بعد الراحل عبدالرحمان اليوسفي، تفقد الساحة السياسية والبرلمانية عموما، والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية خصوصا، أحد الوجوه النضالية والسياسية والبرلمانية البارزة، ويتعلق الأمر بالأستاذ عبدالواحد الراضي، الذي ترجل عن صهوة الحياة، بعد مسيرة سياسية ونضالية طويلة، تجاوزت عتبة الستة عقود من الزمن، جعلت من الرجل يشكل تراثا وطنيا متحركا، اعتبارا لما تحمله من مسؤوليات حزبية وسياسية وبرلمانية ونضالية وحقوقية وجامعية وجمعوية، جعلته "شاهد عصر" على المغربين: مغرب الحماية وما شهده من نضال متعدد الزوايا في سبيل نيل الحرية والاستقلال، ومغرب الاستقلال وما قطعه من أشواط في سبيل بناء دعامات الدولة المستقلة الحديثة، وما مر به من منعطفات سياسية وحقوقية وتشريعية وإصلاحية وتنموية؛ رجل لم يكن فقط شاهد عصر على المغرب المعاصر والراهن، بل شكل إحدى الشخصيات البارزة في تاريخ الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ليس فقط لتاريخه السياسي والنضالي الطويل، بل ولما انفرد به من صفات شخصية، حملت عناوين "المسؤولية" و"الرصانة" و"التقدير" و"التبصر" و"الحكمة"، والابتعاد عن المعارك السياسوية عديمة الجدوى، ويكفي قولا، أنه انسحب من المشهد السياسي بصمت على غرار رفيقه في النضال الراحل عبدالرحمان اليوسفي، وظل خارج أضواء السياسة وما تحمله من لغط وجدل، إلى أن ترجل عن صهوة الحياة كما ترجل قبله سي عبدالرحمان اليوسفي؛ بين "الراضي" و"اليوسفي"، حضر مفهوم "رجل الدولة"، الذي يعني في شموليته "المسؤولية" و"الوطنية" و"الحكمة" و"الاتزان" و"نكران الذات" و"الوفاء" و"الالتزام" ، وهذه الصفات والخصوصيات وغيرها، بات من الصعب الإحاطة بها مجتمعة، في مشهد سياسي مرتبك، بات رهينة الحسابات السياسوية الضيقة والمصالح الانتخابية الوضيعة، وما يرتبط بذلك، من لغط وجدل ومعارك خفية ومعلنه وأنانية مفرطة، ومن استعلاء واستقواء، وغير ذلك من الممارسات التي تكرس العبث السياسي، وتقوي الإحساس بفقدان الثقة في الأحزاب السياسية والعمل السياسي؛ ولايمكن أن ندع الفرصة تمر، دون الإشارة إلى أننا، خصصنا للرجل مقالا سابقا نشر في عدد من الجرائد الورقية والإلكترونية تحت عنوان "عبدالواحد الراضي .. تراث وطني"، تم من خلاله استعراض سيرة الرجل بناء على مساره النضالي والسياسي والحقوقي والجمعوي اللافت للنظر، وعبر هذا المسار، نبهنا إلى قيمة وثراء التراث الأرشيفي للراحل، وتركنا رسالة مفتوحة إلى المعني بالأمر وأسرته، بضرورة ربط جسور تواصلية مع مؤسسة أرشيف المغرب، لتدارس إمكانية ائتمان المؤسسة الأرشيفية على هذا التراث لما فيه من نفع عام، ومن إسهام في إثراء التراث الأرشيفي الوطني، وكما كان متوقعا، فقد تحقق المأمول من الرسالة، بعدما دخلت أرشيف المغرب على الخط في شخص مديرها الدكتور جامع بيضا، الذي فتح جبهة تواصلية مع الراحل وأسرته، كان من ثمارها، أن ارتأى الرجل/الراحل بتاريخ 21 فبراير