اهتم الإنسان منذ ظهوره على وجه الأرض بما يضمن له السيطرة على الطبيعة ويجنبه الاصطدام مع بني جلدته، طامحا إلى حياة أمنة ومترفة؛ فاخترع الآلات وسن القوانين وصاغ النظريات في أنظمة الحكم وفي شتى العلوم والفنون. ولما نشأت المستعمرات البشرية، كانت الحاجة ملحة للتواصل، فطوَّع من أجل ذلك الساكن والمتحرك، وهكذا حمَّل الحمائم الرسائل وسَخر النار والحجر للغاية نفسها. ولأنه ينزع دائما نحو الكمال، لم يرتح له بال ولم يكتف بما اكتشف وواصل المسعى إلى أن أتى بتكنولوجيا الاتصال والتواصل واكتسح بها العالم وأصبح ما كان ينتظر وصوله بوسائل بدائية شهورا يأتيه طائعا خانعا بلمسة شاشة. مع مرور الزمن، اتخذ هذا التواصل أبعادا أخرى ولم يعد يقتصر فقط على نقل خبر معركة وشيكة أو خطر فيضان قادم مثلا، وتعداه إلى حياة قائمة بذاتها داخل جهاز لا يكاد يخلو منه بيت، يتوفر على أحدث البرمجيات، ولم يعد الهاتف أو ما يقوم مقامه مقتصرا على البالغين فقط، بل بات لصيقا بالأطفال، ينمو بجانبهم، يرافقهم ساعة بساعة، ويوما بيوم، وسنة بسنة، يكتشفهم ويكتشفونه. بيد أن هذا الإنسان المسكون بالطبيعة، وإن زعم العكس، أصيب بالاغتراب وشح المشاعر والعواطف كلما زاد في التواصل الافتراضي جرعة. وبات من جهة أولى، يصارع حاجاته الطبيعية إلى علاقات طبيعية وجها لوجه يستأنس بها وتُبدد شعوره بالتيه وسط عالم مشبع بعلامات ورموز، هذا إذا استدعينا نظرية العلامات لدى فرديناند دو سوسور (Ferdinand de Saussure) إلى العالم الافتراضي. علامات ورموز رغم تأثيرها القوي على دماغ الإنسان حد الإدمان أحيانا، لكنها لا تشفي بالضرورة غليل حميميته ككائن اجتماعي بالأساس. ويصارع من جهة ثانية، هاجس الخوف من هذا التواصل الحقيقي الذي بدأ يغترب عن قواعد ضبطه. حيث تحوّل العالم الافتراضي تدريجيا إلى نموذج يفرض سطوته على الواقع الحقيقي وانقلبت العلاقة التقليدية، وبتنا أمام حالة من اضمحلال الواقعي لصالح الافتراضي، ولن يعجز أي أحد عن ضرب الأمثلة، ويكفي أن نتأمل مآل تطبيق مثل: "تشات ج ب ت (Chat gpt)"، ونستشف تأثيراته الآنية والمستقبلية. ولنلقي نظرة على بعض المرئيات التي تحمل عنفا يتجاوز القيم الكونية، ويوحي بأن الإنسان المعاصر لم يعد يفرق بين الخيال والواقع وكأننا أمام كائن غير بشري، آلي منزوع المشاعر والإحساس. لقد رسخت وسائل العالم الافتراضي عموما ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص شعورا جديدا بالقبول الاجتماعي، أُختزل في عدد التفاعلات مع منشور ما (تدوينة، صورة...) والمتابعين للمستخدم. هذا النوع من القبول الوهمي لا ينطبق بالضرورة على الواقع الحقيقي، مما يجعل المرء يشعر بالاغتراب والعزلة، تقودانه إلى النفور من العلاقات التقليدية، فيرتمي في حضن كل ما هو افتراضي لترميم ذاته المتشظية بين عالمين موازيين، متكاملين نظريا. نحن أمام شكل من التواصل غني في مظاهره، فقير في جوهره ولا يمكنه أن يقوم مقام محادثة طبيعية بين شخصين، أو يجلب لنا النزر اليسير من تلك المشاعر والأحاسيس التي تغمر أما وأحد أبنائها وهي تضمه إلى صدرها. هناك إذن تحول تدريجي للذات البشرية إلى ذات افتراضية، سيزداد حدة مع العصر الجديد من تكنولوجيا الاتصالات والتواصل؛ الويب 3 (Web 3.0) والمتافيرس (metaverse) وغيرها من الاختراعات المتسارعة التي بالكاد نستوعب إيجابياتها قبل سلبياتها حتى تطل علينا أخرى تسلب من إنسانيتنا لتضيف إلى افتراضيتها. من هنا يمكننا أن نتساءل: هل نسير بأبصار شاخصة ورؤوس مطأطئة إلى نقطة اللاعودة في علاقتنا مع تكنولوجيا مفرطة في تواصلها؟ أم أن المسألة لا تغدو كونها موجة أعجبنا بها وسرعان ما نصل إلى مرحلة الإشباع وننتفض من أجل ذواتنا ونعود إلى حالتنا الأولى؟