه بعناية فائقة، خاصة وأنه يشكل موردا سياحيا هائلا لهذا البلد الإيبيري الجار.. غياب استراتيجية لتطوير العمل الفني والثقافي من منظور ديمقراطي وتنموي، والاحترازات السياسية والرقابة الذاتية عوامل تحول دون تحقيق دراما تنتمي إلى العصر، وتتنسم تراب البلد، وتجسد آلام وتطلعات الناس..وترصد تنوع بيئتهم الحضارية والتاريخية.