المنصرم، أن يأتمن المؤسسة الأرشيفية الوطنية على أرشيفاته الخاصة، وكان من المرتقب، تنظيم حفل التوقيع على اتفاقية تسليم هذا التراث الأرشيفي بين الأستاذ عبدالواحد الراضي من جهة، ومؤسسة أرشيف المغرب ممثلة في مديرها الدكتور جامع بيضا من جهة ثانية، وذلك في بداية شهر يونيو القادم، تزامنا مع الأسبوع العالمي للأرشيف، لكن الموت عجل برحيل الرجل دون أن يعيش لحظة التوقيع ولحظة الاطمئنان على أرشيفاته الخاصة وهي تستقر في أحضان "أرشيف المغرب" آمنة ومطمئنة؛ لكن، وإن حال الموت دون حضور حفل التوقيع على اتفاقية تسليم أرشيفاته الخاصة، فسيسجل التاريخ للرجل، أنه اتخذ في أواخر حياته، قرار ائتمان المؤسسة الأرشيفية على ما يتحوز به من تراث أرشيفي، في مبادرة مواطنة، من شأنها الإسهام في إثراء التراث الأرشيفي الوطني، ووضع كل ما راكمه من أرشيفات خاصة، طيلة مساره النضالي والسياسي والحقوقي والبرلماني والجامعي والجمعوي الطويل، رهن إشارة القراء والباحثين والمهتمين في إطار الحق في المعلومة، وبهذه المبادرة، حدا "سي عبدالواحد" حدو رفيقه في النضال "سي عبدالرحمان"، الذي أوصى قبل وفاته، أن توضع أرشيفاته الوثائقية رهن إشارة "أرشيف المغرب" وأرشيفه المادي تحت تصرف "متاحف المغرب"؛ وقبل الختم، لا يسعنا إلا توجيه رسالة مفتوحة إلى رجالات الفكر والعلوم والسياسة والثقافة والموسيقي والإبداع والفنون، ممن يملكون أرشيفات خاصة ذات نفع عام، بالمضي قدما في اتجاه "ائتمان" أرشيف المغرب عليها، ليس فقط، من باب الإسهام في إغناء وإثراء التراث الأرشيفي الوطني، بل وحتى يعيشوا لحظة التوقيع ولحظة الاطمئنان على أرشيفاتهم وهي تستقر في أحضان أرشيف المغرب، وهي اللحظة التي كان يترقبها الفقيد عبدالواحد الراضي بداية شهر يونيو المقبل، لكن الموت عجل برحيله إلى دار البقاء، على أمل أن تصل الرسالة إلى "الغافلين" و"المترددين" أو حتى "الممتنعين"، وإذ نوجه الرسالة إلى المعنيين بالأمر، ننوه بكل رجالات الفكر والعلوم والسياسة والثقافة والموسيقي والإبداع والفنون، أو ورثتهم، الذين لم يترددوا في ائتمان أرشيف المغرب على ما يتحوزون به من أرشيفات خاصة، كما بادر الفقيد "الراضي"، وقبله الراحل "اليوسفي" رحمهما الله، عسى أن يحدو حدوهما باقي الفاعلين السياسيين، الذين لازالوا يتموقعون فيما يشبه "المنطقة الرمادية" في تعاطيهم مع المسألة الأرشيفية ... ونختم بالقول، لايمكن إلا الترحم على الفقيد "عبدالواحد الراضي"، راجيين من الله عز وجل أن يشمله بواسع الرحمة والمغفرة، مقدمين خالص العزاء وعظيم المواساة، إلى جميع أفراد عائلته وأصدقائه وزملائه وطلبته، وإلى أسرة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، التي فقدت واحدا من شخصياتها التاريخية البارزة بعد الراحل عبدالرحمان اليوسفي، وإنا لله وإنا إليه راجعون .. وداعا عبدالواحد الراضي .. ستبقى أرشيفاتك الخاصة داخل أرشيف المغرب، دالة عليك وعلى مسارك الحياتي اللافت للنظر...